مقالاتمقالات مختارة

العلمانية المتأسلمة

بقلم د. عدنان بن محمد أمامة

من أكثر المفاهيم التي جرى بشأنها خلط ولبس في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر مفهوم الحرية الشخصية وحدودها في التصور الإسلامي حيث ذهب كثير من الكتاب الإسلاميين إلى مقاربتها بالحرية الشخصية في الفكر الغربي وقرروا أن الإسلام يصون لمن يعيش في كنف الدولة الإسلامية حرية التعبير عن فكره ومعتقده حتى لو كان فكرا إلحاديا منكرا لوجود الله فضلا عما سوى ذلك من انحرافات في التصور، بشرط أن لا يتعدى أحد على نظام الدولة العام.

وقد أتي هؤلاء من جهلهم أو تجاهلهم لأصول الشريعة وقواعدها في استنباط الأحكام، وأخذهم لطائفة من النصوص، وإعراضهم عن طائفة أخرى، وعدم جمعهم لكامل الأدلة في الباب الواحد،
فرأيناهم تعلقوا بمثل قوله تعالى “لا إكراه في الدين” وقوله “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” وحملوها معان أكثر بكثير مما تحتمله،

وقالوا ما دام أن القرآن الكريم ترك للناس حرية اختيار الدين الذي يرونه فهم أحرار في نشر هذا الدين والدعوة إليه، بل وفي نقد الإسلام والقرآن، ومن باب أولى في أن يجاهروا بما لا يرونه منكرا في دينهم من رفع شعارات الكفر وشرب الخمور وتعري النساء.

ولم يحصروا الأمر بالكفار الأصليين بل ألحقوا بهم من يرغب أن يرتد عن دينه من المسلمين وأنهم كالكفار يجوز لهم أن يمارسوا قناعاتهم التي وصلوا إليه دون أي حجر،

والبعض يتوسع في هذه الحريات لتشمل المسلمين إذا شاء أحدهم أن يرتكب شيئا من المعاصي ولو كانت من الفواحش والموبقات وأن الحرية لكل من سبق مصونة في الدولة الإسلامية وحق من حقوق المواطنين ما لم يخل أصحابها بنظام الدولة العام.

وفي الحقيقة هذا في جوهره علمنة للدولة الإسلامية وإلحاق لها بما يريده الغربيون تماما.

وبإمكاننا الوقوف على بطلان ما ادعاه هؤلاء وأنه افتراء على شرع الله من خلال استعراض الأدلة التالية:

1- من مقاصد الشريعة المعلومة لعامة المسلمين فضلا عن خاصتهم سعي الإسلام الحثيث للهيمنة على الأرض جميعها، وإظهار الإسلام على سائر الأديان، وإخضاع العباد لشريعة رب العباد وقد دل على ذلك مئات النصوص من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” وقوله “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”.
وعلى ذلك دلت الممارسة العلمية للرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده في جهادهم وفتوحاتهم ما يحتم على الباحث المنصف أن لا يفهم من النصوص التي قررت عدم إكراه الناس على ترك دينهم الحرية المطلقة لهم بنشر دينهم والدعوة إليه كما زعم الزاعمون، بل المراد منها عدم إجبارهم على التخلي عن دينهم، وحرية ممارستهم لطقوسهم وشعائرهم في محيطهم المغلق كما نصت على ذلك العهدة العمرية، وأن المراد بآيات القتال إزاحة كل قوة تقف في وجه وصول الإسلام إلى كافة الناس ليقرروا بمحض اختيارهم الدخول فيه أو البقاء على أديانهم وهذا ما ترجمه واقع الفتوحات الإسلامية.

2- النصوص الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخرى التي رتبت اللعن على ترك هذه الشعيرة العظيمة مثل قوله تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون والثالثة التي بينت وجوب تغيير المنكر باليد عند القدرة مثل قوله تعالى على لسان موسى بشأن عجل السامري “وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا” وتحطيمه صلى الله عليه وسلم لكل الأصنام في مكة عام الفتح، والعقوبات الشرعية التي رتبها الإسلام على بعض المنكرات كحد الزنى ولو كان بالتراضي وحد شرب الخمر وعقوبة تارك الصلاة وتارك الزكاة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعد في تنفيذ هذه العقوبات.

فكيف يستقيم ذلك مع القول بتقديس الإسلام للحرية الشخصية؟

3- عقوبة المرتد عن الإسلام حيث انعقد إجماع المسلمين من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على تجريم هذا الفعل ومعاقبة صاحبه ولو كان خيارا شخصيا وبصرف النظر عن كونه رجلا أو امرأة، وقد قام الصحابة الكرام والخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم بتطبيق هذه العقوبة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة.

فهل كل هؤلاء خالفوا تعاليم الإسلام ومارسوا سياسة القمع والإعدام لمخالفيهم؟

4- أين توجد في الكون هذه الدولة التي تتيح لمن يعيش فيها أن يمارس حريته المطلقة كيف شاء؟ وهل يبقى هناك قانون أو نظام؟
والواقع يثبت أنه ما من دولة إلا ولديها قائمة كبيرة من المحظورات التي تجرم فاعليها وتعرضهم للعقوبة، فلماذا يجيزون هذا لأنفسهم ويحرمونه على الإسلام إلا أن يكون الحقد والغيظ من أن يعلو دين الله سبحانه وتعالى.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى