بقلم أ. أسامة شحادة
العلمانية أزمة وليست حلا هي الخلاصة التي ترسخت لدي بحضوري ندوة “العلمانية: الدولة والديمقراطية والدين” والتي نظمها مركز بيسان قبل أسبوع في عمان، رغم أن كلمات المتحدثين الستة في الندوة ورئيس المركز المنظم كانت لصالح العلمانية إلا أنها كشفت بوضوح أزمة العلمانية كفكرة وفلسفة وتطبيق عالمياً وإقليمياً ومحلياً من جهة، وكشفت أزمة العلمانيين الأردنيين وتبايناتهم وخلافاتهم من جهة أخرى، وسأحاول تلخيص ذلك في النقاط التالية:
1- منذ البداية صرح أكثر من متحدث بأنه لا يملك أجوبة علمانية على أسئلة الواقع السياسي والاجتماعي بخصوص الدولة والديمقراطية والدين، لأن العلمانية أصلاً مفهوم غير متفق عليه بين العلمانيين!
وهذا العجز عن تقديم الأجوبة العلمانية هو لأن العلمانية أزمة بذاتها، فالعلمانية هي من قامت بالحروب العالمية التي قتل فيها عشرات الملايين من البشر وتم اغتصاب عشرات الآلاف من النساء بأوامر علمانية في قلب أوروبا، أو مئات الملايين الذين قتلوا على يد الثورات الشيوعية في روسيا والصين وكمبوديا وغيرها، والعلمانية هي من استخدمت السلاح النووي، والعلمانية هي من هدمت الأسرة وحطمت الأخلاق في العالم، والعلمانية هي من فرضت علينا احتلال اليهود لفلسطين ولا تزال تحطم كل تحركاتنا للتحرر والنهضة حفاظاً على كيان اليهود في فلسطين.
2- تباين المتحدثون في نظرتهم للعلمانية، فبعضهم اعتبرها أداة ووسيلة تنظم شؤون المجتمع، وبعضهم رفض ذلك وأصر على أنها فلسفة شاملة وأيديولوجية كاملة، يجب أن تؤخذ كاملة.
ثم اختلفوا في الموقف من الدين؛ فبعضهم نفى أن تكون العلمانية إلحادا وكفرا، وبعضهم أصر على أن الدين يناقض العلمانية ويتصادم معها وأنه لا بد من طرح سردية جديدة تتعامل مع الله والكون والناس!
ثم تباين أصحاب العلمانية الصلبة الملحدة في كيفية التعامل مع الأغلبية المطلقة للجماهير المتدينة من المسلمين والمسيحيين، فبعضهم مال للتحايل والتلفيق بقبول الدين في المواضع التي يتوافق فيها مع العلمانية، وبعضهم نظر لتطويع الدين لنظرة العلمانية بفرض تعديلات عليه، وبعضهم كان صريحاً بضرورة الصدام مع الجماهير الجاهلة وفرض (العقلانية) عليها!
وهذا الصراع مع الدين هو جوهر العلمانية التي لم تنشأ إلا بسبب الصراع مع الكنيسة في أوربا كما بين المتحدثون في الندوة، والتي كانت تحتكر السلطة الدينية والدنيوية، وبدلاً من أن تقيم دولة العدل والرحمة والعلم أقامت دولة الظلم والإقطاع والجهل، فدعمت الأغنياء وحاربت الفقراء وطاردت العلماء، مما جعل أوربا تثور على طغيان الكنيسة وحلفائها وكان شعار الثورة الفرنسية “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”.
لكن في عالمنا الإسلامي وعبر تاريخنا كله لم نعرف هذه الصراعات والمظالم، فلا الظلم الذي وقع كان بحجة دينية إلا في دولة الفاطميين والصفويين الشيعة وفي عهد تسلط المعتزلة، والشيعة والمعتزلة اليوم هم حلفاء العلمانيين وكأن التاريخ يعيد نفسه!
ولم يعرف الإسلام محاربة العلم والمعرفة إلا حين تسود الصوفية المنحرفة التي تعظم الجهل ليروّج زعماء الطرق الخرافة والشعوذة ويحوزوا السلطة الشعبية والمال، وعادة ما تتحالف معهم السلطات في وجه العلماء المصلحين، وهذا تقريباً ما حصل في مؤتمر الشيشان مؤخراً تحت عنوان “من هم أهل السنة والجماعة”، حتى استحقوا لقب سنة بوتين!
3- لم يتمكن المتحدثون من إفادة الحضور بالعلاقة بين العلمانية والدولة المدنية والديمقراطية، فقد صرحوا أن هذه المفاهيم غائمة وغير محددة الملامح والتطبيقات، وهي في العالم ليست على وتيرة واحدة، فليست كل العلمانيات ديمقراطية، وليست كل الديمقراطيات مدنية، وليست كل المدنيات ديمقراطية!
ولجأ بعضهم للمطالبة بتجاوز الشعارات والأسماء والتركيز على المضمون أو بعض المطالب بشكل واضح لتحقيق شيء ملموس على الأرض بغض النظر عن اسمه!
وهذا كله لأن العلمانية في الحقيقة هي أهواء بشرية تخضع للقوة والمصالح المتغيرة عبر الزمن، وكلما تعقدت الحياة وكثر اللاعبون الأقوياء وتباينت مصالحهم يتم تعديل العلمانية وتبديلها وتغيير أولوياتها، ولذلك في حين اتفقت العلمانية على إقصاء الدين إلا أنها اختلفت في البديل عنه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً فظهرت الليبرالية والماركسية والرأسمالية والحداثة بتنوعاتها المختلفة وتركيباتها المتعددة، والتي أصبحت تصل لحد جمع المتناقضات، العلمانية كصنم العجوة في الجاهلية يعبدونه وإذا جاعوا أكلوه!
4- تشابك المتحدثون حول قضية توظيف الدين في الدعاية والترويج للعلمانية باستخدام الدين، ففي حين حاول البعض الاستشهاد بقوله تعالى “ولقد كرّمنا بني آدم” على تأييد القرآن الكريم للعلمانية التي تعلي من شأن الإنسان، قام آخر بالزعم أننا في عصر ختم النبوة وانقطاع الوحي الذي يقتضي استقلال الإنسان بتدبير شؤونه، فيما يشكل ذلك استغلالا سياسيا علمانيا منحرفا للدين لتبرير العلمانية.
قام البعض الآخر برفض هذا المسار الذي يتناقض مع جوهر العلمانية المفاصل والنابذ للدين، لأن هذا يخالف الحقيقة والموضوعية، ولأن هذا بحسب متحدث آخر يفرز مشكلة جديدة للعلمانية الصلبة التي تريد اجتثاث الدين أصلاً فكيف تستند إليه!
والتوظيف السياسي للدين مع تحريفه لخدمة العلمانية أو الإلحاد هو مغالطة أدمن عليها كثير من العلمانيين في ترويج باطلهم ودعاياتهم البراقة بالحرية والتحرر لجذب الغالبية المتدينة والتي ترفض مطالبات العلمانيين المنافية للدين والعقل والمصلحة.
5- برغم أن المتحدثين رددوا كثيراً في حديثهم عبارات جميلة من مثل: الحريات، العقلانية، الديمقراطية، التعددية، التسامح، تقبل الآخر، الاحتكام للصندوق، إلا أنهم في النهاية اتفقوا أن شعوبنا جاهلة -حتى غالبية حملة الشهادات الجامعية- ولا تستحق حرية الاختيار وتقرير مصيرها!
وهذه هي أزمة العلمانية الحقيقية وهي ادعاء امتلاك واحتكار الحقيقة المطلقة والتي ما عداها جهل وتخلف ورجعية! برغم تباينهم الشديد في تحديد ما هي العقلانية؟! ولقد استفز هذا الحضور الذين عقبوا على المتحدثين.
ولذلك فإن العلمانيين ينسجمون مع أنفسهم حين يصطفون مع الطغاة والديكتاتوريين ضد غالبية الجماهير كما هو الحال الآن في زمن الربيع العربي إذا منحهم الطاغية بعض السلطة لأنهم واثقون من الفشل في أي اختبار ديمقراطي حر!
فالعلمانيون أصحاب نفسية متعالية تدعي احتكار الصواب وترمي المخالف بالجهل والتخلف ولا علاج عندهم لهذه الشعوب الهمجية إلا بفرض العلمانية عليها بالحديد والنار لأنها لا تعرف مصلحتها، بدلاً من صناديق الاقتراع، وهذا يتفق تماماً مع كلمات المنظر الأول والأكبر للعلمانية في العالم جون لوك في كتابه “التسامح” حين حرم مخالفيه من حق الحرية والديمقراطية، وعاش التسامح!
6- أكد المتحدثون أن العلمانية في الغرب ترتكب الكثير من التناقضات مما يحير العلمانيين العرب، فالغرب العلماني يصر طيلة عقود على رعاية دولة دينية هي دولة اليهود في فلسطين، وهذا الدعم يتم حشده تحت مبررات دينية صرفة ومن أعلى المستويات السياسية في الغرب!
وأن الغرب العلماني أيضاً تحالف مع قوى دينية في أفغانستان ضد احتلال روسيا، مما يشكل صدمة للعقلاء من العلمانيين العرب، وهذا في الحقيقة جزء من أزمة العلمانية الجوهرية وهي استحالة نزع الدين من الوجود كما يحاول ذلك الملحدون من العلمانيين، وأيضاً أن الدافع الديني هو أقوى الدوافع في العمل السياسي مهما أنكر ذلك العلمانيون، فلم تعرف البشرية طيلة حياتها شعبا أو حضارة بلا دين!
أيضا اعترف المتحدثون أن النموذج العربي للدول العلمانية نموذج فاسد ديكتاتوري مستبد، مما يؤكد أن العلمانية في عالمنا وبرغم مرور عقود عليها لم تنتج لنا إلا الخراب والفساد والتخلف، وأن العلمانيين أيضا متناقضون مع شعاراتهم بالحرية وحقوق الإنسان كحال العلمانية الغربية، ولهذا فإذا عاون العلمانيون الغربيون المجاهدين الأفغان للتحرر من العدوان الروسي، فإن العلمانيين العرب المتلحفين بشعارات المقاومة والممانعة كانوا أكثر سوءا حين ناشدوا الروس والأمريكان المجيء لاحتلال دولنا في وجه الشعوب العربية الرافضة للعلمانية وحليفتها الطائفية الشيعية!
7- كشفت الندوة بوضوح عن انقسام العلمانيين في الأردن لطبقات، فمنهم من يرى العلمانية أداة وليس عنده عداوة مع الدين بذاته، وهؤلاء عند العلمانيين الصلبين أغرار و(سنافر)، وهم يحاولون الجمع والمزج بين مقتضيات النظام الدولي ودينهم وتقاليدهم وعاداتهم المنبثقة من الدين.
وهناك طبقة أخرى تؤمن بوضوح أن العلمانية فلسفة كاملة ليس للرب والدين مكان فيها سواء اعتقدوا أن خالقاً خلق الكون ثم تركه وشأنه أو كانوا جذريين فآمنوا بالصدفة العمياء كسبب لظهور الكون! وبهذا الاعتبار يؤكد كثير من الباحثين على أن العلمانية دين جديد يقدم تصوراته الغيبية الميتافيزيقية عبر نظرية التطور وغيرها ويتحكم بشؤون الناس، وقد سبق لمؤسسي العلمانية التصريح بعبادة العلمانية وبناء كنائس لها واختراع دين جديد للبشرية كما فعل أوغست كونت بما سماه (الدين الوضعي) واعتباره أعلى مراتب تطور الحضارات!!
وهؤلاء بدورهم قسمان؛ الأول صاحب فكر ونظر والموضوع عنده شخصي، والثاني يحمل الموضوع كمشروع سياسي يناضل من أجله ويصارع، ويرى الوقت ملائماً لرفع الصوت به عاليا والكشف عنه بكل وضوح.
8- وأخيراً فقد كشفت الندوة عن أن العلمانيين يقعون في تناقض كبير حين يَتهمون خصومهم وهم غالبية المجتمع من المتدينين بأنهم يسببون التوتر في المجتمع بسبب الدين! ولذلك يرفع العلمانيون شعارات فصل الدين عن الدولة أو إزاحة الدين عن الشأن العام، بينما الحقيقة أن محاولة العلمانيين فرض العلمانية على الشأن العام وتطويع الأغلبية لرؤيتهم غير المقبولة في الشارع بحسب صناديق الاقتراع، هي سبب التوتر في الشارع وبين الناس.
وتعويضا عن فشلها في صناديق الاقتراع تسعى العلمانية لفرض رؤيتها على المجتمع من خلال توظيف اتقانها لاستخدام أدوات التأثير الإعلامي والقانوني والسياسي مدعومة من المنظمات الدولية لصالح أجندتها غير الشعبية، في تجاوز لشعارات الديمقراطية والتعددية وانسجاماً مع احتقارها لغالبية الشعب ووسمه بالجهل والتخلف!
(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)