الغضب لله ودينه.. الحروب المسيحية والإسلامية بعيون ابن خلدون
إعداد عمران عبدالله
يشيع القول في الأزمنة المعاصرة إن “الدين هو السبب في جميع حروب التاريخ الكبرى”، إذ يستدعي أطراف الحرب الدينية الإله في صفهم، لكن تحليل الحروب الدينية و”المقدسة” عند المؤرخ العلامة ومؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن ابن خلدون (732 – 808هـ) يضع هذه المقولة في مرمى النقد، إذ يراها ظاهرة طبيعية وتاريخية ويميز بين أنواعها، مشيرا للدوافع المركبة والمتشابكة لها.
وحافظ ابن خلدون على رؤيته العالمية للتاريخ وأحداثه، ومن ثم كان تناوله للحرب والقتال غير تقليدي ولا يشبه تناول الفقهاء في عصره، إذ حافظ على منظور المؤرخ ودارس العبر، وكانت الحرب حاضرة في حياة ابن خلدون كما في كتاباته، ومع ذلك كتب عن الحرب الدينية عند المسلمين وعند المسيحيين.
ويدور الجدل في أوساط بحثية عن مدى اعتراف ابن خلدون بحروب دينية غير إسلامية وتحديدا الحروب الصليبية التي كتب عنها ابن خلدون سردا لوقائعها وتحليلها في مؤلفه الكبير “كتاب العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
الحرب حالة بشرية
تعامل ابن خلدون بواقعية تاريخية مع ظاهرة الحرب باعتبارها حالة بشرية متكررة وطبيعية وكتب في مقدمته “اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل”.
ورغم كونه أحال سبب الحرب لرغبة “الانتقام” لكنه فصّل في دوافعها قائلا “… وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة وإمّا عدوان وإمّا غضب لله ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده”.
وأضاف “فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك رتبة ولا ملك وإنّما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم، والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها”.
وبعد هذا التصنيف الذي قسّم فيه الحروب لأربعة أنواع، علّق عليها من الناحية الأخلاقية قائلا، “الصنفان الأولان منها (الغيرة والمنافسة، والعدوان) حروب بغي وفتنة والصنفان الأخيران (الغضب لله ودينه، والغضب للملك والسعي في تمهيده) حروب جهاد وعدل”.
وأضاف محللاً الإستراتيجية العسكرية “وصفة الحروب الواقع بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين، نوع بالزحف صفوفا ونوع بالكر والفر، أمّا الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأمّا الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب”.
وهكذا يعيد ابن خلدون اختصار الأصناف الأربعة لنوعين فقط (هما البغي والفتنة، أو الجهاد والعدل)، مبررا من الناحية الأخلاقية للصنف الأخير منها بمعايير واضحة، تتضمن مقابلة أخلاقية من ناحية ومشروعية واقعية من ناحية أخرى.
مفهوم متعدد الثقافات
وفي بحثه بعنوان “الحرب الدينية عند ابن خلدون كمفهوم متعدد الثقافات” يحاول الأكاديمي والباحث بجامعة مدريد المستقلة خافيير الباران إجراء مقارنة بين مفاهيم “الحرب المقدسة” في الإسلام والمسيحية من خلال مصادر إسلامية، ويدرس ما إذا كان من الممكن داخل الإسلام تصور الحرب التي شنها المسيحيون (أو غير المسلمين) باعتبارها حربا مقدسة كذلك أو “غضبا لله” بتعبير ابن خلدون.
وكما نعرف من سيرته، كانت لابن خلدون تجارب كثيرة في الحرب، إما أثناء عمله في بلاط حكام شمال أفريقيا ولا سيما بنو حفص، عندما أجبره أبو العباس المستنصر الحفصي (تولى أمر الدولة الحفصية في 772هـ واستمر حتى وفاته في 796هـ) على الخروج معه لفتح توزر (واحة صحراوية جنوب تونس الحالية)، وذهابه للقاء القائد المغولي تيمورلنك، ويرى الباران أن تحليل كتاب العِبَر لابن خلدون يفيد كثيرا في دراسة ارتباط الحرب بالأديان المختلفة.
وبالنسبة لابن خلدون فإن الطابع الديني يفيد الجيوش بتقليل الخلافات بين أفرادها وتعزيز الشعور بالتماسك والرغبة في البذل والتضحية بدلاً من الخوف من الموت، ويضرب المثل بمعارك المسلمين في القادسية واليرموك، معتبرا أن عرب الخلافة الأولى كانوا قادرين بفضل الطابع الديني المتماسك على هزيمة جيوش أكثر استعدادا وقوة، وكذلك كان الموحدون (أتباع ابن تومرت) في شمال أفريقيا.
