مقالات مختارة

العمل الصالح وقاية من عذاب الله

العلامة عبد الرحمن الجزيري

عن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ] {الأنعام:65}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك. قال: [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] {الأنعام:65}. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أهون، أو هذا أيسر ) رواه البخاري في كتاب التفسير.

يتعلق بشرح هذا الحديث أمور: 1 ـ معنى الحديث إجمالاً. 2 ـ طاعة الله وقاية من عذابه الدنيوي والأخروي. 3 ـ ماذا يجب على المسلمين أن يفعلوه عند الشدائد ليحفظوا أنفسهم من الهلاك.

1ـ معنى هذا الحديث واضح، لأنه تفسير لقوله تعالى:[قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:65}. وذلك لأنه تعالى يذكر الناس بقدرته القاهرة، ويهددهم بالعقاب الصارم الذي حاق بالأمم السابقة فأبادهم. وقد اختلف العلماء في المعنى المراد بالعذاب في هذا المقام، فقال بعضهم: عن العذاب من فوق: هو الرجم، ومن تحت: هو الخسف.

وقال بعضهم: إن العذاب من فوق هو حبس المطر، ومن تحت: هو منع الثمر. ولكن التفسير الأول هو المعتمد الذي تؤيده الآيات الأخرى، وعلى كل حال فإن عذاب الله للكافرين شديد في الدنيا والآخرة، ولكن الذي ينبغي الاهتمام به حقاً هو: هل هذا العذاب الدنيوي يشمل المؤمنين الذي يخالطونهم في وطن واحد، أو هو مقصور على الكافرين والعاصين الذين يجاهرون بالعصيان؟ وهل هذا العذاب واقع لا محالة؟ أو قد رفعه الله تعالى بعد رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ؟.

أما الجواب على السؤال الأول فسيأتي في البحث الذي بعد هذا.

وأما الجواب عن السؤال الثاني فإن ظاهر هذا الحديث يفيد أن بعضه واقع لا محالة، والبعض الآخر قد رفعه الله تعالى بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما الذي رفع: فهو الرجم والخسف، وأما الذي بقي: محاربة بعضهم بعضاً. واختلاطهم فرقاً مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة تشايع حاكماً خاصاً حسبما تهوى أنفسهم، فينشب القتال بينهم ويختلطون فيه. وهذا معنى قوله تعالى:[ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] {الأنعام:65}. ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالله من العذاب الذي من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ومعنى استعاذته بالله منه أنه طلب من الله تعالى أن يرفعه عن الناس ولا يعذبهم في الدنيا بذلك، فاستجاب الله له. أما العذاب باختلاطهم شيعاً وإذاقة بعضهم بأس بعض، فإنه لم يستعذ بالله منه، بل قال: هذا أهون أو هذا أيسر. ويؤيد ذلك ما رواه ابن مردويه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم ثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين).

ويرى بعض الأئمة أن الخسف والرجم لم يرتفعا، وأنهما يقعان في هذه الأمة، واستدل لذلك بما رواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)، وبما رواه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا لآية: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] {الأنعام:65}. فقال: أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد، وبما رواه أحمد والطبري من حديث أبي بن كعب في هذه الآية قال: هن أربع وكلهن واقع لا محالة). إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وقوع العذاب الدنيوي بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وتحقيق هذا المقام يستلزم تفسير قوله تعالى:[وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] {الأنفال:33}.وقوله تعالى:[وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى] {طه:129}.فمعنى الآية الأولى أن الله تعالى قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم برفع عذاب الاستئصال والإبادة للأمم الذين كذبوه، ومعنى الآية الثانية: أن خروج المشركين عليه وتكذيبهم إياه ومحاربة دينه بكل قسوة وغلظة يستدعي إبادتهم كما أبيدت الأمم الفاجرة من قبلهم، ولكن الله تعالى قد وعد نبيه بقوله:[وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] {الأنفال:33}.برفع هذا العذاب عنهم ؛ فهو سبحانه يقول لنبيه: ولولا هذه الكلمة التي سبقت مني لكان عذاب الأمم السالفة لازماً لهذه الأمة.

وقد بين الحديث الذي معنا المراد بالعذاب الذي رفع عن الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه صرح بأن ذلك العذاب هو المسخ والرجم الذي يستئصل الأمم ويبيدها، أما غير ذلك من أنواع العذاب فإنه لم يرفع.

وما ورد في الأحاديث التي تدل على أن الخسف والرجم لم يرتفعا بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنهما سيقعان لا محالة لا ينافي ذلك، فإن الأحاديث الدالة على أن الله رفع هذا النوع من العذاب بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما يدل على رفعه دائماً، بل الآية تدل على أن رفعه محدود له أجل مسمى، كما يدل لذلك قوله تعالى: [وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى] {طه:129}. فإن قوله: وأجل مسمى: معطوف على كلمة. والمعنى: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان عذاب الاستئصال لازماً لكل أمة تجاهر ربها بالعصيان وتكفر بآياته وتحارب رسله الذين يريدون بهم الخير. ولهذا قال في فتح الباري: إن طريق الجمع بين هذه الأحاديث أن الاعاذة المذكورة في حديث جابر ( الذي نشرحه الآن ) وغيره مقيدة بزمان مخصوص وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة؛ وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم. ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبلت استعاذته من هذا النوع من العذاب وأجل تنفيذه إلى أجل مسمى، وهو الذي يريده الله فيه أن يبطش بالفجار الذين خرجوا عليه وعلى نظمه المعقولة النافعة واتبعوا أهواءهم وشهواتهم بعد أن أمهلهم أزمنة كثيرة وقروناً طويلة.

