مقالاتمقالات مختارة

العلمانيون العرب.. بين الازدواجية و فقد الهوية

بقلم جمال الهواري – مدونات الجزيرة

يتزايد الحديث والجدل من وقت لآخر عن “العلمانية” في العالم العربي وأنها “من وجهة مناصريها” الأسلوب الأمثل للحكم، ولوضع حد للصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية وخلق مساحة للعيش المشترك بين جميع المواطنين على اختلاف معتقداتهم الدينية والسياسية والفكرية والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، وما إلى ذلك من الجمل الرنانة والمصطلحات والعبارات البراقة التي تُطرب من يسمعها ويعتقد أنه قد آن الأوان للعيش في سلام ومودة بين الجميع وأن العلمانية هي الحل الوحيد لكل مشاكل المنطقة “وهو اعتقاد غير صحيح”.

العلمانية تختلف تعريفاتها وقواعدها من دولة لأخرى ومن زمن لآخر، ويذهب بعض الباحثين بأن الفيلسوف الأندلسي “ابن رشد” هو أول من أشار بفصل الدين عن الدولة وترجيح حرية العقل على محدودات الشريعة، وحسب دائرة المعارف البريطانية فإن العلمانية “هي حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الأرضية “الدنيوية” بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأخروية “حياة ما بعد الموت”، وهي تعتبر جزءاً من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الآخر” وهو تعريف قريب الشبه لما طرحه الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” ونظرية العقد الاجتماعي لـ “جان جاك روسو”، الذي يعتبر منظر الثورة الفرنسية وفيلسوفها.

ولكن لو توجهنا بسؤال بسيط إلى الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج حول ما يتبادر إلى ذهنه، وما هي “العلمانية” من وجهة نظره لأجابت الغالبية العظمى وبدون تردد بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وهي إجابة صحيحة نظرياً لكن كلمة فصل هنا يعني بها المواطن العربي “إنهاء واستئصال” الدين بعيداً عن الدولة، ولعل السبب الأكبر والعامل الأهم في ترسيخ هذا المفهوم لدى القاعدة العريضة هو تصرفات وطريقة خطاب “العلمانيون العرب” أنفسهم، حيث حصروا أنفسهم في مهاجمة ثوابت الدين الإسلامي بطريقة غير مباشرة عبر الدخول في عداء واضح وصريح ومباشر مع الرموز الدينية وتيارات الإسلام السياسي وتغليف كل هذا بغلاف هلامي كاذب من ادعاءات بالصراع ومواجهة الأنظمة الديكتاتورية والقمعية في المنطقة” وهم حلفاء وثيقي الصلة بها على أرض الواقع” ولنا في مساندة غالبيتهم للانقلاب العسكري في مصر خير دليل وبرهان.

سقوط الخلافة الإسلامية وقيام النظام العلماني في تركيا على يد “أتاتورك” قدوة العلمانيون العرب، لم يكن نتيجة ثورة على الدين الإسلامي بل بسبب ضعف الحكم والنزاعات الداخلية والضغوط الخارجية.

العلمانيون العرب يعيشون بالفعل حالة قريبة من الفصام والازدواجية حيث قادتهم الفتنة بالنموذج العلماني في الغرب لمحاولة نقله للمنطقة العربية والإسلامية كما هو، وتناسوا أو نسيوا نقطة في غاية الأهمية وهي أن القاعدة الأساسية للعلمانية هي إبعاد السلطة الدينية متمثلةً في الكنيسة عن أمور الحكم وهو الأمر السائد في الغرب وعدم تدخل الدولة في معتقدات الأفراد الدينية مع بعض الاستثناءات عندما يتعلق الأمر بالدين الإسلامي ربما يكون هذا بسبب انتشار ظاهرة “الإسلاموفوبيا” والتي من صدرها وروج لها ورسخها الغرب نفسه، لكن في معظم الدول العربية والإسلامية النخبة العسكرية هي المسيطرة على زمام الأمور وتولي الحكم أو تكون الضامن لاستمرار نظام الحكم القمعي هنا والمتسلط هناك ويقوم معظم رجال الدين بدور “السَنَيد” للنظام واستعمال سلطتهم الروحية للتأثير على الجماهير للخضوع للنظام والتسبيح بحمد الحاكم “إلا من رحم ربي”، ولكن تجد العلمانيون العرب يهاجمون ثوابت الدين الإسلامي عبر تركيز الصراع مع “السَنيد” ويتحاشون مواجهة النظام الديكتاتوري نفسه.

