العولمة وحقوق الإنسان .. طبيعة وحيثية العلاقة في عصر الحداثة وما بعدها!
بقلم عمر الدغيم
مع أن هناك ارتباطًا واضحًا بين مفهوم حقوق الإنسان ومفهوم العولمة في عصرنا الحالي، إلا أن هناك فرقاً من الناحية الزمنية والتاريخية، فمفهوم حقوق الإنسان قديم قدم البشرية رغم اختلاف تعريفاته ومحدداته، بينما تعد العولمة ظاهرة حديثة نوعاً ما. فقد تناول الفلاسفة والقانونيون وغيرهم موضوع حقوق الإنسان من حيث تعريفه وتطبيقه منذ عصور فلاسفة اليونان إلى يومنا هذا، كما تضمنت جميع الأديان والشرائع مجموعة من الشرائع المرتبطة بحقوق الإنسان في نصوصها وأحكامها.
غير أن حقوق الإنسان بتصورها الحالي وشكلها القانوني المعاصر، لم تبدأ بالظهور إلا في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وحتى وإن كانت ” الماجنا كارتا ” البريطانية تعد أول وأقدم وثيقة حقوقية تكفل حقوق الإنسان والمواطن أمام السلطة، إلا أنه كان على التاريخ أن ينتظر حتى الثورتين الأمريكية والفرنسية حتى تنضج فكرة حقوق الإنسان وتتبلور فتأخذ شكلها ومفهومها الحالي المرتبط بظاهرة العولمة التي تطورت بالموازاة معها.
ولكن ما العلاقة بين المفهومين؟ وما طبيعة التفاعل بينهما؟
إن ظاهرة العولمة وليدة الحداثة والتقدم العالميين، فتطور سبل ووسائل الاتصال والتواصل السريع بين المجتمعات البشرية أتاح إمكانية التفاعل المباشر والقوي فيما بينها. ولما كانت الحضارة الغربية ومنظومتها الفلسفية والفكرية هي صانعة الحداثة والتقدمية ومطلقة شرارتها، والتي تمكنت الدول الأوروبية من خلالها من تأسيس إمبراطوريات استعمارية على مستوى عالمي، فقد مكنها كل ذلك من أن تصوغ معالم العولمة وفق النموذج الذي ترسمه وتحدده، وعلى خطتها. وقد أدى ذلك بالضرورة إلى تعويم وتعميم مفهوم حقوق الإنسان ذو التعريف والمنشأ الغربي على كافة المجتمعات البشرية وعلى اختلاف ثقافاتها وأديانها وأعرافها، فتبنى العالم كله بالاضطرار أو بالاختيار وجهة النظر الغربية لحقوق الإنسان نظرياً وتطبيقياً، وبمعنى آخر أصبحت “حقوق الإنسان الغربي”، هي حقوق كل إنسان في كل زمان ومكان.
وعليه فالعولمة هي الوسيلة والشرط الذي حقق التعويم والتعميم لمفهوم حقوق الإنسان المعاصر على نطاق عالمي، وقد أصبحت حقوق الإنسان بمفهومها الحالي مظهراً من مظاهر العولمة. ولهذه العلاقة بالتأكيد نقاط إيجابية وسلبية، كغيرها.
فرغم أنها أكسبت حقوق الإنسان شرعية عالمية ومشروعية قانونية ودستورية دولية، إلا أنها أوجدت نوعاً من التناقض الداخلي في بعض المجتمعات البشرية والتي لم تتفق معتقداتها وثقافاتها مع بعض مبادئ حقوق الإنسان المعاصرة، أو أحياناً مع أشكال تطبيقها. وانقسم الناس إما إلى مؤيد لأخذها وقبولها كلياً دون تحقيق أو تدقيق، وبين معارض لها بالجملة انطلاقاً من موقف عقائدي أو إيديولوجي ثابت ومسبق، أو بين هذا وذاك، فكان هناك من أيد قبول هذه الحقوق بصيغتها ومفهومها الحالي وتقبل تطبيقها على المستوى الرسمي والمجتمعي بشرط توافقها وانسامجها مع الثقافة المحلية وعدم إخلالها بالعقائد والقيم الأصيلة والمتجذرة الخاصة بالشعب والأمة.
