بقلم د. صفاء الضوي العدوي – عضو رابطة علماء المسلمين.
المتابع لجرأة العلمانيين ، واعتدائهم على أصول الإسلام وشرائعه في دياره في هذه الأيام يجد نفسه حيال هذه الظاهرة العجيبة مدفوعاً للتساؤل ، كيف أمِن هؤلاء العلمانيون على أنفسهم من غضبة الشعب المسلم ، وإنكار العلماء عليهم ؟ وكيف اطمأنوا إلى أن الوالي لن يغضب لله ، فيقوم بواجبه في حماية الدين وحفظ حرماته ، وردع الزنادقة ، وقطع دابر المفسدين ، وهي المهام الأصلية للحاكم المسلم التي لو قام بها لما جاز لأحد أن يخرج عليه ؟! .
إن المسلمين يتلقَّوْن هذه الإهانات صباح مساء ، ويسمعون ويقرأون تلك الاعتداءات على أصول دينهم بحزن وأسى وغيظ ، ويحبسون في صدورهم _ حتى الآن _ غضباً كبيراً ، لا يعلم إلا الله متى ينفجر.
وإن العلماء والدعاة والصالحين يُنكرون هذه الأقوال الشنيعة ، ويجأرون بالشكوى إلى الله من غربة الإسلام في دياره ، بعدما يئسوا من جدوى الشكوى إلى الحكام .
إذ لم يعد كثير من حكام المسلمين يشعرون بالمسئولية أمام الله ، كما أنهم أصبحوا لا يأبهون بسُخط شعوبهم ، ولا يحفلون بدروس التاريخ وعِبَره إن كانوا قرءوه .
وهذه حقيقة لا تحتاج إلى مراء ، بل يدركها المراقب المنصف دونما جهد أو عناء .
فبعد أن كان الحكام والعلماء والشعب المسلم صفاً واحداً ، يعظِّمون الدين ، ويلتزمون أحكامه ، ويطَبقون شرعه ، ويشيعون أخلاقه ، ويحافظون جميعاً بعزم وصدق على وحدة الأمة ، باتوا _ وياللحسرة _ صفَّين ! ، صفّ العلمانيين ومعهم معظم الحكام والمتنفذين ، يشيعون المفاسد ، ويجرئون الزنادقة ، ويبعثرون جهود الأمة في صراعات داخلية لإلهائها عن أعدائها المتربصين بها من اليهود والنصارى .
وصفُّ الشعب المسلم ومعهم العلماء والدعاة والصالحون ،يدافعون في ذهول عن دينهم بجهد ضعيف ، وتخطيط هزيل بسبب ما يمارس عليهم من مكر وكيد بل وكافة صنوف القهر والاضطهاد.
أما الشعوب فيدوخونها بالركض ليل نهار في طلب لقمة العيش ، هذا فوق ما يمارسونه على الضعفاء من أبناء المسلمين من فتنتهم بالشهوات والإغواء عبر ألوان من وسائل الفتنة بالسينما والمسرح والتلفاز والصحف وغيرها .
ولا ريب أن هذه الحملات المسعورة من العلمانيين على الإسلام لم تكن لتظهر فضلاً عن أن تستمر وتُرفع لها الرايات إلا وهي مدعومة من بلاد الكفر في الغرب من خلال برامج الانفتاح ، وحرية الرأي ، وحقوق المرأة ، وضرورة التجديد في الفكر الإسلامي ، وغير ذلك من الشعارات الزائفة ، والتي أخفوا تحتها كيدهم وحقدهم ومؤامراتهم على الإسلام وأهله .
وفوق دعم الغرب لابد أيضاً من مساندة الأنظمة العلمانية في بلاد المسلمين ، وإعطاء الضوء الأخضر لهم . ولا عجب { بعضهم من بعض }
ويا لغباء العلمانيين ، ويا لغفلة هؤلاء الحكام والمتنفذين عن سنن لله لم تتبدل ولم تتخلف على مدار التاريخ ! ، ومن هذه السنن أن الناس إذا نسوا الله خالقهم ، وتركوا شرعه ، وعصوا أوامره ، استحالت حياتهم إلى شقاء كبير ، وبؤس مرير .
ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين .
ثم نرى المباينة الهائلة والمناقضة التامة بين ما أوجعوا رؤوسنا به من ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية ، ويعنون بها تماسك الجبهة الداخلية للمواطنين من الأغلبية المسلمة الساحقة ، والقلة النصرانية كما هو الحال في مصر ، وبين ما هو ضروري لازم من المحافظة على وحدة الأمة المسلمة ، وتجنب كل ما يمس هذه الوحدة من مثل ما يفعله هؤلاء العلمانيون من شق للصف وتقطيع للمجتمع .
ولنعد مرة أخرى فنسأل : أليس في تعميق الهوة بين المسلمين بإشاعة هذه الأقوال والأفكار الصادرة عن العلمانيين ، والسماح لهم بإظهار معاداتهم للإسلام وشرائعه وأخلاقه تمزيق لوحدة الأمة المسلمة ، حيث أصبح الصراع محتدماً بين العلمانيين والإسلاميين ؛ فالعلمانيون يتطاولون على الشريعة ، ويمرقون من الالتزام بأحكامها ، ويوجهون سهامهم المسمومة ، وأفكارهم المنحرفة للقضاء على الخلق والفضيلة ، ويثيرون البلبلة والتشكيك في أوساط الشعب المسلم بما امتلكوا من وسائل التأثير والتوجيه في الصحف والإذاعة والتلفاز وغيرها ، حيث يعبثون فيها بجهل وخبث بقضايا إسلامية حسمها القرآن والسنة ، وانتهت إليها قرارات المجامع الفقهية في العالم الإسلامي ، بل إن بعضهم وصلت به الجرأة والزندقة والوقاحة أن يتطاولوا على شخص النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في حادثة ذلك الدكتور الكويتي الأثيم .
لقد أصبح في المجتمع إسلاميون وعلمانيون ؛ إسلاميون يدافعون عن الإسلام وشرائعه وقيمه وأخلاقه ، وعلمانيون كارهون للإسلام وشرائعه وقيمه وأخلاقه وثوابته .
خصمان اختصموا في ربهم ، ومع الفريق الأول وقف الحكام يؤيدونهم ويناصرونهم .
ومع الفريق الثاني رب هذا الدين تبارك اسمه .
وها هي وحدة الأمة يضربها العلمانيون وحلفاؤهم في الصميم .
إنهم يسعون جاهدين في جعل الأمة تتقبل باطلهم ، إن هدفهم هو أن تفقد الأمة هويتها وذاتها ، وذلك بالدعوة الدؤوبة إلى أن نتلقى من الغرب الكافر أسس الحياة ، وأن نصبغ مجتمعاتنا المسلمة بما صبغ الغربيون به مجتمعاتهم من اللادينية وانعدام القيم ، وإطلاق الشهوات دون رادع أو ضابط ، والانفكاك من قيود الدين والأخلاق ، ولهذا كان أشد ما أصابهم ، وأحبطهم هو عودة الوعي إلى شباب الأمة ، والذي تمثل في هذه الصحوة الإسلامية المباركة ، والتي أبت إلا الرجوع بصدق ووعي وقوة إلى الإسلام وقيمه وأخلاقه .
إن هؤلاء العلمانيين في بلادنا هم فلول من التائهين ، أخذوا شيئاً من الثقافة الغربية ، وجهلوا حقيقة الإسلام ، إنهم حصاد الهشيم لذلك الزرع المرّ الخبيث الذي زرعه أساتذتهم الذين خانوا أمتهم ودينهم وأوطانهم ، من أمثال لطفي السيد ، وسلامة موسى ، وقاسم أمين ، وباقي أفراد العصابة الآثمة التي طعنت أمتها ، وقدمت للأعداء أعظم الخدمات .
لقد تربوا على كره الإسلام ومخاصمته ، فلم ينظروا فيه ولم يتعرفوا على عظمته ، ولم يهتدوا بنوره ، فهم جهلة به ، والمرء عدو ما يجهل ، لقد استحضروا في أذهانهم حال النصرانية في أوروبا في عصورها المظلمة ، وما كانت عليه الحال من فساد الكنيسة وطغيانها ، واشتعال الصراع النكد مع العلم ، واضطهادها للعلماء ، وفشلها الذريع في مواكبة التقدم العلمي في العصر الحديث، ونبْذ الغربيين للكنيسة من حياتهم وإقامتها على أساس القيم المادية النفعية فحسب ،حيث كانت الكنيسة تمثل كابوساً بغيضاً ؛ مهيناً للإنسان ، معطلاً لعقله. ثم ما حصل لهم بعد ذلك من التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي . فراح هؤلاء الجهلة يسقطون واقع الغربيين على واقعنا نحن المسلمين ، وصورت لهم أذهانهم الضعيفة ، وجهلهم بتاريخ المسلمين ، أن بقاء الإسلام في ديار المسلمين هو العقبة أمام التقدم والازدهار ، وعموا وصموا عن إنجازات المسلمين الأوائل في مجال العلوم الإنسانية في مجالاتها المختلفة ، وأن سبب الركود والضعف والتأخر الذي أصاب المسلمين هو نتيجة طبيعية وحتمية لتخليهم عن دينهم ، والسماح له بالغياب عن واقع حياتهم ، وابتعادهم عن الفهم الصحيح للإسلام اعتقاداً وسلوكاً ، فجاءوا بمعاولهم ، وراحوا يهدمون .
فماذا كانت النتيجة ، تنامت عقدة النقص عند هؤلاء فبالغوا في جرأتهم على قضايا الدين ، وتقاعست الأمة في الأخذ على أيديهم ، فباضوا وفرخوا ، واستفحل خطرهم في المجتمعات الإسلامية ، وساعدهم أسيادهم من اليهود والنصارى على الوصول إلى المناصب العالية والاستيلاء على مراكز التوجيه والتعليم والتأثير ، وانطلقت مسيرتهم المشئومة تعصف بالأخلاق ، وتهز أركان الإيمان ، فلم تترك فضيلة إلا جهدت في توهينها في النفوس ، ولم تترك رذيلة إلا سعت إلى تهيئة الناس لتقبلها ، ليتحقق لهم ما أرادوا من تقليد الغرب ، لنتقدم مثلما تقدم ، ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف ، لم يبالوا بما وقع ، حيث خرجت أجيال ممسوخة لديها قدر كبير من القابلية للذوبان في غيرها ، سريعة الفقدان لهويتها وقيمها وأصالتها ، وهو ما يسميه مالك بن نبي قابلية الاستعمار ، ويسميه المودودي قابلية الاستعباد ! ، أرأيت كيف انكشف هؤلاء وظهرت خيانتهم ؟! .
إنها صورة عجيبة تدعو إلى الرثاء ، أمة كريمة بدينها وتاريخها ، استسلمت للنوم دهوراً فانتكست ، وتخلفت ، وسيطر عليها أعداؤها ، استيقظ الآن نفر من أبنائها ، وأبصروا الأهوال ، وأدركوا الأخطار ، فراحوا يوقظون أمتهم ، فتصدى لهم هؤلاء ، يعرقلون سعيهم ، ويستعدون عليهم أعداء الأمة ، ينبهونهم إلى خطر الأصولية الإسلامية في بلاد المسلمين . أرأيتم كيف فضحهم الله ، وكشف لنا خيانتهم ؟!
إنها أزمة بكل معنى الكلمة ، ولا سبيل للخروج منها إلا بأحد أمرين : الأول ، أن يقال للشعب وللعلماء : اتركوا دفاعكم عن الدين ، واقبلوا اطروحات العلمانيين المنحرفة ، وعيشوا بلا دين ولا أخلاق ، وهذا ضرب من المحال أكيد ، ونوع من الانتحار خطير .
وإما أن يُكبت العلمانيون ويزجروا ويردعوا عن الزندقة والتجرؤ بجهل وخبث على أصول الدين وشرائعه وأخلاقه ، وتترك الأمة لتكمل مسيرتها في العودة إلى دينها في ثبات وثقة ، ويتولى أمرها عقلاؤها وصالحوها ، ويُعطى لعلماء المسلمين مكانتهم اللائقة بهم ، ويختار منهم للفتوى والتوجيه وقيادة المؤسسات العلمية الإسلامية خيرة الشيوخ ، ويضرب على أيدي المفسدين في المجتمع ، ويٌقدم الصالحون ؛ أنصار الحق والفضيلة ، ويُؤخر الانتهازيون ؛ أنصار الباطل والرذيلة .
وهذا – والله – سبيل النجاة الوحيد ، إما هو ، أو الطوفان ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
المصدر: رابطة علماء المسملين.