مقالاتمقالات مختارة

العيد.. وأثره في وحدة الأمة

بقلم د. عامر البوسلامة

إعادة مفهوم الأمة إلى منصة ثقافة المسلمين، وإدخال ذلك في برامج وعي الأمة، من الواجبات التي لا يجوز إهمالها، خصوصاً في هذا الوقت الذي تعاني فيه الأمة ما تعاني، من أزمات ونكبات، وتآمر وخذلان، رغم وجود علامات البشرى، وإشارات الأمل، وبوارق المجد القادم بعون الله تعالى.
مفهوم الأمة ودورها الحضاري له أهمية بالغة في عالم الشهود الحضاري التاريخي التالد، أي القابل للتكرار، فالحاضر بحاجة ماسة لتمثل هذه الحقيقة، مع ملاحظة فقه الواقع، واستيعاب تطورات الحياة، فالأمة بوعد الله تعالى لا تموت، وهذا أمر نسلم به قطعاً، لتواتر أدلة هذا المعنى، على هذه البدهية، ولكن الأمة قد تمرض، وربما أصابها الوهن، وفي بعض الأحيان يعتورها التأخر الذي يجعلها تتأخر في صفوف، ضروري أن تكون في غيرها.
الأمة التي جمعها الإسلام بحاجة إلى إعادة مفردات قوتها، حتى تترجم واقعاً عملياً، تنداح شجرة خيره، ليستظل بظلال مجده القاصي والداني، وما ذلك على الله بعزيز.
وتأتي مناسبات شتى للتذكير بهذا المعنى المهم، في عالم السياسة الشرعية، وانعكاس ذلك إيجاباً عليها وفي المناحي كافة، ومن هذه المناسبات شهر رمضان وما في بطن هذه المدرسة من معاني الأخوة الإسلامية، والشعور بقيمة وجود الأمة ما فيه، وكذا مناسبة الحج، وتلك المعاني العظيمة النبيلة التي يزرعها هذا الموسم العظيم في نفوس الأمة.
أما الأعياد، ففي مناسبتها دروس في إحياء الأمة ودورها في حمل مشروع يليق بمكانتها، ويرتفع بأثرها، ويرتقي بمنزلها، حتى تقوم بهذا الدور الراشد.
ومن مظاهر ذلك ومقاصده في العيد:
1- الفرح بالعيد، وهذه فرحة تعم الأرض حيث يوجد المسلمون، ففي العيد حيث يدخل الله عز وجل البهجة والسرور إلى قلب المسلم، فيفرح الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فرحة مدهشة، ليس لها تفسير، إلا أن الله تعالى جعل ذلك نفحة من نفحاته، وبركة بثها الله في نفوس المسلمين، في هذه الأيام الفاضلة، وفي هذا من معاني وحدة الأمة في أفراحها، ما فيه من خير وفضل، وكأنها تنادي على الدنيا، بأمر حاضر، أننا هنا، ونفرح ونفرح، حتى لو أثخنتا الجراح هنا وهناك.
ومن مظاهر الفرح لبس الثياب الجميلة، والتزين بالمباح، فلكل مقام مقال، ولكل حال ما يناسبها، قال محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه «سبل السلام»: «يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد».
2- الاستمتاع بما لذ وحل وطاب من الطعام والشراب، من غير سرف ولا مخيلة، وفي يوم العيدين وأيام التشريق الصيام حرام، وهذا من وسطية الإسلام، ونبذ الغلو، والتوازن في مسائل الحياة، وهو تأكيد على مبدأ العبودية لله تعالى، لسان حالنا يقول: يا رب، أمرتنا فصمنا، وأمرتنا فأفطرنا، سمعنا وأطعنا، غفرانك اللهم وتقبل منا! وهو بذات الوقت إعلان عن يسر الإسلام، ورفع الحرج، ومطابقته للفطرة في حاجتها للترويح عن النفس، والاستلذاذ بما أنعم الله علينا من طيبات الرزق من الطعام والشراب وما في حكمهما من الأمور، ولكل بلد تقاليده وموائده وعاداته.
3- وفي العيد يكبر الناس تلك التكبيرات المأثورة، التي تهز المشاعر، وتصنع في النفس معاني القوة، وتبني في الأمة معالم الوحدة، ففي مشارق الأرض ومغاربها كل مسلم يكبر، في المساجد والمصليات وساحات إقامة الصلاة، ويا له من منظر بديع، ومقصد رائد، كيف لا! وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {185}) (البقرة)، وقال تعالى في آيات الحج: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ {37}) (الحج).
روى ابن أبي شيبة بسنده عن الزهري، «أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يخرج يوم الفطر فيكبّر، حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير». (مصنف ابن أبي شيبة (2/164)، وإسناده صحيح).
4- صلاة العيد؛ في الصحيحين من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما: «أن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين لم يصلِّ قبلهما ولا بعدهما»، صلاة العيد طاعة لله، وعبادة له، وهي مظهر جماعي، فيه من معاني القوة، التي تؤكد ضرورة اجتماع الأمة على الخير، ومعلوم أن العزة للكاثر، لكن مع النوع العامل العابد، القوي الأمين، ومثل هذه المناسبات تشير إلى هذه المقاصد، وتدفعنا لتحقيق هذه الأهداف، وكانوا أيام النبي، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، يؤمر كل المسلمين أن يشهدوا هذه الصلاة، حتى من هي حائض، ولكنها تعتزل المصلى، فلا صلاة عليها، والشاهد هنا تكثير سواد المسلمين، وهبة اللقاء الجامع، من الذكور والإناث، والصغار والكبار، الذي يصنع الشعور بمشاعر المسلمين، وإحياء شعائرهم، وهذا نموذج من النماذج، التي يقاس عليها غيرها في استنهاض الأمة من خلال عمل جماعي، قوامه الإيمان العميق، والهمة العالية، والتنظيم المثمر، والعمل المؤسسي الهادف المخطط له، فعن أم عطية، رضي الله عنها، قالت: «أمَرَنا –تعني النبي- عليه الصلاة والسلام أن نُخرج في العيدين العواتق، وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين» (أخرجه البخاري ومسلم).
