مقالاتمقالات مختارة

الغرب والحداثة ومسؤولية صناعة التوحش في عالمنا الإسلامي

الغرب والحداثة ومسؤولية صناعة التوحش في عالمنا الإسلامي

بقلم أحمد التلاوي

مثَّلت الأزمات السياسية والأمنية التي تمرّ بها بعض دول العالم العربي والإسلامي، والممارسات التي تقوم بها بعض الأطراف والشخوص المحسوبين إعلاميًّا على صفة إسلامي” وهوية “مسلم” -فرصة ذهبية لخصوم الأمة والحضارة الإسلامية للتقوُّل على الإسلام، وتأطيره في إطار صورة ذهنية مشوشة ليس فحسب لدى الجمهور الغربي، وإنما حتى لدى أجيال كاملة من أبناء المجتمعات العربية والمسلمة.

وساهمت العديد من الممارسات التي تقوم بها جماعات وحركات غامضة النشأة تنسب نفسها إلى الإسلام، في تأصيل هذه الصورة، بعد أن قام الغرب بتكرار نموذج استخدام أدوات القوة الناعمة التي استخدمها ضد الشيوعية، ولحصار الاتحاد السوفييتي السابق خلف الستار الحديدي خلال عقود الحرب الباردة الطويلة.

ومنذ سنوات، في الفترة التي رافقت قرب انتهاء الحرب الباردة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات الماضية، بدأت هذه الآلة العملاقة التي تشمل وسائل الإعلام والفن والنشر، في التبشير بالخطر الأخضر في الإشارة إلى الإسلام، بديلاً عن الخطر الشيوعي الأحمر.

وفي حقيقة الأمر فإن هذا التحرك الغربي لا يأتي فحسب في إطار قيمي وعقيدي، ضمن الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، والذي تحول بعد ظهور الإسلام، وسيادته على العالم القديم، إلى صراع بين الغرب المسيحي اليهودي وبين المشرق العربي الإسلامي، وإنما يأتي كذلك في إطار مصالح اقتصادية بمئات المليارات من الدولارات، وربما بتريليونات الدولارات الأمريكية.

فعندما جرى تأصيل طبيعة وهوية الخطر الجديد، تمت صياغته على أن العدو هذه المرة هو من بين ظهرانينا، فقد يكون تارةً إيران، وتارةً الجماعات الإسلامية سواء الصحوية أو الجهادية.

والصراع والأزمات في إطار هذا التصور يعني المزيد من عقود السلاح، والمزيد من التبعية الاقتصادية والسياسية من العرب والمسلمين “الضعفاء” للغرب “القوي الصديق” الذي “سوف يحميهم” من “أعدائهم”، وهو ما يضمن السيطرة على مصادر الطاقة والثروات الأخرى التي تملكها الأمة، وفتح أسواقها أمام منتجات الغرب “الصديق الحامي”.

وكلها أهداف يعرف كل دارسي العلوم السياسية، بل كل قارئ عادي للتاريخ يعرف أن أهداف المستعمرين القديمة في بلادنا تتمثل بمثلث الأسواق، المواد الخام، طرق التجارة، قبل أن يُضاف إليها ضلع رابع، وهو أمن الكيان الصهيوني وبقاؤه كعامل حجز وتقسيم بين شطرَيْ الأمة الكبيرَيْن، بين شرق وجنوب، ووسط وغرب آسيا، وبين شمال أفريقيا ووسطها وشرقها وغربها.

كل قارئ عادي للتاريخ يعرف أن أهداف المستعمرين القديمة في بلادنا تتمثل بمثلث الأسواق، المواد الخام، طرق التجارة، قبل أن يُضاف إليها ضلع رابع، وهو أمن الكيان الصهيوني وبقاؤه كعامل حجز وتقسيم بين شطرَيْ الأمة الكبيرَيْن

في هذا الإطار، تم دمج وسائط الإنفوميديا والنيوميديا، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي، في هذه الحرب؛ من أجل تكريس الصورة التي رسمها المستشرقون للعالم الإسلامي قبل سنين طويلة للمسلم، وهي: المتوحش/ الشهواني/ القذر… إلخ، وتدعيم هذه الصورة ببعض الممارسات مثل هدم الآثار والمعالم الحضارية ونهبها، وحرق الكتب، وقطع الرؤوس، والتمثيل بالجثث، وقتل العزَّل، وتدمير المدن.

ثم يتم ربط كل ذلك بتعاليم الإسلام، وبالهوية الثقافية للمجتمعات العربية والمسلمة، من خلال منظومة من الأدبيات والنصوص التي لا يقرها الشرع، ولم يعرفها الفقه الإسلامي عبر تاريخه الطويل، حتى في أوقات الاستثناءات.

وفي حقيقة الأمر فإننا نقف هنا أمام قصة تمّ رسمها وحبكها خارج عالمنا العربي والإسلامي، في أقبية أجهزة مخابرات وحكومات دول غير مسلمة، وتم تصديرها للعالم على أنها عربية إسلامية بامتياز، من خلال توظيف بعض الأدوات من داخل عالمنا العربي والإسلامي ذاته.

ومن بين أهم المصطلحات التي يتمّ استخدامها من جانب وسائل القوة الناعمة الغربية في هذا الصدد، هو مصطلح “صناعة التوحش”، والذي يمثل جوهرة التاج في هذه المنظومة من التشويش، كاسم علمٍ لهذه الحالة “الإسلامية” كما يسعون لتصويرها.

والمصطلح هو عنوان كتاب غامض، تتداوله جماعات مسلحة تزعم ارتباطها بالإسلام، وبأنها تسعى إلى تحكيم الشريعة، منسوب إلى شخصية تدعى أبا بكر الناجي، وإن أشارت أبحاث عديدة إلى أن الكتاب تم تأليفه من قِبَل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، والتي أثبتت دراسات ومعلومات تمّ الإفراج عنها طيلة السنوات الماضية، أنها كانت تقف خلف أكبر عمليات الخداع في التاريخ، والتي أسقطت نظمًا وحكومات منتخبة مناوئة للولايات المتحدة، من إندونيسيا في أقصى الشرق، وحتى نيكاراجوا في أقصى الغرب، وبينهما إيران مصدق، وغيرها الكثير.

وهناك كتب مرجعية عديدة تكشف دقائق ذلك، وكيف أن أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية، قد نسجت كيانات زائفة تحمل هويات مجتمعاتها من أجل تدميرها من الداخل، وكتاب “قتل الأمل” لوليم بلوم الذي صدرت منه طبعة عربية عن “مكتبة العبيكان” في الرياض، عام 2006م، مليء بمثل هذه التفاصيل.

ويتشابه كتاب “صناعة التوحُّش” هذا مع كتاب آخر مماثل وإن اعترفت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بأنها هي مؤلفته، وهو “الدليل الأمريكي لمكافحة التمرد”، وصدرت منه أكثر من طبعة عربية عن مراكز بحوث في أكثر من بلد عربي، حيث يتضمن تفاصيل دقيقة عن كيفية صناعة الفوضى في أي بلد في العالم.

بل إن هناك وثائق أمريكية كُشف عنها أفادت بأن دليل القتال الذي تستخدمه بعض الجماعات في أفغانستان، هو من وضع الوكالة الأمريكية ذات الصيت الدموي السيء!

وفي حقيقة الأمر فإنه بمراجعة مختلف المفردات، المكتوبة والمصوَّرة التي تقوم وسائل الإعلام والقوة الناعمة المختلفة في دول التحالف الغربي بنشرها، باعتبار أنها هي صورة المسلم عندما يحمل السلاح -سوف يجدها قادمة من تاريخهم هم، مما يشي بعقلية غربية بامتياز وراء كل هذا الذي يجري باسم ديننا الحنيف.

بمراجعة مختلف المفردات، المكتوبة والمصوَّرة التي تقوم وسائل الإعلام والقوة الناعمة المختلفة في دول التحالف الغربي بنشرها، باعتبار أنها هي صورة المسلم عندما يحمل السلاح -سوف يجدها قادمة من تاريخهم هم، مما يشي بعقلية غربية بامتياز وراء كل هذا الذي يجري باسم ديننا الحنيف

فمشاهد تخريب المدن وتحطيم الآثار هي صورة طبق الأصل من ممارسة شائعة للغاية لدى الدول والإمبراطوريات الأوروبية عندما كانت تهزم بعضها البعض، منذ ما قبل الميلاد، وحالة طروادة تُعتبر نموذجًا غاية في الوضوح لذلك، بينما الفاتحون المسلمون لم يعاملوا بمثل هذه الممارسات قطّ في أيّ حرب لهم عبر تاريخ الدولة الإسلامية على اختلاف مسمياتها.