ويجدر القول: إن نسبة وحدّة المعارضة لمفهوم حقوق الإنسان المعاصر وتطبيقاته ازدادت بشكل كبير في زمن ” ما بعد الحداثة ” الحالي، حين أصبح هذا المفهوم يعني ويشمل ضمنياً أو علنياً الترويج والتشريع لظواهر تصطدم اصطداماً كلياً مع القواعد الأساسية للعقائد والأخلاق والقيم الصحيحة والقويمة عند بعض الأمم والثقافات – وخصوصاً الإسلامية منها -، وهي ظواهر من مثل المثلية الجنسية والنسوية وغيرها، وهو ما تراه تلك الأمم تمييعاً متطرفاً لمبادئ الأخلاق وهدماً كلياً لكينونة الإنسان وكرامته، وحرباً واضحة على الفطرة السليمة والعقل السليم. ويمكن القول في هذا الصدد بأن الشبكات والشركات السينمائية الكبرى كهوليوود ونتفليكس تعمل كأكبر وسائط العولمة ووسائلها الإعلامية في هذا المجال تحت مسمى الدفاع عن ” حقوق الإنسان ” وضمن إطار الدعوة له.
غير أن المعارض لها أو المعترض على بعض جزئياتها، أصبح موقفه يقرن بالمعاداة لحقوق الإنسان وللحداثة والتحضر، وقد يكون معرضاً لتهم مثل التطرف والدعوة إلى التخلف وغيرها، مما يعرضه لخطر المقاضاة والعقوبة، أو التشويه والتهميش في أدنى الاحتمالات، وذلك بسبب الحصانة المعطاة لهذا المفهوم قانونياً وإعلامياً. وهذا ما يحدث تماماً مع مجتمعاتنا الإسلامية الحالية، والتي ترى حقوق الإنسان من زواية مغايرة للزاوية التي يراها منها الغرب.
وإن مفهوم حقوق الإنسان باعتبار منشأه الغربي، قد شهد من ناحية التطبيق تباينات وتحيزات واضحة وجلية، يظهر من خلالها استخدام واستثمار هذا المفهوم بما يتناسب مع المصالح الغربية. فبمقدار ما يكون مطبقاً داخل حدود العالم الغربي المتقدم بمكوناته الكبرى (الاتحاد الأوروبي، الكومنولث البريطاني، الولايات المتحدة)، بمقدار ما يتم خرقه خارجها من صانعي القرار والسياسات لهذه الدول أنفسها أو على يد حلفائهم وأعوانهم، حيث يتم تجاهل إخلالهم بحقوق الإنسان وخرقهم لقوانينها، ويقتصر ذكر حقوق الإنسان واستذكارها على الدعاية والبروباغاندا الإعلامية والسياسية ضد الأعداء والخصوم من الحكومات والمنظمات وغيرها.
وأيضاً ؛فعندما نذكر حقوق الإنسان فإننا نعني ضمناً المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم، ولكن ما نراه الآن بحكم القوة الاقتصادية والهيمنة الثقافية للغرب في العصر الرأسمالي، أن العلاقة بين الإنسان الغربي وبقية البشر أصبحت علاقة تابع ومتبوع، فالغربي هو المؤثر والآخر متأثر، والغربي هو صاحب الفعل وللآخر ردة الفعل، للغربي التجديد والابداع وعلى الآخر التقليد والاتباع، وهو ما يمحو بالنتيجة شخصية الإنسان الآخر وينهي تأثيره وبالتالي وجوده، وهذا بحد ذاته إخلال بحقوق الإنسان غير الغربي.
وبرهنت جائحة كورونا العالمية بشكل واضح على العلاقة والارتباط بين العولمة وحقوق الإنسان، فقد دفعت الجائحة الحكومات إلى رسم سياسات تتماشى مع خطة عمل المجتمع الدولي ضد (كوفيد 19)، وأدى ذلك بالنتيجة إلى زيادة قبضة الدولة على المجتمع والفرد من خلال توسيع دائرة الصلاحيات والسلطات الدستورية لها، وذلك لفرض قوانين وأحكام حالة الطوارئ الصحية، ومن أبرز تلك الإجراءات فرض أخذ اللقاح في معظم البلدان على المواطنين بالطرق المباشرة أو غير المباشرة بغض النظر عن إرادتهم وحريتهم في إتخاذ ذلك القرار، وهو الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية والحقوقية الغربية – وخصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية -، ولقي معارضة من التيارات الليبرالية واليسارية باعتباره يتعارض مع الحرية الشخصية ويهدد استقلالية الفرد، وهذا بالنتيجة أدى ويؤدي إلى إضعاف التيار الليبرالي وتقوية التيارات اليمينية الصاعدة، وهو ما يعني التأثير سلباً على حقوق الإنسان بالضرورة، حيث لطالما عد الفكر الليبرالي الرحم التي تمخض عنه مفهوم حقوق الإنسان الحداثي.
المصدر: رسالة بوست