5- الدعاء للمسلمين والتذكير بهمومهم: وفي هذا اليوم المبارك، على كل مسلم أن يدعو لإخوانه المسلمين في كل مكان، بل يدعو للأحياء والأموات، إشعاراً بهذه الروحية العالية، بجسدية هذه الأمة وترابطها وتحابها وتعاطفها وتراحمها، كما على الخطباء في خطبة العيد أن يذكروا بقضايا الأمة، في كل بقعة من بقاع المعمورة، في فلسطين و»صفقة القرن» وحصار غزة، في سورية حيث القتل والدمار والخراب والسجون والبراميل المتفجرة، والتهجير والتشريد والتغيير الديمجرافي، في آراكان وما يجري فيها من سحق للمسلمين، وهكذا في كل قضايا الأمة، فهذا التذكير يحقق معنى وحدة الأمة، في الجانب الشعوري، ويدفعها لتقديم ما تستطيع في الجانب العملي، فمن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؛ أي ليس على طريقتهم ولا منهجهم، ولا سيرتهم.
6- صدقة الفطر؛ ويجب إخراجها قبل الخروج لصلاة العيد، قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَر (3/367): «أُضِيفَت الصَّدَقَةُ للفِطْرِ؛ لِكَونِهَا تَجِبُ بِالفِطْرِ مِن رَمَضَانَ»، إنها واحدة من عناوين الخير، في دفع الأنا عن النفس، والتقوقع حول الذات، لينطلق من قيود ذلك إلى رحاب نفع الآخرين، ليعم الخير، بين أبناء المجتمع، فلا ينكسر فقير، ولا يهمل مسكين، ولا يترك يتيم، ولا تحرم أرملة، فالعيد يوم فرح وأكل وشرب وبهجة، فكان لا بد أن تعم كل الناس، ولا يستثنى من ذلك أحد، وهذا تعبير –في مفردة من المفردات- عن أن الأمة جسد واحد، فكانت صدقة الفطر، وهذا مقصد من مقاصدها، وحكمة من حكم مشروعيتها.
فِي الصَّحِيحَينِ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما،: «أنَّ رَسُولَ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، فَرَضَ زَكَاةَ الفِطرِ صَاعاً مِن تَمرٍ، أوْ صَاعاً مِن شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ، أو عَبدٍ ذَكَرٍ أو أُنثَى مِنَ المُسلِمِينَ»، وعَن ابنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعمَةً لِلمَسَاكِينِ» (رواه أبو داوود وابن ماجة بسند حسن).
7- الاستمتاع بالمباحات، واستخدام الفنون الجميلة، وتجنب الفنون القبيحة؛ في ‏تهذيب سنن أبي داود لابن القيم، كتاب الصلاة، باب صلاة العيدين، عن أنَسٍ رضي الله عنه قال: «قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا، فقال: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِليّةِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ»، ‏ولقد ورد أن الحبش كانوا يلعبون بالدرق والحراب في المسجد يوم العيد، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ينظر، وعائشة رَضِيَ الله عنه تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملّت ورجعت، ودخل أبو بكر في بيت رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، على عائشة، رضي اللّه عنها، وعندها جاريتان من جواري الأنصار تغنيان؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد».
8- ولا ينسى المرء أرحامه وأقرباءه وجيرانه وإخوانه من زيارتهم، والتحبب إليهم، مع شيوع روح التسامح، ونشر لواء المحبة، ونبذ الفرقة، ولا يخفى عليكم كم لهذا الموضوع من أهمية، حول ما ندندن حوله، من حاجتنا للألفة والترابط.
9- قريب من ملياري مسلم في كل قارات العالم، يفرحون في هذا اليوم، ويسعدون به، ويظهرون ذلك، ويتمتعون بالحلال من الطيبات، ويلهون لهو ترفيه عن النفس، ويصلون ويذكرون الله تعالى ويكبرونه، وهذا وغيره، يذكرنا بقوة هذه الأمة من حيث عددها، ومواهب أهلها، وما تملك من ثروات ظاهرة وباطنة، فلولا تكاملت وتناسقت وتعاونت؛ لتغير وجه الأرض خيراً، وازّيّنت الدنيا، وأشرقت شمس الحياة، وحلت المشكلات، وانتشر الخير وعمّ، وهذا غيض من فيض، من الأمور التي تدلل على وحدة هذه الأمة، ووجوب تكاتفها وتعاضدها وتناصرها، فما أروع هذا الدين! وما أعظم تعاليمه! وما أجمل أحكامه! وما أحسن قوانينه! وما أطيب مناهجه! وما أفضل مفاهيمه! وما أدق قوانينه! وما أجود قواعده! وما أرقى حضارته، وما أقوم طرائقه.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى