(العقل القويم) لماذا ينقسم الناس الطيبون بسبب السياسة والدين؟
عرض طايع الديب
«لقد كافحت طويلاً حتى لا أضحك من تصرفات البشر، أو أذرف الدمع لأجلها، أو أمقتها، بل لكي أفهمها».
بهذه العبارة للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، بدأ جوناثان هايت، عالم النفس الاجتماعي الأمريكي البارز، الأستاذ في (كلية ستيرن لإدارة الأعمال) بجامعة نيويورك، كتابه المهم (العقل القويم: لماذا ينقسم الناس الطيبون بسبب السياسة والدين؟).
ويبدو أن العالم الآن أحوج من أي وقت مضى إلى مثل هذا الكتاب؛ إذ يشخِّص (هايت) فيه عدداً من أخطر الأمراض التي عاناها – وما يزال – العالم اليوم، وخاصة عالمنا العربي، جرَّاء الخلاف في فهم الدين، أو الاختلاف في مقاربة المواضعات السياسية من وجهات مختلفة، وهو ما أدى إلى وقوع مئات الآلاف من البشر خلال الحقب الأخيرة ضحايا لمثل هذه الخلافات المريرة، سواء بفعل الإرهاب أو الحروب والنزاعات الأهلية المسلحة.
ومثل أي اختصاصي نفساني محترف، وعالم اجتماع صاحب رؤية (معاً)، لا يكتفي (هايت) في كتابه هذا بالتشخيص فحسب؛ بل يكتب ما يمكن اعتباره (وصفة) لمعالجة هذه الأمراض، واضعاً يده في كل فصل على مواطن الداء، وواصفاً الدواء.
والكتاب الذي بين أيدينا هو الكتاب الثالث للمؤلف، بعد كتابيه (ازدهار: علم النفس الإيجابي وعيش الحياة بشكل جيد)، و (فرضية السعادة: إيجاد الحقيقة الحديثة في الحكمة القديمة)، ثم (العقل القويم) الذي ترجمه الأكاديمي السوري د. محمد علي حرفوش، إلى اللغة العربية عام 2016م.
الحقيقة التي تلائمك
يتساءل (هايت) في كتابه الثالث الذي استغرق 10 سنوات في كتابته، كما يقول في المقدمة: لماذا ينقسم الأشخاص الطيبون في العالم بشأن السياسة والدين، وكيف تتشكل الأخلاق من خلال العاطفة والحدس أكثر من التفكير المنطقي؟ ولماذا تحمل الجماعات السياسية المختلفة مثل (التقدميين والمحافظين والليبرتاريين) (أنصار الليبرالية) مفاهيم مختلفة عن الحياة، من حيث الصوابُ والخطأ، فضلاً عن امتلاك أنصار هذه الجماعات ما يكمن اعتباره (نسخاً مختلفة) أيضاً من الحقيقة؟
يقول الكـاتب: «الآن، ومع إمكانية الوصول إلى محركات البحث من الهواتف الخلـوية، يمكننا على مدار الساعة استحضار آراء فريق من العلماء لدعم أي استنتاج تقريباً؛ فمهما كان رأيك في أمور كمسببات الاحتباس الحراري أو شعور بعض الأجنة بالألم في بطون أمهاتهم، ما عليك إلا أن تستخدم (محرك) غوغل، لتجد ما يدعم اعتقادك؛ إن العلم بات مائدة مفتـوحة أمام الجميع، وستعثر – حتماً – على الحقيقة التي تلائمك».
يضيف المؤلف: «إذا ما فكرت أن الحجة الأخلاقية هي شيء مَّا نقوم به من أجل إدراك الحقيقة، فستكون باضطراد مستاءً وساخطاً إزاء كيف يصبح الناس حمقى، ومنحازين، وغيـر منطقيين، حينما لا يوافقونك الرأي. ولكن إن فكرت في الحجة الأخلاقية على أنها نوع من القيم اللازمة لتطورنا نحن البشر، بهدف تعزيز أجندتنا الاجتماعية، فستجد أن للأمر نفسه وجوهاً مغايرة».
ويعتنق الكاتب في مؤلفاته بشكل عام، نظرية (الأسس الأخلاقية) التي وضعها مجموعة من علماء النفس والاجتماع في الغرب، لمحاولة فهم لماذا تختلف التصورات الأخلاقية من ثقافة إلى أخرى، من ناحية، بينما تظل هذه التصورات الأخلاقية – من ناحية ثانية – تحمل كثيراً من المتشابهات، وتتكرر فيها المواضيع ذاتها، لتصبح بمثابة وازع أخلاقي يُوزع به بعض الناس فلا يحيدون عن الصراط السوي.
باتت هذه النظرية منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، واحدة من أسس (علم النفس الاجتماعي)، ضمن سعي المتخصصين في هذا العلم إلى شرح أصول واختلافات التفكير الأخلاقي في الثقافات المختلفة، وذلك على الرغم من اعترافهم بأن الأخلاق تقوم على أسس ثابتة هي العناية، والنزاهة والحرية والوفاء والطهارة.
وتقترح تلك النظرية أن ثمة مجموعة من المبادئ ذات الطبيعة العالمية، التي تبني عليها الثقافات تصوُّرها لمفهوم (الفضيلة)، وتُنْشَأ من أجلها مؤسسات المجتمع التي تقوم على عدة أسس تقترحها النظرية، وهي:
أولاً: مبدأ (الرعاية ضد الإيذاء): الذي يرجع في نشأته الأولى إلى تطور الجنس البشري عبر الزمن، وقدرته على بناء الارتباطات الاجتماعية، ومن ثَمَّ القدرة على الشعور بآلام الآخرين، والرغبـة في حمايتهم من أي أذى محتمل قد يتعرضون له. وهذا المبدأ يؤسس لأخلاق المروءة والنجدة والشهامة، كما تعرفها الحضارة العربية منذ قديم الزمان، على سبيل المثال.
والمبدأ الأخلاقي الثاني، وفق النظرية، هو (النزاهة ضد الخداع): وهذا المبدأ مرتبط بتطور مشاعر الغيرية والإيثار، الذي يؤسس لأفكار العدالة والحقوق والاستقلالية، ويقوم على الاهتمام بأسس المساواة، وكفالة مبدأ المواطنة للجميع.
أمَّا المبدأ الثالث، فهو (الوفاء ضد الخيانة): ويقول الباحثون بأن هذا المبـدأ يقوم على تاريخ طويل من الارتباط القبلي في تاريخ المجتمعات، قوامه الانتماء للقبيلة، وتكوين تحالفات متغيرة. وهو يؤسس لأخلاق مثل الوطنية والتضحية في سبيل الغير.
ثم يأتي أخيراً، مبدأ (السلطة ضد الخضوع): ويتأسس هذا المبدأ على تاريخ طويل من التراتبية الاجتماعية في بناء المجتمعات البشرية، وهو يؤسس لقيم القيادة ولاحترام السلطة القائمة والتقاليد المتعارف عليها منذ القدم.
(الكلب العاطفي وذيله العقلاني)
طوَّرت إسهامات (هايت) البحثية كما جاءت في كتابه (العقل القويم) نموذج الحدس الاجتماعي الذي يفترض أن الحكم الأخلاقي يستند في الغالب على العمليات التلقائية (الحدس الأخلاقي) بدلاً من التفكير المنطقي، كما ينخرط الناس في التفكير إلى حد كبير للعثور على أدلة تدعم حدسهم الأول. واستشهد الباحثون بمقالة المؤلف الرئيسية عن النموذج الحدسي الاجتماعي (الكلب العاطفي وذيله العقلاني)، أكثر من 7 آلاف مرة في أبحاث ودراسات مختلفة.
ويشير المؤلف إلى أن واحدة من أقدم الحقائق في علم النفس، هي أن العقل منقسم إلى أجزاء قد تتصارع في بعض الأحيان. فأن تكون إنساناً معناه أن تشعر بالانجذاب نحو اتجاهات مختلفةٍ. وربما تستغرب – برعب أحياناً – حيال عدم تمكنك من السيطرة على أفعالك. لقد عاش الشاعر الروماني القديم (أوفيد) في زمن ظن الناس فيه أن العوارض المرضية هي نتاج عدم توزان (العصارة الصفراوية) في الجسم، ولكنه عرف ما يكفي من علم النفس لجعل أحد شخصياته يهتف: «أنا مسحوب إلى الأمام بفعل قوة غريبة؛ أرى الطريق المستقيم فأستحسنه، غير أنني أسلك الطريق الخطأ»!
وإلى ذلك، يصف (هايت) في الكتاب كيف بدأ دراسة علم النفس السياسي من أجل مساعدة الحزب (الديمقراطي) في الفوز بالانتخابات، ولكنه يعود فيقول إن كل مجموعة من المجموعات السياسية الرئيسية في البلاد، أي المحافظين والتقدميين والتحرريين، لديها رؤى قيمة وأفكار معتبرة في حقيقة الأمر، وأن (الحقيقة والسياسة الجيدة) تبرز من تنافس الأفكار، وتلاقح الرؤى.
ورصدت جريدة (الغارديان) البريطانية مفارقة من نوعٍ ما في (المسألة الأخلاقية) كما طرحها الكتاب، قائلة: «إن ما يجعل كتاب العقل القويم آسراً هو الدمج السلس بين المعرفة الواسعة والمتعة، وقدرة المؤلف الواضحة على تحدي الحكمة التقليدية. إن مقولة المؤلف الجوهرية بسيطة ومُحْكَمة الصياغة: تُرسل أخلاقنا بمعظمها إلى أدمغتنا منذ الولادة، وهي في الوقت نفسه تربطنا مع بعضنا، وتُعمينا عن التجليات الأخلاقية المغايرة».
ويطرح الكاتب المسألة الأخلاقية نفسها من وجهة أخرى، حيث يقول: «عندما تصل قبيلتان من عصر الإنسان البدائي، تعيشان في البلد ذاته، إلى المنافسة. وفي حال كون الظروف الأخرى متساوية، فإن القبيلة التي كانت تتضمن عدداً كبيراً من الأعضاء الشجعان والمتعاطفين والأقوياء، الذين لديهم دائماً استعداد لتحذير إخوتهم من الخطر، ولمساعدة بعضهم بعضاً، والدفاع عنهم، ستحقق هذه القبيلة – بالضرورة – نجاحاً أفضل، وتستولي على أرض القبيلة الأخرى؛ فالأشخاص الأنانيون والمشاكسون لا يتماسكون، ومن دون تماسك لا يمكن إنجاز أي شيء».
ويرى الكاتب أن الناس بطبيعتهم يعتمدون في تفكيرهم على (الحدس) وأشياء أخرى أكثر مما يستخدمون مَلَكاتهم الذهنية، وهو ما يفسر – مثلاً – لماذا قد يصوِّت الأمريكي من ذوي الأصول الإفريقية للحزب (الجمهوري) اليميني المحافظ. ولهذا السبب يعتقد أن الطريق إلى إقناع الآخرين يمر من خلال مراعاة عواطفهم الشخصية.
وردّاً على السؤال الذي قد يطرحه كثير من الناس في المعترك السياسي، وهو: لماذا لا يستمع الطرف الآخر إلى (صوت العقل)؟ يجيب المؤلف: «نحن لسنا مهيَّئين مطلقاً إلى الاستماع لنداء العقل، فحينما تتوجَّه إلى الناس بأسئلة تدور حول الأخلاق، وتحسب زمن استجاباتهم لها وتقوم بمسح أدمغتهم، فإنك ستجد أن أنماط استجاباتهم وتنشيط قواهم العقلية تشير إلى أنهم يتوصَّلون إلى استنتاجاتٍ سريعةٍ، ثم يستحضرون أسباباً لكي يبرِّروا بواسطتها ما قرَّروه سلفاً».
ويعكف (هايت) في الوقت الراهن على كتاب جديد موضوعه (الرأسمالية والأخلاق)، سيتم نشره منتصف العام المقبل 2021م. ومن المتوقع أن يستكمل فيه المؤلف عرض نظرياته بشأن الأخلاق في العمل الرأسمالي، وسط اتهامات رائجة لهذا النظام (الرأسمالي) بأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن إشعال الحروب الصغيرة وإذكاء نيران الصراعات السياسية على مستوى العالم، لا لشيء سوى تحقيق مصالح فئة بعينها من كبار رجل الأعمال فقط، بغض النظر عن معاناة الملايين حول الكرة الأرضية من الفقر والجوع والمرض.
(المصدر: مجلة البيان)