العلامة الفقيه الفرضي الورع الشَّيخ عبد القادر بن حسن الخوجة (1)
إمام حمص الكبير وعالمها الشَّهير
(1300- 1372هـ، 1885-1953م)
كاتب الترجمة : محمد عيد منصور . تقديم : طلحة الخوجة
تقدمة الأستاذ القاضي طلحة بن عبد القادر الخوجة –رئيس جمعية العلماء بحمص-
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمُّ التّسليم على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:
يقول المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم: (العلماء ورثة الأنبياء)، ولقد قيّض الله لدين الإسلام بعد انقطاع الوحي من يحمل لواء الإسلام والشّريعة المحمّديّة عالياً، وذلك ابتدأً من خليفة رسول الله أبي بكر الصّديق والصّحابة الكرام، رضي الله عنهم إلى يومنا هذا بواسطة علماء عاملين، فلا ينقضي جيل إلا ويخلفه جيل آخر من فقهاء ومحدّثين وخادمين لكتاب الله، كلّهم أخذوا من شريعة الله الحظَّ الأوفر، ثمَّ ارتقوا إلى سلّم التَّخصّص، فتخصَّص البعض بالفقه واشتهر به كالأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشَّافعي وأحمد، مع علمهم الغزير بباقي العلوم من علم الحديث وفروعه وعلوم القرآن الكريم، واضعين نصب أعينهم حديث نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: (من يُرِد الله به خيراً يفقِّه في الدّين)، وتخصّص البعض الآخر بعلم الحديث الشّريف وفروعه كأصحاب الكتب السّتة، وتخصّص البعض بعلوم القرآن الكريم والقراءات، وتتابع الجيل بعد الجيل يأخذ اللاحق عن السّابق في العلوم كلّها، ويبدع فيها، وكم من تلميذٍ فاق أستاذه وهكذا إلى عصرنا هذا، فلا تخلو مدينة من مدن الإسلام إلا وفيها من يرشد أبناءها ويخدم شريعة الله، شاء من شاء، وأبى من أبى، (ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره).
وفي مدينتنا حمص، وبعد أن فتحها الصّحابي الجليل خالد بن الوليد ودخلت في دين الله، استوطنها الكثير من الصّحابة، ونشروا العلوم فيها، حتّى يقال أنّ مقبرة الكتيب تضمُّ رفاة الكثير منهم، وتتتالى تلقِّي الأبناء لعلوم الآباء حتّى اشتهر جيلنا السّابق وما قبله بكثرة العلماء فيه، و شكّلت لجنة في عهد الخلافة العثمانية لوضع مجلة الأحكام العدلية، مستقاةً من المذهب الحنفي، كقانون مدني للدَّولة العظيمة، وقام بشرح هذه المجلة مفتي حمص العلّامة الفقيه الشّيخ محمّد خالد الأتاسي، ولمّا اخترمته المنية قبل تمامها أكملها بعده العلّامة الشَّيخ محمّد طاهر الأتاسي، الوارث لعلومه ولمنصب الفتوى بعده، وكان هذا الشّرح المرجع الأول لكلِّ القضاة والمفتين في جميع أنحاء الدَّولة الإسلامية، وحتّى بعد زوالة الخلافة العثمانية بقيت المجلَّة معمولاً بها إلى عهد قريب، ولمّا ذهبتُ للعمل في القضاء الكويتي عام 1974م، كانت المجلَّة هي المطبقة هناك، وكان شرح الشّيخ محمّد خالد الأتاسي هو المرجع لي ولباقي القضاة حتّى تأليف القضاء المدني هناك.
وإنّه ليُذكر من عهد قريب أنَّ عائلة واحدة كبيرة من عائلات حمص تضمُّ في اجتماع دوري لها أكثر من أربعين عالماً بعمامة بيضاء، ناهيك عن باقي العائلات، التي كانت تضمُّ العشرات من العلماء.
وبعد أن اجتاحت البلاد موجة الفكر العلماني والفلسفات غير الإسلامية، وانصرف الشّباب عن العلوم الشّرعيّة، وتقاذفتهم تيارات مختلفة، هبَّ علماء هذه البلدة في منتصف القرن الماضي لإنشاء جمعية العلماء بحمص، هدفها الأول والأسمى نشر العلم الدّيني وبثّ الأخلاق الفاضلة، وقد شهدتُ ولادة هذه الجمعية، التي بدأت لتحقيق أهدافها بتأسيس المعهد العلمي الشّرعي، والذي خرّج إلى الآن مئات العلماء والدّعاة بفضل الله تعالى، وكثير منهم تابعوا في جامعات الأزهر والكليات الشَّرعية المنتشرة في الدُّول العربية، ونال بعضهم شهادة الدُّكتوراه في جميع التَّخصُّصات، وانتشروا لا أقول في كثير من الدُّول العربية فحسب، بل في بعض الدُّول الأوربيّة والأمريكيّة، كلُّ ذلك بفضل الله تعالى أولاً، وبإخلاص من قام على تأسيس هذه الجمعية ومعهدها الشَّرعي ثانياً.
ووفاء لهؤلاء العلماء الذين كانت لهم اليد الطُّولى في تأسيس جمعية العلماء، والذين انتقلوا إلى رحمة الله تعالى مع غيرهم من العلماء، فقد راودت أخي الحبيب محمّد عيد المنصور صاحب الهمّة العالية أن ينشر رسائل عن حياتهم، وسمّاها (وفاءً لهم)، وقد صدر منها كتيّب عن الشّيخ محمّد جنيد، وآخر عن الشّيخ عبد الفتّاح المسدّي، وثالث عن الشّيخ محمّد علي طه الدّرّة رحمهم الله جميعاً، وسيوالي النَّشر عن العديد من العلماء حسب ما وعد.
وبعد أن باشر بإعداد كتيّب عن والدي الشّيخ عبد القادر الخوجة رحمه الله، وجمع المعلومات التي أُتيحت له، كلّفني أن أكتب مقدّمة لهذا العدد من سلسلته، وقد اطلعت على ما أعدّه فوجدت أنّه لم يُغفل شيئاً ممّا هو متوفِّرٌ إلا بعض معلومات خاصّة احتفظت بها لنفسي، ووجدتُ من المناسب أن أذكرها في هذه المقدّمة، وفاءً لوالدي رحمه الله، وأسوة لكلّ قارئ.
تعامل والدي مع أهله:
ولدتُ وقد شارف والدي على الخمسين من عمره، ودرجتُ في بيت متواضع من ثلاث غرف وفسحة سماوية كبيرة، في معظمها أحواض للأشجار والورود تعتني بها والدتي، ولي من الإخوة اثنان أكبر مني حسن ومحمّد طيب، ويسكن معنا عمّي صبري وكان عزباً، وعمّة كبيرة في السنِّ عزبة أيضاً، وقد انضمَّ لنا في فترة من الزّمن عمّة والدي، وكان والدي يرعانا جميعاً بكلِّ حبٍّ وحنان، لا يفرّق في المعاملة بين أحدٍ منّا، وبعد أن بلغتُ من العمر ستّ سنوات انضمّ إلينا مولود جديد هو أخي الدّكتور عبد المتين، أرجو له من الله الرّحمة.
لم نسمع في حياتنا من والدي كلمة تأفُّفٍ أو تضجُّر، ينفق على عائلته ما تيسر له من ربح دكانه، وكنتُ أشعر أنا وإخوتي أنّا أسعد النّاس حالاً، وأهدأهم بالاً، رغم ما نشاهد من بذخ عائلات أخرى.
وكان رحمه الله في تأديبه لأولاده نعم الأبُّ المربي، فلا أذكر أنَّا تلقينا منه ضربة تأديب أو عبارة نابية وكان أحدنا إذا أخطأ أو أذنب يؤنبه بقوله: (الله يهديك) (الله يصلحك)، بينما كنّا نسمع عن آباء آخرين من يدعو على ولده بالشقاء والهلاك.
وكان هذا الدُّعاء من والدي يسعدنا كثيراً، خاصّة وقد وعينا معناه، وقد نمازحه بافتعال خطأ صغير لنسمع منه كلمة (الله يصلحك، الله يهديك)، وإنَّني لعلى يقين بأنّي وإخوتي إذ وفقنا الله في حياتنا وهيأ لنا ما نسعد به في ديننا ودنيانا فإنّما هو ببركة هذا الدّعاء والتّربية الصَّالحة، وأرجو من الله أن يسعدنا في آخرتنا إنَّه سميع مجيب.
أمَّا بالنسبة لعلمه فإنَّني إذ وعيت فقد وعيت وهو وشيخ العلماء، مع صنوه الشّيخ طاهر الرّئيس، فقد كانت دكانه دار للفتوى، يقصده السّائلون فيها، مثلها مثل غرفة الشّيخ طاهر في الجامع الكبير، فقد كان والدي يفتي حسب المذهب الحنفي، ويقصده النَّاس في خصوماتهم ويلتزمون فتواه، وكان الشَّيخ طاهر يفتي حسب المذهب الشّافعي، ولا ننال بذلك من شأن باقي العلماء إلا أنَّه ليس لهم مكان محدّد يقصده النّاس.
كان والدي لا يفتي إلا حسب المذهب الحنفي، وإذا وجد أن جواب السّائل حسب مذهب الشّافعي أو غيره من المذاهب – خاصّة قضايا الطّلاق والرّضاع- أيسر للسَّائل يحيله إلى الشَّيخ طاهر الرَّئيس، أو الشَّيخ مؤيَّد شمسي باشا الذي اشتهر بأنَّه مفتي الحنابلة.
وإذا قال له السّائل بأنه حنفي المذهب، يقول له: مذهبك مذهب من يفتيك في هذه المسألة، ويرسله إلى المذهب الأيسر عليه.
وأمّا بالنسبة إلى زهده وورعه: فقد كان رحمه الله ورعاً رافضاً لمناصب الدّنيا، أبى أن يكسب إلا من عمله في دكانه تجارة العِطارة، التي ورثها من والده، وقد استمرّ ينفق على عائلته مما قدره الله له من هذه التّجارة من ربح يسير، فليس لديه رأس مالٍ وافر، وكان تجَّار الجملة يزوِّدونه بالبضاعة، وخاصّة ابن أخته الشّيخ بدر الدّين الأتاسي، ويبيعها بربح يسير ويسدَّد قيمتها وهكذا..، وكثيرة هي السَّنين التي كان يقوم بجرد البضاعة فيها في شهر رمضان لحساب الزَّكاة، لكنه لا يفيض من الرّبح بعد المصروف وتسديد الدّيون إلا دريهمات معدودات لا تصل إلى نصاب الزّكاة، ومع ذلك لم نكن نشعر أن هناك من هو أسعد منا.
هذا وعندما وُجِّهت له إمامة الجامع الكبير براتب بعد أن بقي إماماً لقرابة السَّنة بدون أجر، ووجِّهت إليه أيضاً إدارة المدرسة الشَّرعية العلمية التَّابعة لوزارة الأوقاف، بعد وفاة مديرها صديق عمره الشَّيخ محمَّد علي عيون السُّود لم يكن يصرف من الرَّاتب الذي كان يتقاضاه من الأوقاف على معيشة أهله، وإنَّما ادخره وبنى به غرفة في باحة الدَّار ليتوسّع في سكنه، ولكنه رحمه الله لم يسكنها إلا أشهراً معدودة فارق الحياة بعدها إلى جوار ربّه.
أما عن زهده رحمه الله فحدّث ولا حرج كان زاهداً في ديناه وعمّا في أيدي النّاس وأذكر حادثة كان لها الأثر الكبير في نفسي أخي محمّد طيّب وذلك أنه في عام 1946م، نال أخي شهادة الثَّانوية الشَّرعية، والثَّانوية العامة، وفي ذلك الوقت قام لفيف من المتموّلين بتأسيس شركة مساهمة، وهي شركة معمل السُّكر بحمص، وكان رئيسها الحاج عاطف الأتاسي رحمه الله، وكان لا يمرّ يومٌ إلا ويزور والدي في دكانه التماساً للدُّعاء الصَّالح منه، وكانت الشَّركة بحاجة لموظَّفين كُثُر من حملة الشَّهادة الثَّانوية وما دون، فرغب أخي أن يتوظَّف بالشَّركة وكلّم والدي ليكلّم الحاج عاطف في ذلك، فرفض ولو فعل لما توانى الحاج عاطف عن توظيفه، ولقال له: اعتبره موظفاً من الآن، وقال والدي لأخي مقالة ما زلت أحفظها إلى الآن وأتخذها نبراساً، قال له: (أي بُني لقد زهدنا بما في أيديهم فرغبوا فينا وأقبلوا علينا، ولو طمعنا بما عندهم لزهدوا فينا وانصرفوا عنا، عسى الله أن يهيء لك ما هو أفضل، ودون مذلّة السُّؤال).
وفعلاً لم تمض إلا أيام معدودات إلا وأعلنت مديرية التّربية والتَّعليم عن حاجتها لحملة الثَّانوية العامة كمعلِّمين، فتقدم أخي بطلب فقُبل، وتعيّن معلماً في الرَّستن يتقاضى راتباً أفضل من الرَّاتب الذي كان سيتقاضاه من الشَّركة لو عمل بها.
وهناك حادثة أخرى رواها لي أحد أصدقاء الأستاذ عبد البر عيون السُّود، منظّر وفيلسوف الحزب الاشتراكي، وكان زاهداً في حياته ملتفتاً عمَّا يُعرض عليه من مناصب جيدة، فسأله أحد أصدقائه: لمن أنت بهذا الزُّهد، فأجابه أنا لخالي الشَّيخ عبد القادر الخوجة، ولم يقل: أنا لوالدي الشَّيخ عبد الغفَّار، رغم أنَّ والده كان شيخ العلماء في عصره.
وإنَّني وإن كنت قد أطلت فيما سبق إلا أنَّ هذا غيض من فيض، وإنَّني لأشكر أخي محمّد عيد على جهده في الكتابة عن علمائنا العاملين الذين سبقونا إلى لقاء ربهم، وأرجو أن لا ينسى في هذا العمل من سبق من العلماء والمفتين الذين تولوا منصب الإفتاء في حمص حيث كانوا من العلماء الأعلام أمثال الشَّيخ محمَّد خالد الأتاسي، والشَّيخ محمَّد طاهر الأتاسي، شارحا مجلَّة الأحكام العدليّة، مرجع جميع المفتين والقضاة في جميع الدُّول الإسلامية، والشَّيخ توفيق الأتاسي، والشَّيخ محمَّد طيب الأتاسي، والشَّيخ بدر الدِّين الأتاسي، والشَّيخ محمَّد الياسين، والشَّيخ شاكر المصري، والشَّيخ عبد الفتَّاح الدُّروبي وولده الشَّيخ عبد الغفَّار والشَّيخ عبد الخالق الحُصني، وغيرهم من أقرانهم رحمهم الله جميعاً.
هذا ولئن كنتُ مقصِّراً ولم أبلغ جزءً ضئيلاً مما بلغه والدي، والمفروض أن يكون نبراسي قول الشَّاعر:
إنَّ الفتى من يقول هاأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي
إلا أنَّه ومهما بلغت في حياتي من مركز لي – ووالدي الشَّيخ عبد القادر- ليس لي إلا أن أقول كان أبي، كان أبي، كان أبي…
وليس لكلِّ من كان والده من العلماء الذين خلّدهم علمهم وعملهم وإخلاصهم وتفانيهم إلا أن يتمثَّلوا بقوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين).
اللهمَّ اغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأعنَّا على خدمة شريعتك والعمل بسنَّة نبيّك، وارحمنا وارحم آبائنا وأمّهاتنا وذرّيتنا ومشايخنا ومن سبقنا بالإيمان، واجمعنا بهم جميعاً في مستقرِّ رحمتك مع الأنبياء والشُّهداء وألحقنا مع الصَّالحين، وأظلَّنا تحت ظلِّ عرشك يوم لا ظلَّ إلا ظلُّك، ولا باقي إلا وجهك الكريم، والحمد لله ربِّ العالمين.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)