بقلم عيسى محمد علي
غير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام، أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس، ففضائهم في الكتاب والسنة مشهورة، ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عبادة في تبليغ الشريعة والدلالة عليه جل وعلا، قال سفيان بن غيينة: (أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء) فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم، يحتاج إليهم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحاكم والمحكوم، فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوءوا في الأمة من المكانة والمنزلة، فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم، ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.
ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان، كما قال ـ تعالى: (إذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهروهم واشتروابه ثمنا قليلا فبئس ما يشترون)([1]). وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال ـ تعالى: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما يعملون)([2]). وقال ـ تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)([3]).
وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمسفيها سبل الهدى، ويلتبس فيه الحق بالباطل، وتستحكم فيها الأهواء، ويتبع الناس فيها كل ناعق، ويخفي فيها الحق علىطالبة، ولذلك لا نور فيه، كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)([4]).
ولقد مرت أمة الإسلام عبر تاريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة، قيّض الله فيها للأمة من أهل العلم والفضل واهل النصح والعدل من انقذ بهم الأمة وحفظ بهم الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)([5])، وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة الظاهرة المنصورة.
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها، تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم، العاملين لدينهم، الناصحين لأمتهم، العالمين بواقع الأمة وما يخيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة، فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا أن يترجل الفارس، وأن ينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح ومواقع التأثير والإصلاح! بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة والبناء بإخلاص وجد وعلم وبصيرة، فإن نصر الله ـ عز وجل ـ ونصر دينه واجب على أهل الإيمان، قال ـ تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)([6]).
ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في نفسه من نصرنا لله ـ تعالى، فينبغي أن لا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئا، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري من حديث ابي هريرة ـ رضي الله عنه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات)([7])، فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما قل في أعين الناس وصغر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ لما رأى لنفسه على من دونه فضلا: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)([8])، ورواه النسائي بلفظ: (إنما تنصرون وترزقون إلا بصعفائكم)([9]).
إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم وفي إنقاذ الأمة، والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن، والإبحار بها نحو الغايات العظام، لا يمكن بلوغه و سبيل إلى دركه إلا بأسباب تمخربها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة، فإن السفينة لا تجري على اليبس، وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر، من إخلاص العمل لله ـ تعالى، وإصلاحه بمتابعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم، وتقوى الله ـ تعالى ـ في السر والعلن، والنصح للأمة، والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر، وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله ـ تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)([10])، وقوله ـ تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)([11])
إن كثيرا من أهل العلم الذين يحملون همّ هداية الأمة وإصلاح أوضاعها لا يخفى عليهم ما لهذه الأسباب من الأهمية والأثر، إلا أنهناك سببا رئيسا غائبا غفل عنه كثيرون،وهو لا يقل أهمية عن الأسباب المتقدمة لإنجاح دور العلماء المنشود في إنقاذ الأمة من الفتن والمحن، ألا وهو تواصل أهل العلم فيما بينهم ونواصيهم بالبر والتقوى والصبر والمرحمة وتعاونهم في تلك.
إن أهل العلم بحاجة ماسة إلى أن يمدوا بينهم جسور المحبة والألفة والاجتماع والأخوة والمشورة، فإن كثيرا من الخير وحظا وافرا من الإصلاح يتحقق بذلك.
ويتأكد هذا التواصل والتواصي في النوازل الكبار والأزمات الجسام لأمور عديدة، أبرزها ما حوته النقاط التالية:
أولا: أن معالجة ما تمر به الأمة من أخطار، ومواجهة ما يعصف بها من أحداث، أمر يفوق جهود الأشخاص ويتجاوز طاقات الأفراد مهما كانت المعية عقولهم ورسوخ علومهم، وقد كان سلفنا يقولون في بعض ما يرد عليهم من مسائل العلم: هذه مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر! فإذا كان هذا هديهم في المسائل الشخصية الفردية، فكيف بالنوازل المصيرية التي يتأثر به واقع الأمة ويرتسم بها مستقبلها، أيسوغ أن يبت فيها فرد أو يستقل به رأي؟! فليت شعري، من الذي تقوي درعه على تلك السهام؟! فلابد من تضافر الجهود، وتراص الصفوف، ونبذ الاعتداد بالنفس، والاستبداد بالرأي، وتضخيم الذات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
ثانيا: أن جزءا كثيرا مما اصاب الأمة ويصيبها من الفتن والنكبات إنما هو بسبب ما جرى في الأمة من التنازع والفرقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الاعداء عليها).
ثالثا: أن مما يؤكد ضرورة أهل العلم إلى وصل ما بينهم في أيام الفتن وتواصيهم بالحق والصبر، أن الفتن أعاذنا الله منها تغير القلوب، وتشوش عليها بما تبعثه من الشبهات المانعة من معرفة الحق والحائلة دون قصده، ولهذ وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها كقطع الليل المظلم، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم)([12])، ووصفها أيضا بأنها عمياء صماء، كما في سنن أبي داود (3706) من حديث حذيفة. وإنما وصفت الفتنة بذلك، لأن الإنسان يعمى فيها عن أن يرى الحق، وأن يسمع فيها كلمة الحق.
رابعا: أن واجب النصيحة للأمة يتطلب من أهل العلم ورثة الأنبياء أن يبذلوا وسعهم في دلالة الأمة على خير ما يعلمونه لهم، وأن يحذروهم شر ما يعلمونه لهم، وإنما يبلغ الناصح ذلك بالاجتهاد في تبيين الصواب ومشاورة أولى الألباب من إخوانه، فقد أثنى الله على أهل الإيمان بهذا، فقال في سياق الثناء عليهم: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)([13]).
وما كان أغنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أي يشاور أحدا وقد تكفل الله له بالهداية والنصر، ومع ذلك فقد أمره الله ـ تعالى ـ بمشاورة أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فقال ـ تعالى: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)([14])، ولقد بادر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأخذ بذلك حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كما في الترمذي: (ما رأيت أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم)، فواجب على ورثته أن يتأسوا به قال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، وجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل.
وقال بشار بن برد:
إذا بلغ الراي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافـي قـوة للقـوادم
ولا طريق إلى تحصيل ذلك مع هذا التقاطع الذي يخيم على علاقة كثير من أهل العلم والفضل، ويعد من أكبر العوائق دونه.
خامسا: أن كثيرا من الشر وفساد ذات البين الواقع بين أهل العلم، منشؤه ما يكون بينهم من تباعد وتقاطع بورثهم بذور الجفوة التي يسقيها سعاة الباطل ونزغات الشيطان، فالتواصل والنواصي ضمان لتضييق الدائرة على أسباب الفرقة، وهو كفيل بمحو بذور الجفوة، وإشاعة الألفة والمحبة، ومما قيل: المحبة شجرة أصلها الزيارة[15].
[1] سورة آل عمران الآية: 187.
[2] سورة البقرة الآية: 140.
[3] سورة البقرة الآية:159.
[4] رواه مسلم، رقم (169) من حديث ابي هريرة ـ رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري، رقم (6767)، ومسلم، رقم (3545).
[6] سورة محمد الآية 7.
[7] رواه البخاري، رقم: (5997).
[8] رواه البخاري، رقم (2618).
[9] رواه النسائي، رقم (2127).
[10] سورة الأعراف الآية: 199.
[11] سورة السجدة الآية: 24.
[12] رواه مسلم، رقم (169).
[13] سورة الشورى الآية: 38.
[14] سورة آل عمران الآية 159.
[15] مجلة البيان، السنة الثامنة ـ العدد: 191ـ رجب 1424هـ سبتمبر 2003م، ص: 109 ـ 110.