بقلم د. وسام عبده
منذ بضع سنوات، شاركت-كمستمع-في محاضرة عن الكتابة الإبداعية، كان يقدمها كاتب بريطاني تخصص في أدب الخيال العلمي، وكان موضوع المحاضرة عن حبكة الرواية. وخلال المحاضرة، طرح المحاضر حبكة افتراضية للمناقشة، وكانت ذروة أحداث هذه الحبكة أن يعرف البطل أن ثمة طفل رضيع سوف يكبر ويصبح رئيس للولايات المتحدة ويتسبب في إشعال حرب نووية تودي بالإنسانية والحضارة. وهنا طرح المحاضر سؤال على الحاضرين، ماذا لو كنت مكان البطل، هل سوف تقتل هذا الرضيع حتى تنقذ الإنسانية؟
التفكير الإسلامي والتفكير المنفلت من حبال الفطرة
كان معظم الحضور من الغربيين، وكانت معظم إجاباتهم أن نعم سوف نقتل هذا الطفل الرضيع. إلا أن شاب باكستاني من الحضور كان له رأي آخر، إذا قال إنك سيدي تفترض أنه ليس هناك إلا حلًا واحد لمسألتك، وهي قتل طفل رضيع يحتمل أن يقتل في المستقبل الملايين، ولكنه في عقيدتي، يستوي قتل فرد مع قتل الناس جميعًا، ثم تلي قول الله تعالى: “مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” [المائدة:32]، ليتبعه بترجمة واضحة باللغة الإنجليزية لمعنى الآية الكريمة، ثم أردف:
إننا لدينا مستقبل هذا الرضيع بأكمله، لننقي فطرته مما لحق بها، ونحسن تهذيب أخلاقه، فإذا كبر كان محصنًا أن يأتي عملًا إجراميًا كإشعال حرب نووية تفني البشرية.
هل هذا الموقف للغربيين خارج عن إطار الفكر العلماني؟
إن هذا النقاش البسيط يمثل الفارق بين التفكير الإسلامي الذي يقدس النفس الإنسانية، وتفكير منفلت من حبال الفطرة. من الظلم أن أزعم أن هذا التفكير، تفكيرًا غربيًا، وبين أهلينا من الشرقين، وبين غيرنا من أمم الأرض المختلفة من يؤمن به ويعتقد فيه، ولكنه فكر علماني، له بنيته ومفاهيمه وقناعاته الخاصة التي تميزه. ولكن كيف يمكن لهذا الفكر العلماني الذي يزعم أصحابه أن هدفه الأول والأخير، أن يؤسس لمجتمع يعيش فيه الإنسان سعيدًا، أن يحكم على طفل رضيع بريء بالإعدام بناء على تنبؤات؟
من المثير حقًا أن تاريخ العلمانية، كان حافلًا بالجرائم، والتي يطول عن هذا المقال سردها، فكيف يمكن تفسير هذه الجرائم في سياق السعي إلى سعادة البشر؟ من الممكن أن تكون هذه الجرائم، حوادث منفردة تشذ عن النمط العام، ولا تعتبر دليلًا يدين العلمانية، ولكن المشكلة إن الدارسة المتأنية للعلمانية يكشف عن عوار كبير في الفكرة العلمانية تتمثل في خلوها من مضمون أخلاقي حقيقي، وبالتالي فإن جرائم العلمانية نتيجة منطقية ومحتومة لهذا الفكر، وهو ما يؤكده عزوف العلمانيين عن الاعتذار عن جرائمهم السابقة، ولا أظن أنهم يفعلون ذلك في المستقبل.
حاجة الإنسان للأخلاق
يكاد يجمع علماء النفس والفلسفة والاجتماع أن الإنسان كائن أخلاقي بفطرته، وإن ميله للأخلاق الحميدة ونفوره من الأخلاق الخبيثة طبيعة فيه، ولذلك فإن مبحث الأخلاق يحتل مكانة واسعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويحاول كل شخص وكل مؤسسة وكل فكر أن يظهر التزامه الأخلاقي، بل حتى هؤلاء الذين يظهرون ممارسات غير أخلاقية، ينزعون إلى تأويلها تأويلًا يجعل منها أخلاقية-ظاهرًا أو على الأقل من وجهة نظرهم-مثال ذلك: المجرم الذي يسميه المختصون في علم نفس الجريمة بالمجرم الفصامي schizotypal criminal، وهو شخص يمارس فعل إجرامي، ولكنه يتعرض لأزمة نفسية بسبب تعارض هذا الفعل الإجرامي مع فطرته الأخلاقية السليمة، ومن ثم ينشأ لديه وهم يبرر له هذا الفعل الإجرامي أخلاقيًا حتى يحفظ اتزانه النفسي، فالمختلس مثلًا قد يبرر اختلاسه لأموال الشركة، بأنه يحصل على ما هو حق له سلبته منه الشركة الظالمة.
الأخلاق العلمانية
لهذه المكانة المهمة للأخلاق في حياة الأفراد والمجتمعات، حرص الفلاسفة دائمًا على معالجة هذا الموضوع في فلسفتهم، حتى أفردوا مبحثًا خاصًا في الفلسفة للأخلاق. ولم تشذ العلمانية عن غيرها من الفلسفات في التماس مغزًى أخلاقي تبني عليها تصورها للإنسان والكون والتاريخ، وأعادت تعريف الأخلاق على أنها ما يسعد الإنسان، بينما رفضت أن تكون هناك أخلاق مطلقة واعتبرت كافة الأخلاق نسبية.
هناك أبحاث عدة نشرها مفكرين علمانيين عما هي أخلاق العلمانية، ولكنه إلى الحين لا يوجد اتفاق بينهم، ولكن الحد الأدنى الذي اتفقوا عليه تمثل في الشعار الذي تبنته الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة، ولكنه عندما نعرف أن الجنود الفرنسيين الذين غزو الجزائر عام 1830م، وارتكبوا يومئذ أبشع الجرائم في حق الشعب الجزائري، كانوا ممن ولدوا ونشئوا في ظل شعار الثورة الفرنسية، فإنه يصبح من الواجب أن نطرح هذا السؤال:
هل أخلاق العلمانية حقيقة أم هي محض خرافة؟
الحرية مثلًا لقيمة أخلاقية علمانية
يضيق المجال عن دراسة ما يسمى بالقيم الأخلاقية العلمانية جميعها، ولكن نكتفي بالوقوف عند قيمة الحرية التي تعتبر أسمى قيم العلمانية، لنتحقق هل منحت العلمانية الإنسان حريته المنشودة؟ ولن نعرض لموضوع الحرية في المدرسة اليسارية من العلمانية، ففضائح اليسار في استعباد الأفراد والمجتمعات واضحة للأعمى. ولكن سوف نعرض للحرية في مفهوم المدرسة الليبرالية من العلمانية، المدرسة التي اشتقت اسمها من هذه القيمة.
-
الحرية في الاقتصاد
فالمذهب الليبرالي في الاقتصاد والذي يقوم على حرية العمل، كان في واقع الحال يقوم على حرية الكسب، وهو ما أدى إلى شيوع الربا الفاحش والاحتكارات، وغيرها من أدوات الكسب بدون عمل، لينتهي الأمر إلى اقتسام الثروة في المجتمعات الليبرالية بين قلة تتداول الثروة فيما بينها، وكثرة لا تملك إلا ما يكفي لاستمرارها على قيد الحياة.
ثم جاءت الطبعة الأحدث من الليبرالية، الليبرالية الجديدة، فزادت الطينة بلة، ووسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفي غياب أي نظام لمنع تداول الثروة بين فئة معينة، نجد أنه في العام 2015، كان ما بين 15% إلى 20% من سكان الولايات المتحدة، وطن الليبرالية الجديدة، يحيون تحت خط الفقر، أي أن الفرد الواحد من هذه الفئة يكسب ما دون ستة دولارات يوميًا. كما أن الكوارث الاقتصادية التي تتناول المجتمع الأمريكي من آن إلى آخر، مثل انهيار بورصة نيويورك عام 1987 وأزمة الديون العقارية عام 2013، لا تضرب عادة أصحاب الثروات، ولكنها تعصف بأصحاب المدخرات الصغيرة عصفًا وتدمر حياتهم وأسرهم.
(المصدر: أمة بوست)