أما مشاهد قطع الرؤوس على الهوية السياسية أو المذهبية، أو باسم الدين، كما تقوم “داعش” به فإنه يكفي هنا أن نرى الصور الزيتية العتيقة التي تمثل الحروب الدينية في أوروبا، وكيف كان الكاثوليك يتعاملون مع البروتوستانت. يكفي هنا الإشارة إلى أنه في ذات موقف مثل هذا في فرنسا ذبح الكاثوليك أربعة ملايين بروتوستانتي ذبحًا وبالنصال والفؤوس بعد أن دعاهم البابا إلى ذلك باسم الدين!!

بل إننا غير مضطرين إلى الغوص في التاريخ بعيدًا إلى القرون الوسطى وما قبلها فهناك صور فوتوغرافية واضحة تمامًا لجنود الاستعمار الفرنسي وهم يقطعون رؤوس المواطنين الجزائريين بعد احتلال هذا البلد، في العام 1830م.

وحتى على المستوى الفكري فإنه من خلال تحليل أدبيات مثل هذه المجموعات التي تمثل رأس حربة هذه المرحلة من الصراع الحضاري بين الإسلام وبين قوى الاستكبار والاستعمار العالمي، والذي بدأ منذ غزوتَيْ “مؤتة” و”تبوك” وتحرشات الإمبراطورية الرومانية بشمال شبه الجزيرة العربية بعد فتح المسلمين لمكة المكرمة -فإننا سوف نجد الكثير من العلامات التي تقول بأن المنهج الذي وضعت على أساسه هذه الأدبيات والأفكار التي تتضمنها، إنما هو غربي بامتياز.

فمدارس وأفكار الحداثة وما بعد الحداثة، والتي تتضمن تفكيك النص حتى المقدس منه، مما أوصل الحضارة الإنسانية إلى حالة من الشك والسيولة التي تكلم عنها زيجموند باومان في سلسلته الشهيرة، “الحداثة السائلة” و”الشر السائل” وأخواتهما -قادت إلى فوضى مكَّنت النازيين الجدد واليمين الشعبوي المتطرف الذي قاد بسياساته العالم إلى الحرب العالمية الثانية، من العودة كقوى سياسية منتخبة في أوروبا مجددًا.

بل إنه حتى جوهر وصف المسلمين في الأدبيات الغربية الآن، نجد أنها ذات الأوصاف التي كانوا يطلقونها على اليهود عندما كانوا هم الأعداء في أوروبا، في القرون التي تلت اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، وحتى القرن العشرين، عندما تم تصدير الملف اليهودي بالكامل إلى العالم العربي والإسلامي، من خلال المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، حيث اليهودي الذي صار المسلمَ الآن، كان: قذرًا/ متوحشًا/ طماعًا… إلى آخر هذه القائمة التي ألبسوها للمسلمين هذه المرة!

إنه حتى جوهر وصف المسلمين في الأدبيات الغربية الآن، نجد أنها ذات الأوصاف التي كانوا يطلقونها على اليهود عندما كانوا هم الأعداء في أوروبا

وفي الأخير فإننا بحاجة إلى أن يقوم المفكرون المسلمون الثقاة والمراكز البحثية المعنية بالمشروع الحضاري الإسلامي، بالعمل على تفكيك وتحليل الخطاب والصورة التي يتم تصديرها على أنها هي “الإسلام” و”المسلمون”، والتأكيد على صناعة التوحش الحالية في أمتنا إنما هي صناعة غربية، وأن قطع الرؤوس وتدمير المدن، إنما هو تراث غربي أصيل، والصور والوثائق والوقائع التاريخية كلها تؤكد أن هذه الأمور إنما هي صنيعة خصوم الأمة والحضارة الإسلامية، وإن ألبسوها هذه المرة عمامة وجلبابًا وأطلقوا لحيتها في أقبيتهم!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى