العلماءُ المَمسُوخُون
بقلم محمد خير موسى
احتياجُ النّاسِ إلى العلماء في الأزمات ثمّ لا يجدونهم
في الأزمات الطارئة، والنّوازل الدّاهمة، والخطوب الفادحة، والظّلمات الحالكة، يهرع النّاس إلى مَن يظنّون أنَّ الحلّ عندهم، فالنّاس في الأزمات تظهرُ بجلاءٍ حاجتهم إلى المرجعيّاتِ؛ أشخاصا كانوا أم مؤسّسات.
وأوّلُ من يظنَّ النّاس في الأزمات أنَّ الحلّ عندهم هم علماء الشّريعة، فهم ورثة الأنبياء وحمَلُةُ الوحي والموقّعونَ عن ربّ العالمين.
وتكون الكارثة عندما يقع النّاس في حيصَ بيص، فيهرعونَ إلى علمائهم فلا يجدون الكثيرَ منهم. يرونَهم بينهم ومعهم، ولكنّهم لا يجدونهم، بل يجدونهم في الصّف الآخر، حيث ينبغي أن لا يكونوا، أو يجدونَهم قد تلفّعوا بالصّمت العميل.
هذه الحالة التي تلتطمُ فيها الجماهير المخذولة اليوم عبّر عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ حين قالَ فيما يرويه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: “يكونُ في أمّتي فزعةٌ، فيصيرُ النَّاس إلى علمائهم، فإذا هم قردةُ وخنازير”.
هرعونَ إلى علمائهم فلا يجدون الكثيرَ منهم. يرونَهم بينهم ومعهم، ولكنّهم لا يجدونهم، بل يجدونهم في الصّف الآخر
فبيّنَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّ النّاس قد فزعوا إلى علمائهم حينَ الخطوب، لكنّهم وجدوهم قد مُسخوا. ومن نافلة القول هنا أن نبيّنَ أنَّ المسخَ المقصود في الحديث مسخٌ معنويّ لا حسّي، أي أنَّهم وجدوهم على هيئةٍ لا تليقُ بالعلماء الذين كرّمهم الله، فأهانوا أنفسهم ومسخوها.
الصّنفُ الأوّل من العلماء الممسوخين
وأمَّا الممسوخون من العلماء فهم على صنفين أساسيين؛ يتجلّى وجودهما في واقع الأزمات وخذلان الشّعب المضطرب في صحارى التّيه.
أمَّا الصّنف الأوّل فهم الذين باعوا دينهم بدنيا الحكّام الظلمة، أو الأثرياء الطّغاة، فهم يتحرّكون وفق رغبات الآخرين لا وفق ما يأمرهم به الشّرع، وهم على استعداد لتحريف الكلم عن مواضعه مقابل حفنة من المال أو منصبٍ تافه.
فالعالم أو الدَّاعية الذي يشغّله أو يطفئه، ويقدّمُه أو يؤخِّره، ويرفعُ صوته أو يخفضه؛ “الريموت كونترول” في يد السّياسيّ أو الحاكم أو المخابرات، ولو كانَ ما يقولُه حقّا وصوابا، هو عالمٌ ممسوخ.
والعلماء الذين لا يكاد يمر يوم إلا ويسردون لك أخبار ثبات أحمد بن حنبل في محنته، حتى إذا تعرّضوا لأدنى موقفٍ رأيتَ في ألسنتهم وأقلامهم سوطَ ابن داود، وعلت أكفهم ضارعة بطول العمر لقامعيه.. هم علماء ممسوخون.
العالم أو الدَّاعية الذي يشغّله أو يطفئه، ويقدّمُه أو يؤخِّره، ويرفعُ صوته أو يخفضه؛ “الريموت كونترول” في يد السّياسيّ أو الحاكم أو المخابرات، ولو كانَ ما يقولُه حقّا وصوابا، هو عالمٌ ممسوخ
والعلماءُ الذينَ لا يفتؤون يذكّروننَا بأن إمامهم العزّ بن عبد السلام هو “بائع الملوك”، ثمّ نجدهم عند أوّل محكّ قد باعوا نفسه ودينهم بدنيا أتفه حاكم وملك وسلطان.. هم علماء ممسوخون.
والعلماء الذين طالما خاضوا معارك طاحنة دفاعا عن “شيخهم” ابن تيمية، حتى إذا استوجب أن يقتدوا بثباته في وجه الطغيان رأيتهم في صف التتار.. هم علماء ممسوخون.
والعلماء الذين انحازوا إلى العسكر في مواجهتهم للشعوب الطالبة حريتها الطامحة لنيل كرامتها، فبرّروا القتل والقمع واستخدموا الشريعة لتبرير استعباد الإنسان للإنسان.. هم علماء ممسوخون.
الواجب مع هذا الصّنف
وإنَّ الواجب مع هؤلاء العلماء هو تعريتهم وفضحهم وعدم الدّفاع عنهم، فإنّ تعرية الباطل مقصدٌ قائم بذاته، ومن تعرية الباطل فضح الذين يمتطون النّصوص خدمة للظالمين، ويلوون ألسنتهم بالمصطلحات الشرعيّة ليبرّروا للطّغاة طغيانهم. وقد تضافرت نصوصُ الكتاب والسنّة على بيان خطر المتّخذين ديننا سبيلا لتبرير انحراف الحكّام وإرضاء لهم، مقابل لعاعة من الدّنيا أو سلامة نفوسهم، والتّشنيع على من يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.. فبئس ما يشترون.
الصّنفُ الثّاني من العلماء الممسوخين
وأمَّا الصّنف الثّاني من العلماء الممسوخين، ولعلّه أشدّ خطرا من القسم الأوّل، فهم العلماء الصّامتون في زمن الحاجة الملحّة لقولهم، الكاتمون للحقّ وهم يعلمون وقادرون على القول.
وقد بيّن الله تعالى في قوله: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”؛ صفات كلٍّ من الصّنفن من أصناف العلماء الممسوخين.
فصفة الصّنف الأوّل الذي بيّنّاه آنفا هي إلباس الحقّ بالباطل، أي خلط الحق بالباطل بطريقة متعمدة وتشويه الحقائق وتضليل العباد.
وأمَّا صفة الصّنف الثّاني من العلماء الممسوخين؛ فهي كتمان الحقّ والسكوتُ عن أهل التّلبيس والتّضليل والنّفاق والمداهنة، والانزواء عند شدّة حاجة النّاس إلى البيان والتّبليغ.
وإنَّ أسوأ ما يمارسه مَن يُتوَخَّى فيهم الصلاح من العلماء والدعاة، أو مَن يدّعون الموضوعيّة والواقعيّة والفهم والحنكة؛ هو التلفّع بالصّمت حيث يجب القول، والنكوص حيث يتحتّم الإقدام، مع القدرة على القول والبيان.
أسوأ ما يمارسه مَن يُتوَخَّى فيهم الصلاح من العلماء والدعاة، أو مَن يدّعون الموضوعيّة والواقعيّة والفهم والحنكة؛ هو التلفّع بالصّمت حيث يجب القول
وقد جاء ترتيب هذا الصّنف من العلماء الممسوخين بعد الصّنف الأوّل الذي يقوم بإلباس الحق بالباطل وقلب الحقّ وتحريفه؛ لأنّ كتمان الحقّ من أهل الصلاح أو مَن يفترض منهم ذلك، تحت أي ظرف من الظروف، هو الذي يسهّل لأهل التّضليل والنّفاق المقصودين في الصّنف الأول مهمتهم، ولو صدعَ أهلُ الحقّ وجهروا به لما تمكن أهل التّلبيس من إتمام جريمتهم.