2 ـ ومما لا ريب فيه أن فساد الناس وخروجهم على ربهم يستوجب النقمة ويستنزل العذاب، ولكن قد يكون من الناس الفجار من لا يستحق العذاب، بل قد يكون فيهم الصالحون الذين يؤمنون بالله ويتبعون ما أمرهم به؛ فهل هؤلاء الصالحون يذهبون ضحية هؤلاء الفجار ويهلكون مع الهالكين؟

والجواب عن ذلك أن طاعة الله سبحانه وتعالى وقاية من العذاب الدنيوي والأخروي، ولكن طاعة الله تعالى ليست مقصورة على أداء العبادات الخاصة بالشخص كالصلاة والصيام ونحو ذلك. بل طاعة الله تعالى تتناول كل ما أمر الله به أو نهى عنه. فإذا أمر الله المسلمين أن لا يتجاهروا بالفسوق والعصيان، وأن يأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وينهى بعضهم بعضاً عن المنكر، وأن يستعملوا كل الوسائل التي تجعلهم أقوياء في أبدانهم وفي أخلاقهم وفي أموالهم وفي قوتهم المعنوية والمادية، فأهملوا ذلك كل الإهمال واتبعوا كل شيء تدفعهم إليه شهواتهم الفاسدة وتزينه له أهواؤهم الضارة بالخلق والمال والقوة، فإنهم لا يجديهم بعد ذلك أن يصلوا ويصوموا، أو نحو ذلك من العبادات، نعم إن هؤلاء يثابون على أداء هذه الفرائض ويخرجون عن المسؤولية أمام الله تعالى في الآخرة، أما في الدنيا فإن الله تعالى قد جعل الحياة فيها منوطة بوسائل معروفة وسنن متبعة، وقال لنا: يجب عليكم أن تستمسكوا بهذه السنن، وأن تقاوموا شهواتكم الضارة بكل ما أوتيتم من بطش وقوة، فإن لم تفعلوا خسرتم كل شيء في هذه الحياة ؛ خسرتم الصحة، والقوة والشرف والكرامة، وتداعت عليكم الأمم كتداعي الآكلة إلى قصعتها، ويؤيد ذلك قوله تعالى:[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] {الأعراف:165}. فإن ذلك صريح في أن الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يرضون عن الفسق والفساد ويقاومونه بكل ما أتيح لهم من قوة، يكونون بمنجاة من عذاب الله تعالى، وما ورد من أن العذاب الدنيوي يعمم المفسدين والصالحين فإنه خاص بالصالحين الذين لا يقومون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أما الذين يقومون بواجباتهم ولا يبالون بما عساه أن ينالهم من عنت وشدة في سبيل محاربة الفساد، فإن الله تعالى يجعل لهم سبيلاً إلى النجاة لا محالة، ولذا قال تعالى:[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25}.فإن معنى ذلك محاربة الشرور والفتن الضارة بالدين والدنيا قبل استفحال أمرها وتفاحش شرها.

فمن المؤكد أن طاعة الله تعالى وقاية من عذاب الله الدنيوي والأخروي، بشرط أن لا يخلط الإنسان قواعد الدين، فلا يظن مثلاً أن الصلاة تغنيه عن العمل لدنياه، ولا يظن أن الدعاء وقراءة الأحزاب تغني عن وسائل القوة التي يرهبها أعداء الدين، لأن الله تعالى قال:[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] {الأنفال:60}.إلى غير ذلك مما ذكرناه غير مرة.

3ـ ولعل قائلاً يقول: ماذا يصنع المسلمون الآن وقد فرط أسلافهم من قبل وتفرقوا شيعاً حتى تمكن منهم الضعف الخلقي، وزين لهم الشهوات الفاسدة، وحبب إليهم الخروج على الأدب والحياء، بل أصبحوا في حالة صعبة العلاج، لأنهم يرون التهتك والخلاعة والمجون مدنية لا مناص للإنسانية منها، ويرون الجد في القول والعمل جموداً يتنافى مع المدنية والإصلاح؟

والجواب: أن المسلمين ما داموا مندفعين في هذا التيار فإنهم سيرون من عقوبة الله وبطشه بهم مالا يخطر لهم على بال؛ ولابد أن يسلط الله عليهم أعداء كثيرين يسومونهم سوء العذاب، أو يأخذهم بنوع من أنواع العذاب الذي أخذ به من كان قبلهم.

فلا مناص لهم الآن من أمرين: الاتحاد، وترك الرذائل الخلقية جانباً، فإذا اتحدوا وتجنبوا وسائل العظمة الكاذبة، وطرحوا الرذائل الخلقية جانباً، فإن الله تعالى يرفع عنهم مقته وعذابه الذي حاق بالأمم السالفة. وهذا علاج قد يكون عزيزاً، بل قد يخيل للناس أنه محال لأن قادة الأفكار فيهم مختلفون في مشاربهم ومذاهبهم وأخلاقهم، وهذا الاختلاف يستحيل معه الوفاق، ولكننا لا نرى في هذه الحياة شيئاً مستحيلاً، فما على المسلمين إلا أن يحاولوا هذا الاتحاد؛ وعليهم أن يحتقروا المفسدين الإباحيين وينزلوهم المنازل اللائقة بهم؛ وعند ذلك يأمنون عقاب الله وسخطه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

مجلة الأزهر: جمادى الأولى 1360 هـ.

المصدر: رابطة العلماء السوريين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى