العلماء بين الإجحاف والتقديس
بقلم إحسان الفقيه
لا ريب أن محبة العلماء نابعة من محبة الدين، إذ أن العلماء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هم ورثة الأنبياء، والذين لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا هذا العلم، ولذا ينبغي توقير ورثتهم من أهل العلم وتقديرهم.
وإن الأمة لتمر بأحوال عصيبة في غياب صوت العلماء الربانيين الذين كُمّمت أفواههم وكُسرت أقلامهم أو غيبوا في السجون والمعتقلات، وصارت الكلمة المسموعة والمساحات المفتوحة فقط لعلماء السلطة.
إن العلماء يواجهون اليوم حملة شرسة من قبل العلمانيين وأدعياء التنوير، بهدف الإطاحة بهم من اهتمامات الجماهير، ليكون الطريق مفتوحا لينال منها الجهل، ومن ثم يتم تمرير مخططات هدم هذا الدين وثوابته، وبناءً على ذلك ينبغي دعم علماء الحق ونصرتهم وتعزيز ثقة الناس بهم والالتفاف حولهم.
بيد أن العادة قد جرت بأن التطرف يقابله تطرف آخر، ففي مقابل التطرف في تسفيه العلماء والتشغيب عليهم بدعوى حرية الفكر واستقلالية التفكير والخروج من ربقة التبعية والتقديس، نجد أن هناك تطرفًا آخر في إضفاء القداسة على العلماء والغلو فيهم وإنزالهم منازل أعظم من منازلهم واعتبارهم مَعْقدًا للولاء والبراء ونحو ذلك من أوجه التطرف.
وكما دافعت مرارًا عن العلماء ضد التشغيب والتأليب عليهم – وهذا بعض حقهم علينا – أواجه كذلك آفة الغلو فيهم، وهذا في كثير من الأحيان يتم ترجمته من قبل البعض على أنه مسايرة للعلمانيين والتنويريين في هجومهم على العلماء، وخدمة لتوجهاتهم الهدامة.
لكن برأيي ينبغي ألا تدفعنا هجمات العلمانيين على علمائنا إلى ترك المغالين فيهم صرعى لهذه الآفة، بل ينبغي التحذير من التطرف بكل أنواعه.
وكنت قد كتبت تغريدة أرفض فيها الغلو في الشيخ القرضاوي حفظه الله، قد فهمها بعض إخوتي بشكل مغلوط، واعتقدوا أنه انتقاص من قدر الشيخ الذي عرف بصدعه بالحق ومواجهة المستبدين بالكلمة.
والشيخ حتمًا ليس مسؤولا عن غلو بعض أتباعه فيه وتقديسهم إياه، بل على العكس من ذلك، فالشيخ من أبرز علماء عصره الذين يدعون إلى تحرير العقل والفكر من الاستبداد بجميع صوره، غير أن البعض قد غالى فيه، ووالى وعادى عليه، ورأى فيه المرجعية الوحيدة من علماء الأمة، ويقيني أن الشيخ نفسه لا يرضى بذلك.
هؤلاء يضرون العلماء أكثر مما ينفعونهم، فيجعلوننا في مرمى الاتهام بالتخلف والرجعية وإلغاء العقل والشخصية والتقليد الأعمى، وهي نقطة يطنطن حولها العلمانيون كثيرا، والذين يطرحون أنفسهم كأصحاب فكر تحرري مستنير يحترم العقل والذات.
لقد تعلمنا من علماء الأمة ألا نقدسهم، فهم الذين نقلوا إلينا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن، فهو القائل صلوات ربي وسلامه عليه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) أي لا تبالغوا في تعظيمي ولا تنزلوني منزلة لم ينزلني الله فيها.
وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا قول بعد قوله، ولا اجتهاد مع نص صريح صادر عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه على أناسٍ قدسوا أقوال أبي بكر وعمر، فقال: “: يُوشكُ أن تُنَزَل عليكم حجارةٌ من السماء ، أقولُ قال رسول الله وتقولون قال أبو بكرٍ وعمر”.
وعلى هذا المنهج سار علماء الأمة الثقات، فيقول الشافعي رحمه الله: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس”، وقال:” إذ صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط”.
ومن قول الإمام أبي حنيفة لأبي يوسف:” لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه”، وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدا، وقال مالك: أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي: فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه.
ولأن حديثي كان عن الشيخ القرضاوي الذي يعد أبرز الرموز العلمية لجماعة الإخوان والمرجعية العلمية الأعلى للجماعة، فقد رأيت أن أسرد موقفا للمؤسس الشيخ حسن البنا رحمه الله في هذا الجانب، توضح حرصه على عدم غلو أتباعه فيه.
كان رحمه الله يتجول كثيرا في القرى والمدن، وفي إحداها كانت الجماهير تنتظره في شغف، فكانوا طيلة وقت استقباله يحاولون تقبيل يده على عادة الناس مع العلماء والكبار، فكان يرفض بسحب يده، وعندما اقتربوا من الجمعية رأى صورته موضوعة فوق منصة الخطابة، فقال لأحد تلاميذه: “لمن هذه الصورة”، فقال: إنها صورة الشيخ البنا، فقال البنا: «إذا كان الشيخ البنا موجود شخصيًّا فما الداعي لوجود هذه الصورة، اذهب فأنْزِلْها»، فلما اعترض الناس أخبرهم الشيخ أنه هو من أمر بذلك.
ويحكى أنه كان يجالس أحد المدرسين، فدخل عليه جمع من الإخوان يسلمون عليه بحرارة وشغف، فقال له المدرس: يا أستاذ، إن الإخوان يحبونك إلى حد العبادة، فما كان من البنا إلا أن عاتبه على هذا اللفظ عتابًا قاسيًا وقال له: “إن هذا التعبير غير إسلامي جاءنا به الأدب الأوربي والميوعة الغربية، وانزلق إلى ألسنتنا وأقلامنا بحكم التقليد الأعمى، وإن من واجب كل مسلم أن يحترس من مثل هذه التعبيرات والألفاظ”.
إن الله تعالى قد جعلنا أمة وسطا، وسطا في كل شيء، وسطا في عباداتها وتشريعاتها وأخلاقياتها ومبادئها ومعاملاتها وفي الحكم على الناس وكل شيء حتى في النظرة إلى الرموز، فينبغي التزام هذا المنهج الذي ألخصه في هذه الكلمات للتذكرة:
العلماء ورثة الأنبياء وحاملو الشريعة إلينا، واجتهاداتهم ثروة لنا، ينبغي دعمهم ومساندتهم ضد حملات التشويه والهدم، والالتفاف حولهم، وفي الوقت نفسه لا ينبغي تقديسهم والغلو فيهم، فهم بشر يخطئون ويصيبون، ليسوا معصومين، وليس لأحد منهم احتكار الحق المطلق، ولكل منهم زلة أو زلات لا يوافَق عليها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر: موقع إحسان الفقيه