والأمّة التي يلبّسُ أهل الضّلال فيها على الناس بكلّ أريحية يعضدهم ويعينهم على ذلك خرس أهل الحق؛ لا محالةَ هيَ أمةٌ بائسةٌ ولن تقوم لها قائمة بين الأمم.
فالعلماءٌ والدّعاةُ الذين كانوا يرفعونَ عقيرتهم بالإنكار على الرّئيس محمّد مرسي؛ متباهين بقول الحقّ في وجه الحاكم، مستغلّين أدبِ الرّجل وحسنَ أخلاقه، حتّى إذا جاء السيسي صمتوا صمت القبور، متذرّعين بالحكمة والعقلانيّة حينا ومبرّرين جبنهم بالمصالح والمفاسد حينا آخر.. هم علماء ممسوخون.
حتّى إذا جاء السيسي صمتوا صمت القبور، متذرّعين بالحكمة والعقلانيّة حينا ومبرّرين جبنهم بالمصالح والمفاسد حينا آخر
والعلماءُ الذينَ يتجنّبون قول الحق الأبلج في إجرام حكام آل سعود بحقّ المسلمين، وتدمير ومعاداة كياناتهم ومشاريعهم الفاعلة، وصمتوا عن نصرة إخوانهم المعتقلين من العلماء ولو بكلمةٍ؛ خشيةَ منعهم من الحج والعمرة.. هم علماء ممسوخون.
إنَّ الله تعالى يعذرهم في الحجّ والعمرة، ويعذرهُم في منعهم من أداء المناسك، ولكنه لن يعذرهم في السّكوت عن الحق مع القدرة على قوله، والتّلبيس على الأمة وتجميل قبيح فعال الطّغاة المجرمين بصمتهم.
خطورة هذا الصّنف من العلماء الممسوخين
ويُعدّ صمتُ هذا الصّنف من العلماء الممسوخين مع القدرة على القول إقرارا بما تمّ الصّمت عنه من الجرائم والباطل، وهذا ما لا يفعله العلماء الصّادقون.
الفتوى لا تصدر عن العالم بالقول وحده، بل بالفعل أو بالإقرار أي الصّمت، ويقول عن أثر هذا الإقرار والصّمت
وقد بيّن هذه الحقيقةَ المرّة الإمام الشّاطبي في كتابه “الموافقات” الذي يعدّه جميع العلماء من الصّنفين السّابقين كتابا عظيما ومعتمدا، حيث يبيّن بكلّ وضوح بأنَّ الفتوى لا تصدر عن العالم بالقول وحده، بل بالفعل أو بالإقرار أي الصّمت، ويقول عن أثر هذا الإقرار والصّمت:
“وأمَّا الإقرارُ فراجعٌ في المعنى إلى الفعل؛ لأنَّ الكفَّ فعلٌ، وكفُّ المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه، وقد أثبتَ الأصوليّون ذلك دليلا شرعيّا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى، وما تقدّم من الأدلّة في الفتوى الفعليّة جارٍ هنا بلا إشكال. ومن هنا ثابرَ السَّلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عَوْدِ المضرَّات عليهم بالقتل فما دونه. ومَن أخذ بالرّخصة في ترك الإنكار فرَّ بدينه، واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار”.
وهكذا نعلم أنَّ الصّامتين من العلماء والدّعاة هم من فتحوا الطّريق أمام المبطلين والمطبّلين من العلماء الممسوخين، فهؤلاء الصّامتون، مع قدرتهم على البيان، لا يقلّون مسخا عن أولئك المنافقين المداهنين.
فالتّصفيق للباطل والصّمت عليه، والنّفاق للإجرام والسّكوت عليه، والمداهنة للطّغاة وإغلاق الأفواه عن طغيانهم؛ كلّها ظلماتٌ من المسخ بعضها فوق بعض، لا يفلح فاعلها، ولا يُعذرُ مجترحها.
(المصدر: عربي21)