العلو الكبير في فصله الاخير ( 2 ) استراتيجيات تأمين العلو
بقلم د. عبد العزيز كامل
تختصر عبارة (أمن إسرائيل) المعنى المتفق عليه عالميًا وإقليميًا لتأمين مسار اليهود الطويل عبر الفصول السبعة السابق ذكرها، وتوضح تلك العبارة وظائف الأنظمة المحيطة بكيان اليهود وأدوارها، التي ليس من ضمنها ضمان أمان شعوبها!
وقد وضع القائمون على مشروع العلو اليهودي ما أسموه: ( نظرية الأمن الإسرائيلي) وهي تعني – على المستوى الداخلي الذاتي – تأمين مساحة السيطرة للدولة اليهودية عن طريق كسب الحروب بدرع القوة التقليدية وتفوقها، مع ردع الأسلحة غير التقليدية وتفاقمها، في مسار استثمار دائم لحصاد حروب السلاح لأجل استعمالها ورقة تحريك ما يسمى بـ (عمليات السلام)..
وأما على المستوى الإقليمي؛ فتهدف النظرية إلى استمرار توجيه التفاعلات الإقليمية لحساب دولة اليهود، ولا يتحقق ذلك إلا بأن تكون تلك الدولة محورية في المنطقة، سياسيًا وعسكريًا، ولهذا رسم واضعوا النظرية – بدءًا من بن جوريون وحتى شارون ومن بعدهما – خريطة خاصة لـ (إقليم الشرق الأوسط) قسموه بموجبها إلى دوائر يمكن التعامل مع كل منها بما يضمن استمرار (أمن إسرائيل) “الصغيرة” وسط طوفان الكيانات الكبيرة المحيطة، والمحاطة بالإحباط بين تفريط وإفراط !
وهذه الدوائر هي :
1- دائرة وادي النيل ..وتقودها تقليديًا مصر، المقصودة دائما بالاستهداف والاستنزاف.
2- دائرة بلاد الشام وماحولها، وتتناوب توجيهها كلًا من سوريا والعراق المحكومتين بدوام التنازع.
3- دائرة بلدان الخليج، وتتزعمها دائمًا المملكة السعودية؛ المكبلة مع بقية الإمارات العربية بضريبة الحماية والوصاية الأمريكية.
والبلدان المذكورة، هي ما اصطلح المتآمرون على الأمة على تسميتها بدول ( الشرق الأوسط).
وعندما أرادت إدارة (المحافظين الجدد) من اليهود في عهد بوش الابن توسيع مفهوم الشرق الأوسط تحت مسمى (الشرق الأوسط الكبير) لأغراض صهيونية؛ أضاف الهالك شارون دائرتين أخريين، هما (الدائرة الإسلامية) التي تشمل تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان، و(الدائرة الإفريقية) التي تضم دول شرق ووسط إفريقيا، ودول البحر الأحمر.. واعتبر اليهود وحلفاؤهم كل تلك الدول مجالًا حيويًا؛ لا يمكن إغفال تأثيراته السلبية أو الإيجابية على (أمن إسرائيل).
قامت سياسة تأمين الوجود لعصابة اليهود – ولاتزال – في تلك الدوائر الخمس على مرتكزات؛ أهمها:
• حماية الاستبداد، وعرقلة التقارب والتنسيق بين هذه الدوائر إلا على المستويات الأمنية.
• تشجيع النزاعات وتعميقها لتنفيذ مخططات التقسيم ذات التوجُه والوِجهة اليهودية.
• تعويض ضيق الرقعة الجغرافية للدولة التلمودية؛ بتوسيع دائرة التغلغل والنفوذ السياسي في الحيز الأساسي لما يسمى (إسرائيل الكبرى) من النيل إلى الفرات..
• الاستعانة بحلفاء دوليين كبار؛ للوصول بتلك المرتكزات إلى حيز التحقيق والتطبيق، عن طريق المحافل العالمية الممثِلة لـما يسمى بـ (الشرعية الدولية).
لنُعِد التأمل في بنود هذه “النظرية” الشبيهة بالدستور غير المكتوب، والتي تتناقلها أجيال اليهود منذ عهود، في تعاون مُحيِّر؛ بين الأغيار من صنوف الكفار، الذين قال الله تعالى عنهم وعن أمثالهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال73]، نعم: نحن نعيش – بنزاعاتنا وخلافاتنا – هذه الفتنة، ونعاني مع الفتنة الفساد الكبير.
مسارات التأمين للعلو اليهودي
حتى لا ننسى مكمن الداء ومنبع البلاء ممثلاً في الإصرار على تحقيق العلو الكبير لكيان اليهود الممقوت والموقوت، والمسمى «إسرائيل» ؛ لا بد من استذكار أهم محطات تطبيق ماكان يحتاجه هذا التأمين من استراتيجيات، وذلك خلال المائة عام الماضية، وهو مسار رعته وطورته قوى الاستكبار العالمية.
لنتأمل محطات ذلك العلو في منطقتنا العربية، دون أن نغض الطرف عن أن أبعادها البعيدة عالمياً هي التي تترجم تفاصيلها القريبة عربياً وإسلامياً.
• في عام 1914 تآمر صليبيو أوروبا على تركيا بتوريطها طرفاً في الحرب العالمية الأولى، لتخرج منها مهزومة، وليتحكم فيها يهود تركيا الماسونيون، وليبدأ إنشاء الكيان اليهودي في غياب كامل للكيان الإسلامي المدافع عن حرمات الأمة.
• وفي عام 1917 وعد النصارى الإنجليز اليهودَ بوطن قومي على الأرض المقدسة باسم (وعد بلفور)، وبعده بعام تحتل بريطانيا فلسطين مدة 30 عاماً كي تهيئها لليهود، ثم تمكنهم فيها.
• عام 1924 أُسقطت الخلافة العثمانية رسمياً لتمهيد الطريق نحو إقامة الدولة اليهودية على أرض بيت المقدس بعد أن رفض الخليفة – السلطان عبد الحميد الثاني – بيعها لليهود.
• عام 1948 أصدرت الدوائر الصليبية الدولية قرار التقسيم لأرض فلسطين، وبموجبه أقرت تهجير شعبها من أراضيه التي احتلها اليهود بعد حرب النكبة، وإخلاء تلك الأرض للمهاجرين اليهود.
• عام 1956 وقفت إنجلترا وفرنسا بجانب دولة اليهود في اعتداء ثلاثي، لتأمين الملاحة الإسرائيلية في الممرات المصرية.
• عام 1967 ساعدوها على هزيمة عدة جيوش عربية لأجل توسيع حدودها بالاحتلال، ومساعدتها على اتخاذ القدس الشرقية التي فيها المسجد الأقصى عاصمة لها.
• عام 1969 ضُرب المقاتلون الفلسطينيون وأُخرجوا من الأردن بإشراف دولي، لحماية الدولة اليهودية من أي عمليات فدائية.
• عام 1973 أمدت أمريكا دولة اليهود – أثناء حرب أكتوبر – بجسر جوي عسكري لإجهاض النصر الذي استهدف استعادة ما سلبته «إسرائيل» من أراضٍ عربية في حرب 1967م.
• عام 1977 أُخرجت مصر بمقتضى اتفاقية (كامب ديفيد) من معادلة ما كان يسمى (الصراع العربي – الإسرائيلي) بدفع أمريكي، لتنفرد إسرائيل بالقوة المتنامية المتحركة في المنطقة.
• عام 1980 تُدمر «إسرائيل» المفاعل النووي العراقي كي تظل هي منفردة بتملّك السلاح النووي الذي حازت منه عدداً يهدد كل العواصم العربية.
• عام 1982 تُهاجم إسرائيل لبنان، وتحتل بيروت؛ لاختبار التزام مصر باتفاقية كامب ديفيد التي تنص على أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب بين مصر «وإسرائيل»!
• عام 1985 يعبر الطيران الحربي الإسرائيلي أجواء دول الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، وليضرب قيادات المقاومة الفلسطينية الذين أخرجوا من الأردن إلى تونس.
• عام 1989 تغري أمريكا صدام حسين بغزو الكويت لتوقعه في حبائل مواجهة عالمية بعد أن هدد بإحراق نصف إسرائيل، وليتم تجريده من القوة والخبرة اللتين اكتسبهما من حرب الثماني سنوات ضد إيران، حتى لا يمثل العراق قوة تهديد محتمل ضد كيان اليهود مرة أخرى.
• عام 1991 وبعد هزيمة العراق، دفعت القوى الدولية معظم الدول العربية للاعتراف الضمني (غير الرسمي) بدولة اليهود، من خلال مؤتمر مدريد للسلام، الذي أبدت فيه أنظمة كثيرة رغبتها في صلح جماعي معها.
• عام 1993 يجري توريط منظمة التحرير الفلسطينية التي تعد نفسها – ويعدها العرب – «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب الفلسطيني، في الاعتراف بحق اليهود في دولة مستقلة ذات سيادة على كل الأراضي التي احتلتها من فلسطين عام 1948، وتتعهد أمام أمريكا – بحسب اتفاقية (أوسلو) – بنبذ «العنف» ضد عدوها، وإقامة سلام دائم معه!
• عام 1994 تساق مملكة الأردن كي تحذو حذو منظمة التحرير الفلسطينية، فتعترف بإسرائيل اعترافاً كاملاً في اتفاق وادي عربة، وتلتزم بالسلام الدائم معها.
• بعام 2000 ينقضي القرن العشرون وتبدأ الألفية الثالثة بحرب ضد من رفضوا الصلح مع اليهود من الفلسطينيين، وتندلع انتفاضة الأقصى، لتنهيها منظمة التحرير بالدخول في (كامب ديفيد الثانية) التي أراد اليهود منها نزع الاعتراف بملكية الأرض التي يقوم عليها المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه.
• عام 2003 تغزو أمريكا العراق نيابة عن إسرائيل، فتدمر جيشه، وتسرح جنوده؛ تأميناً لليهود، وتقاسما للنفوذ في بلاد الرافدين مع أعداء العراقيين من الإيرانيين.
• عام 2006 ينعقد مؤتمر (أنابوليس) برعاية بوش الابن، ليكون موضوعه طلب الاعتراف بـ «يهودية» الدولة الإسرائيلية، والإقدام الجماعي العربي على مقدمات تطبيع العلاقات معها.
• ثم تجيء العشرية الثانية من الألفية الثالثة، لتبدأ معها مقدمات الثورات الشعبية العربية للتخلص من هيمنة الأنظمة الخادمة لـ (أمن إسرائيل)، ليبدأ بعدها فصل جديد من المكر العالمي لإجهاض تلك الثورات لحماية اليهود من «الخطر المحتمل» الذي يهددها!..
• وقد بدأت العشرية الثالثة من الألفية الثالثة بصدور قرار الاعتراف الأمريكي الرسمي بالقدس الشرقية عاصمة للدولة اليهودية، وهي خطوة تمهد لوضع يد اليهود على كل ماهو داخل القدس من مقدسات.
ولم تمض شهور طويلة على تلك الكارثة الوبيلة،حتى تسارعت أنظمة عربية بالاعتراف الرسمي بدولة اليهود، المتضمن اعترافا صريحا بأن القدس صارت عاصمتها، وأن الأقصى يسير في طريق الهدم.
وهكذا تمضي الأمور نحو استكمال مسار العلو الكبير، وكأن هؤلاء اليهود، وهذه «الإسرائيل» قد سُخر العالم في هذا العصر لعلوها ورعايتها وحمايتها!
لكنا نوقن أن تلك المسارت البشرية العدائية الظاهرة والمعلنة؛ لـتصنيع ثم تشجيع ثم ترفيع الكيان الأشد عداوة للذين آمنوا؛ تسير بمحاذاتها مراحل قدرية بتدابير ربانية لإعداد جيل النصر والثأر، يراها بعين البصيرة كل مسلم يؤمت بأن الله – تعالى – الذي أخبر عن علو اليهود الكبير في الزمان الأخير في قوله: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: ٤]، هو الذي أخبر عن نهايتهم بخروج جيل فريد من أولي البأس الشديد: {فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: ٧]، ويقولون متى هو.. {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: ٥١].
(المصدر : رابطة علماء أهل السنة نقلاً مركز محكمات للبحوث والدراسات)