وهكذا يصبح الدين ليس فقط خطابا مبررا للحرب، وإنما قوة اجتماعية تعزز “العصبية” -(من العصبة وهم مجموعة الأفراد المتلازمين دائما الذين تجمع بينهم رابطة الدم أو الولاء أو الحلف لضمان التفاعل)- وهو مفهوم رئيس عند ابن خلدون والقوة الدافعة الأساسية للمجتمع والتاريخ.
باختصار ترى النظرية الخلدونية أن الحرب من أجل الدين ليست عادلة فحسب، ولكن أيضا بفضل التماسك والدافع الذي يولده الخطاب الديني، من المرجح أن تكون سببا للنصر، بحسب الباران.
وبينما يرى ابن خلدون الحروب الظالمة هي تلك التي تُمارس فقط للإذلال والقهر والهيمنة -وعلى الرغم من أنه لا يبالغ في استخدام مصطلح الجهاد كثيرا- فإنه يصف المقاتل الذي يخوض الحروب العادلة التي سبق تعريفها بالمجاهد، إذ يتم اعتبار هذا المقاتل مثالا أخلاقيا للتضحية من أجل الأمة. وعلاوة على ذلك، في وصفه للحاكم المثالي، تظهر قدرته على قيادة الجهاد باعتباره أحد الشروط.
صفات أمير المؤمنين
وخصص ابن خلدون الفصل 32 في مقدمته للتعريف بسمات أمير المؤمنين وصفاته، وفي المقابل عقد الفصل التالي لشرح اسم ودور “البابا والبطرك في الملة النصرانية، واسم الكوهن عند اليهود”.
لكنه اعتبر في ذلك الفصل أن “ما سوى الملة الإسلامية لم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلا في المدافعة فقط، فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك”.
ويضيف “وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم”، وبذلك لا يوجد مجال لتبرير الحرب مسيحيا بسبب انفكاك العلاقة بين السلطة الروحية والزمانية أو بين البابوية والإمبراطورية كما وصفها ابن خلدون.
ولكن عصره حمل تساؤلا مهما، عن كيفية النظر للحروب الصليبية التي جرت في زمان ومكان قريب لعصره، إذ يروي ابن خلدون، في فصلين من كتابه “المقدمة” بالتفصيل غزو القدس خلال الحملة الصليبية الأولى ودور السلاجقة والفاطميين حينها، مشيرا إلى حقيقة أن توسع الفرنجة لم يمتد فقط على طول الأراضي المقدسة فحسب، ولكن أيضا على امتداد مناطق أخرى من البحر المتوسط، مثل جزيرة صقلية.
ويذكر كذلك كيف تلقى الصليبيون مساعدة من الإمبراطور البيزنطي لعبور مضيق البوسفور وكيف قتلوا سبعين ألف شخص أو أكثر في الأراضي التي غزوها.
النظرية والتطبيق التاريخي
ويرى الباران أن هناك فرقا واضحا بين “نظرية التاريخ” لابن خلدون في “المقدمة”، حيث يطور مفهومه عن الحرب المقدسة باعتبارها نظرية مطلقة (لا يربطها بالضرورة بالإسلام) وبين النظر في “الممارسات التاريخية”، فهو يتناول الحروب الصليبية من خلال مفاهيم تحليلية مثل “تماسك الصليبيين الذي سمح بانتصارهم على المسلمين المتفرقين” و”الهدف الديني للحروب الصليبية للاستيلاء على أماكن العبادة المقدسة” وأيضا تحليله للعلاقة الوثيقة بين السلطة الروحية والزمانية عبر تحليل علاقة البابا بالقادة السياسيين والعسكريين.
وعليه يرى الباران أن ابن خلدون يأخذ في الحسبان بالفعل وجود حروب دينية مسيحية وتبرير ديني للتوسع الصليبي بالسلاح، وبينما يتناول تحليله النظري الإسلام فحسب، لكنه في التحليل الواقعي لأحداث الحروب الصليبية يجعله وثيق الصلة بالمفهوم الديني، بحسب الدراسة المنشورة حديثا في مجلة عالم القرون الوسطى التاريخية.
ومع ذلك لم يقر ابن خلدون -بطبيعة الحال- الحرب المقدسة المسيحية التي شنها الصليبيون ضد المسلمين، أي لم يعتبرها حربا عادلة، وفي مواضع أخرى من “المقدمة” يرى ابن خلدون أن الحملات الصليبية كانت حملات توسع وحربا دينية.
(المصدر: الجزيرة)