بقلم يسري المصري
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن وسائل دعاة التغريب، ورماح الغزو، والغارات الفكرية التي تستهدف شباب وفتيات هذه الأمة المسلمة، وبدعاوى واهية، فتارة دعوة للتحرر، وأخرى للقبول بالآخر، وأخيراً حوار الحضارات والقوى الغربية، لتصل جميع هذه الجهود لحالة من الفكر المنتظم، والمحدد، والدقيق في أسلحته ووسائله وجنوده ودعاته، وكل دور له فريق، وكل فريق له قائد، وتشعر كأنك أمامك حرب منظمة، غير أنها لا تستخدم رصاصاً، بل تزييف في المعلومات، وتجريف للعقول، حتى تصبح الأفهام هشّة لا أمل فيها.
لكن وبرغم هذه الآلام، لن نتخلى عن الآمال، ولن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الهجمات التتارية الفكرية، بل سنظل ندافع عن هويتنا، ونفضح مخطط هؤلاء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولن نبخل بجهد، أو قلم في تبصير أمتنا، والأخذ بكافة سبل إفشال مخطط هؤلاء، حتى تستقيم العقول على مراد الله، ومراد رسوله.
والسؤال اليوم: كيف نُفشل هذه الغارات الفكرية، وهذا الغزو الفكري الموجهة ضدنا؟
والجواب: أن إفشال هؤلاء وإبطال سعيهم يكمن في الأمور الآتية:
أولاً- دور المحضن الأول:
البيت المسلم هو المحضن الذي يؤسس لإنسان صالح، يزرع كل عوامل الإيمان، يُعلّم الأبناء الصلاة، يغرس فيهم القيم من الصغر، وهذه مثبّتات تعيق وتعطل وصول سموم أي غارة على الأذهان والعقول، وإن حدث، فحتماً ستراوح مكانها؛ بسبب الفطرة التى جُبِلوا عليها، فضلاً عن التعميق في اتجاه التواضع والفهم وطلب السؤال، لذلك لامناص من أن تقوم الأم والأب بدورهم المحوري والغاية في الخطورة، فيجب أن يكونا على قدر المسؤولية الفكرية في تربية أبنائهم، آخذين بكافة العلوم التربوية، والتقنيات الحديثة، سعياً في تقديم زرع نبيل، متجرّد القلب، نقي العقل، موصول العلاقة بربه، ويقيناً لن يكون ذلك إلا بإخلاصهم، واللجوء الدائم لمحراب العبادة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
البيت المسلم يعيق ويعطل وصول سموم أي غارة على الأذهان والعقول، وإن حدث، فحتماً ستراوح مكانها؛ بسبب الفطرة التى جُبِلوا عليها
ثانياً- رسالة الوعي:
إن الحياة الحقيقية الآمنة هي التي يعي فيها الفرد رسالته، ويدرك حجم المخاطر الموجهة ضده، ويوقن حجم التآمر، والمكر المركب لإفساد البلاد والعباد، هي حياة الوعي -وإن شئت فسمّها معركة الوعي- فهو جهاد لا شوكة فيه، وعلم يقي الوقوع في التغييب والجهل، ولما كان الوعي قوة ناعمة، كانت الحرب عليه أشد ، وكل ما نراه الآن من الحروب والأموال تهدف لتزييف الوعي، وتغييب الأفراد عن واقع أمتهم، فضلاً عن قتل مجرد التفكير في تغيير هذا الواقع، لذلك فالفرد مطالب بالأخذ بكل سبل الوصول لهذه الحياة، فكرياً، وتربوياً، وتثقيفياً، والأخذ بكافة العلوم التكنولوجية الحديثة دون كلل أو ملل.
ثالثاً- المناهج التعليمية:
قلنا مراراً وتكراراً أنَّ السعي الحثيث لتغيير المناهج التعليمية هي حلقة من حلقات الغزو الفكري الدقيق والشديد، ومع الأسف يتمّ هذا على قدم وساق في كل المراحل التعليمية على مستوى الوطن العربي -إلا من رحم ربي- وسط حملة إعلامية مسعورة؛ للنيل من ثوابت الدين، ووصف المناهج الإسلامية بالظلاميّة والجهل، لذلك فالوقوف ضد هذا الأمر هام جداً، والوقوف ليس بالرفض؛ لأن القرارات تأتي من جهات رسمية، لكن الوقوف في تمتين الأبناء بمناهج الفقه والشرع تثقيفاً فكرياً، وتربوياً، مستمداً مصادره من الكتاب والسنة، ما يشكل أكبر رد على دعاة التنوير المكذوب.
رابعاً- التبحّر في التاريخ:
إن الغزو الفكري مبني على التشكيك والطعن، سواء فى الثوابت، أو الرموز الدينية ، وهذا يظهر جلياً في كل مظاهره وأساليبه، لذلك، فالفرد الساعي لإفشال هذا الفيروس عليه أن يقرأ ثم يقرأ ثم يقرأ، لكن بفهم، وعبر مراجع ثقيلة المصدر، قوية المتن، وخصوصاً في التاريخ الذي تم تزييفه عبر سنوات، وما زال الخبثاء يلوثون، و يتآمرون، ويكذبون علينا، فيشوّهون تاريخنا حتى يسقطوا لدينا أي مقدّس أو ثابت، ونصاب بالتّيه الفكري في دنيا الناس، ولمّا كان التاريخ مهماً في تثبيت الفكرة، كانت المدارس الفكرية شارحة له بشكل يحول دون الوقوع في التدليس، أو التزييف، وعلى كل إنسان أن يقرأ سير الرواد
-“الأفغاني”، و”محمد عبده”، و”حسن البنّا”، وقبلهم “السلطان عبد الحميد الثاني”، وقبلهم “محمد الفاتح”، من قبلهم سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام، وهكذا فهذا المسار يجعل المرء مفتخراً بدينه، المهم القراءة لكتاب صادقين، ليس لهم مصلحة في تحريف العقول.
خامساً- التربية الجنسية الصحيحة:
لاشك أن أعظم سلاح موجه لشبابنا وفتياتنا هو المادة الإعلامية الجنسية، التي أصبحت في متناول الجميع، ولم يعد عسيراً على الأبناء أن يستخدموا برامج معينة، تحول دون معرفة اهتماماتهم على النت، خصوصاً أننا في واقع وعالم مفتوح، ومنفتح بشكل رهيب، أضف إلى ذلك كمية الانحرافات الموجودة بالمدارس والجامعات، ولهذا كان الخطاب التربوي من الآباء لجيل الأبناء غاية في الخطورة، ومهم جداً، فيجب على الوالدين، وفور بلوغ الأبناء، الحوار والحديث بوضوح وشفافية وعلم وفهم لهذه المرحلة، ومتطلباتها، ومشكلاتها، وسبل العلاج، بعيداً عن خطاب “التقليل والتحقير”.
وقناعتي أن البراعة في الخطاب، وتوصيل المعلومة، وإقامة علاقة حب وصدق، وتجرد بين الأب وابنه، والأم وابنتها -يقيناً- يجعل الوقوع في براثن الانحراف أمراً صعباً، خصوصاً إذا صاحب هذا العلم، وهذه التربية تضرّع، ولجوء صادق لله أن يحمي أبناءهم الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
البراعة في الخطاب، وتوصيل المعلومة، وإقامة علاقة حب وصدق، وتجرد بين الأب وابنه، والأم وابنتها -يقيناً- يجعل الوقوع في براثن الانحراف أمراً صعباً
ختاماً: الحرب على الأمة المسلمة تبدأ من هدم البيت المسلم، وهذا لن يكون، طالما هناك وعي وفهم وطاعة لله تعالى، وأخذ بكافة العلوم الحديثة، واستخدامها كطوق نجاة، وحائط صد ضد كل دعاة التغريب والتزييف، فالمهمة كبيرة وعظيمة، فعلى كل فرد في أمتنا وعلى الجميع أن يستنفر طاقاته وملكاته، ويوظّف إمكانياته؛ حتى نصل جميعاً لبر الأمان في الدنيا والآخرة.
(المصدر: موقع بصائر)