العقيدة أولاً أم الوطن؟!
بقلم د. سيرين الصعيدي
كثيراً كنا -وما زلنا- نسمع شعارات تعلو هنا وهناك: “الوطن أولاً”، ومنذ الصغر وهم يغرسون في عقولنا مفاهيم حب الوطن، أفهمونا وعلمونا أنّ الوطن ما هو إلا هذه البقعة الجغرافية المترسة بالحواجز والحدود، ومن يستنكر حب الوطن، أليس حب الأوطان كما الدماء تجري في عروقنا!
لكنهم ليتهم علّمونا حب الوطن كما ينبغي أن يكون، ويا ليتهم عندما درّسونا التاريخ درّسوه حقيقة لا زيفاً ولا تزويراً، وقالوا لنا إن هذه الأوطان المجزأة على الخريطة إنما هي وطن واحد، وأنّ الحدود الفاصلة فيما بينها ما هي إلا أمراض عابرة ومؤقتة، وأن حبّ الأوطان والدفاع عنها جزء من الإيمان، لا كل الإيمان، فمهما ارتقى الوطن في مفهومه فسيبقى جزءً من منظومة، واستحالة أن ينقلب الجزء إلى كل، وإن حدث هذا يضع الإنسان وقتها أول خطاه على طريق التخلّف والتقهقر، وأصبحت الحياة كما حياة الغاب، وأصبح أسيراً لبقعة افترضتها عقليته منذ أن قَبِل الخنوع لفكرة التقسيم والتفريق، وستبقى هذه البقعة السجن الذي يضيق على أصحابه شيئاً فشيئاً على اتساعها.
والوطن الحقيقي هو الذي تحيا به حراً طليقاً بفكرك ومعتقدك، فلا إكراه ولا إجبار ولا خضوع، هو الذي يجمع ولا يفرّق، يلملم الشعث ولا يشتت، وما وجدت وطناً كهذا إلا الوطن الذي تقدّمه عقيدة السماء، والتي قدمت لك مفهوماً مغايراً عن كل المفاهيم التي رسّخوها ودسّوها في مناهجهم التعليمية، ولو أنهم قضوا نصف الفترة الزمنية التي قضوها في تدريس التاريخ الذي وضعوه لنا وفق خطة مدروسة ممنهجة، تخدم مصالحهم وأهدافهم في زرع العقيدة الصحيحة في أفهام وقلوب النشأ، لخرّجوا جيلاً صالحاً راسخاً معمِّراً حيثما حلّ ونزل، ولرأينا معاني الإنسانية تنهمر كما الغيث، فما وُجد بيننا مظلوم أو مشرد أو جائع أو محروم.
الوطن الحقيقي هو الذي تحيا به حراً طليقاً بفكرك ومعتقدك، فلا إكراه ولا إجبار ولا خضوع، هو الذي يجمع ولا يفرّق، يلملم الشعث ولا يشتت
ويسأل الكثير ويدور هذا السؤال في فكر الأكثرية: من المقدم حبه أولاً: الوطن أم العقيدة؟!
ولم أجد أفضل من الإجابة عن هذا السؤال إلا بضرب بعض النماذج من حياة الأنبياء والصالحين على تقديمهم مصلحة العقيدة على الأوطان:
-النموذج الأول: إبراهيم عليه السلام، الذي هجر قومه؛ ليعبد الله، ويدعو إليه في بيئة سليمة تتقبل ما جاء به من دين الله، بعدما رفضوا الإيمان بدعوته، إذ يقول جل شأنه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [سورة الصافات،آية:99].
-النموذج الثاني: لوط عليه السلام، إذ يقول تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة العنكبوت،آية:26]، فبعد أن آمن لوط عليه السلام بإبراهيم، اختار عليه السلام الهجرة من بين أظهر قومه؛ ابتغاء إظهار الدين والتمكِّن من ذلك. (ابن كثير، عمدة التفاسير).
-النموذج الثالث: أصحاب الكهف، فقد آثروا هجرة قومهم وأهليهم؛ فراراً بعقيدتهم، فآووا إلى الكهف، والذي رغم ضيق جدرانه وجدوا به من المتّسع والحرية ما يمكنهم من ممارسة حرية عقيدتهم في الوقت الذي ضاقت بهم أوطانهم وضنت عليهم بمثل هذه السعة والحرية.
-النموذج الرابع: هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتفكّر وتدبّر بموقفه وحاله ذاك، وهو يقف مخاطباً أرضه ووطنه ومسقط رأسه مكة المكرمة، فيقول: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله عز وجل، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) (رواه أحمد).
ولكن التضييق في حدود الوطن على المعتقد يستوجب الهجرة حتى تنمو العقيدة، وتؤتي أكلها في جو من الحرية والعزة والكرامة، فهاجر الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهاجر صحابته الكرام، فضمتهم بقعة جغرافية ما شهدت طفولتهم، ولا مسقط رأسهم، ولا ريعان شبابهم، وكانت الحاضن الذي يحتضن العقيدة الجديدة، ويقدم لها كل أسباب المنعة والنصرة، فأصبح الوطن الذي جمع الأضداد، وضم أخوّة جدد على اختلاف جنسياتهم، وأقوامهم، وأصولهم، فهذا الفارسي والحبشي، وذاك الرومي، وهذا القرشي، فما كانت النتيجة إلا عزّاً وتمكيناً، وعودة للبلد الأمين، فاتحين لها، بعدما خرجوا منها خفية تحت جنح الظلام، وإنّ في هذا النموذج من الدروس والعبر -لو وقف على حدودها المفكرون والمربون، وتدبّر بها المستبصرون الباحثون عن الخلاص والنجاة من الواقع المرير الذي تعيشه مجتمعاتنا، بل كل الإنسانية- لاستطاعوا الخلوص من قيود افترضوها على أنفسهم تحت مسمى “الوطنية” و”حب الأوطان”.
وتدبّر قول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء، آية:97]، وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت، آية:56]، ففي هذه الآيات دلالة واضحة بأمر الله لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين بحرية وعزّة.
فأي وطن وأي بقعة جغرافية نقدمها على المعتقد والدين؟! أوليس عندما سلكنا هذا المسلك تفرقنا آحاداً وشيَعاً وأحزاباً، فأصبحنا شرذمة تفرّقنا النعرات، والقوميات، وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان، والعقول المدمرة والأيدي الخبيثة علمت ما في سلامة العقيدة من تقدم وعزّة وتمكين، فصوّبوا لها سهامهم، وعزلوها، بأن جعلوا المساجد لها قراراً وملاذاً وما غير ذلك صوّروه تخلّفاً ورجعية.
أي وطن وأي بقعة جغرافية نقدمها على المعتقد والدين؟! أوليس عندما سلكنا هذا المسلك تفرقنا آحاداً وشيَعاً وأحزاباً، فأصبحنا شرذمة تفرّقنا النعرات، والقوميات، وشعارات ما أنزل الله بها من سلطان
إنّ مصابنا جلل، وما سقطت حصوننا إلا عندما شوّهوا عقيدتنا، وحجّموا دورها، وقزّموا فاعليتها، فركبنا الموجة بحجة التطوّر والتقدم، واستوردنا مشكلات الغرب وحلولهم ، وما كانت في يوم من الأيام مشكلاتهم مشكلاتنا، فإن كان رجال دينهم يحملون من ظلامية الفكر ما يجعلهم يتعارضون مع العلم والتحضر، فإن عقيدتنا ومبادئ ديننا مهد العلم والحضارة، والباعث على كل تقدم وتحرر من كل عبودية لغير الله، وإن كانت عقائدهم لا تقيم حرمة لعقل، ولا لعرض، ولا لوطن، فعقيدتنا الأم الحنون لذلك كله، والدفاع عن الأرض جزء أصيل لا يتجزأ من العقيدة.
إنّ حال هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، فإن استماتة السابقين ودفاعهم عن عقيدتهم هو ما مكّن لهم، وأعادهم لديارهم أعزة أحراراً، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهجرته خير أسوة وقدوة لنا في ذلك، فوطنك حيث تعيش حراً أبيّاً تمارس عقيدتك في رابعة النهار، فكم من وطن عشت فيه وترعرعت وتنفست سناه، فصار لك سجناً وقبراً! وكم من أرض هاجرت إليها غريباً، فصرت فيها بحرية معتقدك وفكرك ومبدئك عزيزاً حراً طليقاً .
فإن أردنا عوداً أحمد لتاريخنا التليد، وإن ابتغينا مستقبلاً زاهراً لبلادنا وأوطاننا وأبنائنا، ما علينا إلا مداواة الشرخ الذي شرخوه في عقائدنا، فما ضاعت الأوطان إلا بتزعزع العقيدة التي تجعل مجابهة الظلم، والأخذ على يد الظالم ودفعه بكل وسيلة ممكنة من الإيمان ، وهل الجهاد وبذل النفس في سبيل إخراج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد من أفضل السبل والوسائل لحماية الأوطان بخيراتها ومقدراتها! وهل كان ضياعنا إلا عندما تعددت آلهتنا، وتشعبت عقائدنا، فتفرقنا، وبتفرقنا مُزقت أوطاننا، وأصبحنا أذلّة بعد العز والتمكين. انصر عقيدتك وابذل في سبيلها النفس والنفيس، يأتيك المدد من رب السماء، وتهون الصعاب، وقتها يتحقق وعد الله لنا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[سورة النور، آية:55].
(المصدر: موقع بصائر)