بدلاً من خوض العلمانيين للمعركة الواجبة والملحة وهي مقاومة الأنظمة السلطوية والديكتاتورية “البريتوريانية” الطابع، والسعي للوصول بالمجتمعات لما تصبو إليه من حرية وعدل ومساواة، تجدهم قد وجهوا جل جهودهم وقوتهم لمساندة تلك الأنظمة في قمع الشعوب ودأبهم المستمر على ربط تخلف الأمة وتراجعها بتمسكها بالدين الإسلامي والأعراف والتقاليد المرتبطة به ونكايةً في تيارات الإسلام السياسي عدوها اللدود وكأن أنظمة الحكم في الدول العربية والإسلامية قائمة على الشريعة الإسلامية منذ سقوط الخلافة العثمانية ثم الاستقلال ورحيل المستعمر الأجنبي عن المنطقة.

النقطة الثانية الهامة هو أن سقوط الخلافة الإسلامية وقيام النظام العلماني في تركيا على يد “أتاتورك” قدوة العلمانيون العرب، لم يكن نتيجة ثورة على الدين الإسلامي بل بسبب ضعف الحكم والنزاعات الداخلية والضغوط الخارجية، عكس ما حدث في فرنسا (1789 – 1799) حيث قامت الثورة هناك ضد ثلاثية الملكية المطلقة والطبقة الأرستقراطية والنفوذ الديني الكاثوليكي، وأتاتورك نفسه كان رجلاً عسكرياً واعتمد على نجاح تجربته في الفصل بين الأتراك والعرب والقوميات الأخرى وتركيزه على القومية التركية ومعاداة كل مظاهر الدين الإسلامي وربطه بين الخلافة والدين في رباط واحد وهنا التوأمة العجيبة والتي تكررت في المنطقة العربية عندما تجد العلمانيين والقوميين العرب متوائمين وموحدة جهودهم ضد الجماعات والتيارات ذات التوجه الإسلامي ورجال الدين.

اختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان “السماوية والوضعية” هو أنه دين جامع ومانع ومتداخل في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الفرد والمجتمع والدولة ومؤسساتها ونظام الحكم فيها.

الخلط الدائم والمتعمد من قِبَل العلمانيين العرب بين الدين الكَنسي والدين الإسلامي وتناسيهم المستمر أنه بينما كانت سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على مقاليد الأمور في أوروبا سبباً رئيسياً لتقهقرها وغرقها فيما بات يعرف بقرون الظلام، كان الالتزام بالشريعة الإسلامية وتطبيقها السبب الرئيسي لاتساع رقعة دولة الخلافة وتقدمها وسيطرتها على أراضي شاسعة امتدت عبر القارات الثلاث وأثرت البشرية وأمدتها بما لا يمكن حصره من النتاج العلمي والفكري والثقافي وفي كافة المجالات.

الخطاب المزدوج للعلمانيين العرب في المجمل، فبينما تجدهم يتكلمون باستعلاء ويصمون الشعوب العربية والإسلامية بعدم وعيها وافتقارها للفهم بالقدر الكافي الذي يمكنها من التأكد بأن العلمانية هي الأنسب وكأن الإسلام وليس أنظمة الحكم الديكتاتورية هو سبب التأخر والتخلف، تجدهم في المقابل يصابون بحالة من تقترب من الدونية عندما يتحدثون عن الغرب ومدى تقدمه وتمتعه بالحرية والعدل والمساواة في ظل الحكم العلماني.

الخلاصة
ما يغيب عن العلمانيين العرب هو أن العلمانية قد نشأت في ظل مناخ مناهض ومعادي للدين الكنسي الكاثوليكي، وارتباط الشعوب العربية والإسلامية برباط وثيق الصلة بالدين والعادات والتقاليد المتوارثة واختلاف الدين الإسلامي عن غيره من الأديان “السماوية والوضعية” وهو أنه دين جامع ومانع ومتداخل في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الفرد والمجتمع والدولة ومؤسساتها ونظام الحكم فيها، وشريعة تهتم بالسلوك والأخلاق والاقتصاد والسياسة والعلم وما ترك شيئاً أو أمراً إلا وأوضحه وأبانه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى