« العقل العقدي» و « العقل الجبري » 2من 2
بقلم أكرم حجازي
ثالثا: نماذج أيديولوجية لمفاهيم عقدية
ثمة ثلاثة نماذج سنعاينها للوقوف على نمط « التفكير الجبري» في مواضع كبرى، هي: « الخلافة» و « تطبيق الشريعة» و « نظرية الإعداد»، على أن نواصل النظر في الكثير من المفاهيم العقدية التي اعتدنا الترويج لها بعيدا عما تحاجه من فقه يخرجنا من دائرة الجدل الذي يفرزه « العقل الجبري».
(1) الخلافة
ومن أمثلة هذا التفكير، في السياق، أن « العقل الجبري»، رغم يقينه بعدم جدوى اختياراته ومناهجه، إلا أنه لا يجرؤ على التوقف عند عبارات حاسمة كالتي وردت مثلا في حديث الخلافة، أما لماذا؟ فلأن التوقف سيؤدي إلى انكشاف الأطروحة برمتها وربما هدمها!! وهو ما سيحرج صانعيها الذين قد يشعرون بانتقاص من كونهم كانوا على خطأ، وهذا إنْ حصل فليس له من توصيف إلا الكِبْر. وإلا؛ فكيف يكون هناك من يتحدث، مثلا، عن مشاريع خلافة و « نواة خلافة» والرسول صلى الله عليه وسلم في كل مرحلة من مراحل الحكم يقول: « تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها»!!؟
أما إنْ كانوا يعلمون بأيديولوجية الأطروحة، ويصرون عليها فلعل التفسير الأرجح لهذا الإصرار يكمن فعليا في الخشية من التكلفة الباهظة التي تدفعهم إلى التمسك بالأيديولوجيا! ذلك أن التفكير بموجب الشريعة وما تفرزه من استحقاقات شرعية وعقدية سيؤدي إلى التورط في كلفة يصعب الوفاء بها. في حين أن ترحيل الأطروحات العقدية إلى الأيديولوجيا من شأنه أن يخفض التكلفة إلى حد الاندماج والتماهي مع ما تفرضه الهيمنة من شروط، وهذا ليس إلا هروبا صريحا يحاول، عبثا، أن يخفي حقيقة « العقل الجبري» حين يفكر ويتصرف وفقا لما تتطلبه الهيمنة وليس وفقا لمتطلبات الشريعة كمرجعية، وما تتطلبه على وجه التحديد من إعادة النظر جذريا في نظرية الإعداد.
إذا أمعنا النظر في حديث حذيفة عن الخلافة، سنلاحظ الفرق بين تحليل ينطلق من فرضيات عقدية وآخر ينطلق من ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾. لكن قبل ذلك لنتساءل: عن أي خلافة يجري الحديث؟
- حديث أم سلمة
روت أم سَلََمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون اختلافٌ عند موتِ خليفة، فيخرج رجل من بني هاشم فيأتي مكة فيستخرجه الناسُ من بيته وهو كاره، فيبايعونه بين الرُّكن والمقام، فيُجَهَّز إليه جيشٌ من الشام حتى إذا كانوا بالبيداءِ خُسِف بهم، فيأتيه عصائب العراق وأبدال الشام، وينشأ رجلٌ بالشام وأخواله كَلبٌ، فيُجهَّز إليه جيشٌ فيهزمهم الله فتكون الدائرة عليهم، فذلك يوم كَلْب الخائبُ مَن خاب من غنيمة كلب فيستفتح الكنور ويَقْسم الأموال، ويُلقي الإسلامُ بجِرانِه إلى الأرض، فيعيش بذلك سبع سنين، أو قال تسع سنين».
هذا الحديث الذي رواه الطبراني في « الأوسط»، وذكره الهيثمي في « مجمع الزوائد»، يتفق رواةُ الحديث وشُرَّاحُه على أن المقصود فيه هو المهدي عليه السلام. لكن الحديث يُخبر بصريح القول عن: (1) حدث لم يقع بعد منذ العهد النبوي وإلى يومنا هذا! و (2) وخلافة قائمة، و (3) موت خليفة، و (4) وخلاف يقع بين المسلمين في أعقاب موت الخليفة: « يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل … »، وهو (5) المهدي الذي « يستخرجه الناسُ من بيته وهو كاره، فيبايعونه بين الرُّكن والمقام … ».
هذا الحديث بالذات يضع أطروحة « استعادة الخلافة» وفق حديث حذيفة على المحك. إذ أنه يكشف عن خلافة قائمة تسبق خلافة المهدي. وهذا يعني أن: (1) الأمة يمكن أن تقيم خلافة في مكان ما من العالم الإسلامي وهي واقعة تحت « الحكم الجبري»! بمعنى أن الخلافة والخليفة في ذلك الوقت لن يتمكنا من الإطاحة بـ « الحكم الجبري»، أو أن (2) الأمة استعادت سلطانها فعلا وبايعت خليفة أو أكثر إلى أن نشب خلاف بعد موت أحد الخلفاء. وفي كل الاحتمالات لن ستكون خلافة لكنها قطعا ليست « على منهاج النبوة» بحيث يدخل الإسلام « كل مدر ووبر». وهذا يؤشر على أن (3) الأمة تحتاج إلى وقت ما بين استعادة سلطانها وإقامة خلافة « على منهاج النبوة».
- حديث أنس
حديث أنس، « إنها نبوة ورحمة, ثم خلافة ورحمة, ثم ملك عضوض , ثم جبرية, ثم طواغيت»، يكاد يكون مطابقا لحديث حذيفة من حيث التنميط والمرحلة لكنه يخبر في روايته عن مرحلة سادسة هي مرحلة « الطواغيت». وهذا يعني أنه سيكون لدينا خمسة أنماط حكم بدلا من أربعة وستة مراحل بدلا من خمسة. وهذا لا يستوي أبدا مع جل الأطروحات التي تتحدث عن « استعادة الخلافة» بينما هي في واقع الأمر تتجاوز عن مرحلة لا أحد يعلم متى ستبدأ ولا كم من الزمن ستقطع. وهنا سيكون السؤال ليس عن ماهية « الحكم الجبري» وزمانه بل أيضا عن ماهية « حكم الطواغيت» وزمانه. ولعل في هذا ما يصيب الكثير من القوى الإسلامية في الإحباط. فالذين يقاتلون « الطاغوت» لبلوغ « الخلافة» لن يختلف حالهم عن الذين سخروا حياتهم للوصول إلى الحكم عبر المنهج السياسي أو الدعوي. فكلاهما لا يدري إنْ كان سيخوض الصراع من أجل الخروج من « الحكم الجبري» أم من أجل الدخول في « حكم الطواغيت».
هذه الإشكالية التي تبدو فيها الأحاديث للوهلة متعارضة أو تثير اللبس تجد تفسيراتها في رواية محب الدين الطبري عن سهل بن أبي خيثمة: « … الخلفاء بعدي أربعة والخلافة بعدي ثلاثون سنة نبوة ورحمة ثم خلافة ثم ملك ثم جبرية وطواغيت ثم عدل وقسط»، … . فالعطف هنا يفيد (1) القطع ما بين المراحل، وأن (2) « الجبر» بوصفه ملك يتضمن صفتي الـ « جبرية وطواغيت» كما تتضمن « الخلافة على منهج النبوة» صفتي الـ « عدل وقسط». وهكذا يمكن ملاحظة أن مرحلة « الحكم الجبري» تجمع، بالضرورة، ما بين قوى « الجبر» العالمية من جهة وقوى « الجبر» المحلية الواردة بصفة « طواغيت» باعتبارها أدوات « الجبر وليست قوته المركزية.
- حديث حذيفة
الحاسم في حديث حذيفة هو الزمن الذي يضع أية أطروحة سياسية في مأزق عقدي عميق. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: « ثم تكون خلافة» وسكت! بل أتبعها بعبارة: « على منهاج النبوة». والسؤال: لماذا حدد صفة الخلافة القادمة؟ ولماذا « سكت» بعد التحديد!!؟ وما الذي يمكن فهمه بصريح القول من هذه العبارة ونحن نعيش في قلب « الجبر» ونفكر بموجب أدواته؟
لا ريب أنه ثمة تفاضل في المكانة بين أنماط الحكم، فالنبوة هي الأكمل فيما يتعلق بالتوحيد تليها الخلافة وحتى الملك العاض. لكن ما بين الملك العاض وإلى يومنا هذا ثمة نحو 1380 عاما لم تكن نبوة ولا خلافة، ورغم أنه كان تحت سقف « التوحيد»، وتحققت فيه خلافة عمر بن عبد العزيز وفتح القسطنطينية والأندلس وفتوحات عظيمة نشرت الإسلام ووسعت من حدود الدولة الإسلامية في العالم، إلا أنه في ظل الملك العاض ظهرت أيضا الفرق المنحرفة والصراعات الضارية على الحكم وتعرض العالم الإسلامي لغزوات مدمرة كالغزو التتري والحروب الصليبية، وفقد الكثير من أمصاره في أوروبا وآسيا، والأسوأ أن أولى ملامح « الإسلام الشعائري» بدأت تحل محل « الإسلام الشرائعي»، بل أن الشعائر أخذت في التلاشي تدريجيا حتى أنه لم يعد ثمة فرق كبير أو صغير بين من يقيم شعائره ومن لا يقيمها طالما أن الإيمان بالقول دون العمل يفي بالغرض بحيث يتساوى البر من المسلمين مع الفاجر والفاسق والظالم والعاصي والفاسد والمفسد والقاتل والعميل والخائن وقاطع الطريق ….
إذن ثمة دخن كبير، ناهيك عن مخرجات « الجبر» التي لا تضاهيها أية مخرجات في أية مرحلة سابقة. وفي هذا ما يكفي من القول أن الأمة، بكل مكوناتها، لم تكن في المحصلة « على منهاج النبوة» أبدا، ولمّا تزل كذلك!؟ وإنْ كان ثمة من ينكر هذه المحصلة ويزكي هذه الجماعة الإسلامية أو تلك؛ فعليه أولا أن يزن شرعيا بعبارة «على منهاج النبوة» مفاهيم مثل: «الوسطية» و «التوافق» و « التدرج» و « الديمقراطية» و « الشرعية الدولية» و « الدساتير المعادية للدين» و « جواز ولاية الكافر على المؤمن» و « الولاء والبراء» و « إشاعة الفلسفات الوضعية» و « التغريب» و « الحداثة» و « اللبرالية» و « العلمانية» و « الرأسمالية» أو « فتاوى» أقرب ما تكون إلى « طبيخ النور»؟
لم يكرر صلى الله عليه وسلم، بعد عبارة « على منهاج النبوة»، عبارته التي رافقت الأنماط الأربعة من الحكم: « تكون ما شاء الله أن تكون»! ولا عبارة: « ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها»!! بل فوجئنا بعبارة: « ثم سكت»!!!!!!! ولم يقل ماذا بعد! وهو لا شك سكوت محير يحتاج إلى فقه عميق خاصة وأنه يوحي بأن آخر المراحل سيكون بعدها أمرا ما لا نعرفه أو أنه لن يُقبَل بعدها دينا غير الإسلام. وهنا يحضرنا حديثين للرسول صلى الله عليه وسلم هما (1) حديث « زوي الأرض» و (2) حديث « الوبر والمدر»، وله وجوه أخرى.
عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْك أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا … ».
وقَالَ الْإِمَام أَحْمَد: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَة حَدَّثَنَا صَفْوَان حَدَّثَنَا سُلَيْم بْن عَامِر عَنْ تَمِيم الدَّارِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: « لَيَبْلُغَن هَذَا الْأَمْر مَا بَلَغَ اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَا يَتْرُك اللَّه بَيْت مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّين بِعِزّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّه بِهِ الْإِسْلَام وَذُلًّا يُذِلّ اللَّه بِهِ الْكُفْر».
بالتأكيد لن يبلغ ملك الأمة ما زوي للرسول صلى الله عليه وسلم من الأرض؛ ولن يبلغ هذا الأمر: « مَا بَلَغَ اللَّيْل وَالنَّهَار»؛ ولن: « يَتْرُك اللَّه بَيْت مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّين بِعِزّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلّ ذَلِيلٍ» إلا إذا كان « على منهاج النبوة». وهنا سر العبارة في الحديث. إذ أن انتشار الدين وبلوغ المُلْك ( سلطان الأمة) لا يتحققان إلا إذا عاد الدين نقيا خالصا كما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكأنه، بعبارة خلدونية، « نشأة مستأنفة»، إذ ليس من العقل أو الدين أن تكون « خلافة على منهاج النبوة» يبلغ فيها الإسلام « كل وبر ومدر في ظل هذا الحطام الهائل الذي يستوطن الأمة منذ قرون أو في ظل ما أفرزه « الجبر» وأشاعه من أيديولوجيات وفلسفات أو ما نتج في ظله من أحزاب وحركات وجماعات. أي، بمعنى أدق، إذا عاد الإسلام شريعة وليس شعيرة.
فتح رومية
المؤكد أننا عرفنا بداية كل مرحلة، لكن من الذي بمقدوره الإحاطة بنهاية أية مرحلة. فقد استمرت النبوة 23 عاما، والخلافة الراشدة أغلقت على 30 عاما، لكن ما بين بداية الملك العاض إلى حدود انطلاقة الثورات العربية مع نهاية العام 2010 ثمة قرابة 1280 عاما، أما « الحكم الجبري» فقد دخلته الأمة بدء من نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1916، فمن يدري متى ستخرج منه لاسيما وأن التفاوت الزمني في المراحل لا يحتاج إلى بيان؟ وماذا سنجد في هذا التفاوت الزمني الذي لم تعد فيه فترتي النبوة والخلافة الأولى واردتين بعد أن قطعنا في الملك العاض مئات السنين؟ وفي « الجبر» نحو مائة عام؟ وكم سنحتاج من الوقت لو استرشدنا، في التحليل، بسورة « النصر»، حيث فتح مكة، أو حديث « الفتح» الذي بشر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية ورومية؟
فما بين فتح مكة والتمكين كان هناك وقت طويل للوصول إلى فتح القسطنطينية. فقد فتحت مكة في 20 رمضان سنة 8 للهجرة، وفتحت القسطنطينية ظهر يوم الثلاثاء 20 جمادي الأولى سنة 857 هجرية الموافق 29 مايو / أيار سنة 1453 ميلادية. أي بعد نحو 850 عاما من فتح مكة. وحتى سنة 1434 هجرية الجارية يكون قد مضى على فتح القسطنطينية 577 سنة هجرية. فإذا افترضنا وحدة المسافة الزمنية ما بين فتح القسطنطينية وفتح رومية فمن المفترض أن تفتح رومية بعد نحو 280 سنة هجرية من الآن أو أقل بقليل. لكن إذا افترضنا أنها بحاجة إلى فترة مساوية لفتح مكة فسيكون ثمة فارق بنحو 273 عاما تضاف إلى الـ 280 اللازمة لفتح رومية!!! فهل ثمة مشروع لأية جماعة أو حزب يمكنه أن يصمد لمئات السنين!!!!؟ وهل يعقل أن تعيش الأمة معلقة بحزب أو جماعة تتحدث بصيغة لا أريكم إلا ما أرى ثم تقول هذا من الشريعة؟
لا ريب أن ما قمنا به هو حساب افتراضي، لكنه قد يصح من حيث أن التمكين قد يسبق فتح رومية كما سبق فتح مكة والقسطنطينية من قبل. ومع ذلك فإذا كان من شبه المستحيل التنبؤ بالوقت اللازم لنهاية « الجبر» فمن المستحيل أيضا التنبؤ بالوقت اللازم لبلوغ « التمكين». أما الثابت الوحيد فهو أننا نعلم يقينا بأن عمر « الجبر» قد يكون أطول وقد يكون أقصر، وأن الخلافة القادمة ستقوم وقد لا تكون بالضرورة على منهاج النبوة. لكن أس المشكلة يكمن في أننا حين نفكر بالشريعة فإننا نستعمل الأنماط الأيديولوجية التي أفرزها « الجبر» ووقعنا فيها. والأسوأ من هذا أننا نلزم أنفسنا بهذا النمط من التفكير حتى لو خالف قناعاتنا وعقائدنا!!
- الشريعة
هي كـ « الخلافة» تماما! إذ نادرا ما نقع على نص يتحدث عن الشريعة في ظل « الجبر»، أو يجيب على أسئلة من نوع: ما هي الشريعة كما نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما هو حالها بالأمس وحالها اليوم؟ وكيف فقدتها الأمة؟ ولماذا اكتفت بالشعائر بديلا عن الشرائع؟ وكيف السبيل إلى إقامة الدين في عالم يخضع بالقوة القاهرة لحكم جبري؟
بداية لا بد من الفصل بين الشريعة عبادةً، لا يصح الإيمان بدونها، وبين الشريعة منهجاً إلى العدالة الاجتماعية. فالمظالم تقع حتى في ظل « تطبيق الشريعة»، والتاريخ الإسلامي يعج في المظالم. وفي السياقات التي نتحدث عنها لا بد من القول أولا أن أي تطبيق للشريعة لا بد وأن يسبقه فهم عميق للواقع الذي تعيشه الأمة. فمنذ الغزو التتري بدأ العالم الإسلامي يفقد الإسلام « شرائع» ويكتفي به « شعائر». وقد حدث هذا بسبب الرعب الذي أشاعه التتار ووحشيتهم في التعامل مع المخالفين لاسيما من المشايخ والعلماء الذين انزوى الكثير منهم عن القيام بدوره اتقاءً منهم لشرهم حتى بعد أن دخلوا الإسلام. ولا يخفى القول أن البعض يرى في فرق « الجامية» و « المدخلية» التي تتخذ من « طاعة ولي الأمر» موضوعها العقدي المركزي يُرجع جذورها التاريخية إلى زمن حكم التتار.
الحقيقة الثابتة أن العالم الإسلام كان، في أواخر العهد العباسي، قاب قوسين أو أدنى من السقوط لولا أن تداركه العثمانيون، بتقدير من الله عز وجل، وأخروا سقوطه نحو 400 سنة أخرى. لكن الطبيعة الحربية للإمبراطورية العثمانية، فضلا عن تبنيها الصوفية، لم تؤد إلى إحداث فارق في العودة بالإسلام إلى الشريعة. بل أن العثمانيين نادرا ما أولوا اهتماما بالتعليم الديني، أو ظهر من بينهم مجددين في الدين. وكانت النتيجة أنْ أورثوه العالم الإسلامي الدين كما ورثوه من العباسيين .. مجرد شعائر!! حتى أن الغالبية الساحقة من كتابات المؤرخين للعهد العثماني، فيما اطلعنا عليه من مسائل اقتصادية واجتماعية على وجه التحديد، خلت من الإشارة إلى أي حلال أو حرام فيما يتعلق بالربا الذي وصل حدودا خيالية. بل أن المساجد في قرى بلاد الشام خلت حتى من تطبيق الشعائر، وهجرها المسلمون إلى أن غدا الكثير منها مساحات لتخزين القمح وأوكارا لممارسة الزنا وشرب الخمور!!! وبقي هذا الحال إلى حدود منتصف سبعينات القرن العشرين، إلى أن نمت الجماعات الإسلامية وبدأ الحال يتغير.
مع انطلاقة حركة الاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر، ومن ثم العلوم الإنسانية، لاسيما علماء الأنثربولوجيا ممن وصفوا بـ « جماعي المعلومات» عن الشعوب، وتدفق هؤلاء على العالم الإسلامي، تَنبَّه المستشرقون إلى حالة العالم الإسلامي هذه. ولاحظوا مدى الجهل المدقع بالعلم والدين، حيث بدا العالم العربي لهم، على وجه الخصوص، وكأنه عاد إلى عاداته وثقافته الشفهية الأولى التي اشتهر بها قبل الإسلام .. وهي ملاحظة تشير إلى فقر مدقع حتى في الشعائر. أما الشرائع فقد كانت شبه غائبة كليا. لذا كان سهلا على المستشرقين أن يمارسوا أكبر عملية خداع للأمة حين روجوا للشريعة لا بوصفها نظام حياة بل نظام عقوبات! ثم اختزلوها إلى نظام حدود، إلى أن وصل الأمر باعتبارها مجرد حدَّيْن هما السرقة والزنا!!! وهنا وقعت الطامة الكبرى، حيث كان الناس يتقبلون الشريعة كطقوس يؤديها كبار السن في أحسن الأحوال، لكن دون أن يترتب على تاركها أية عقوبات مادية أو معنوية أو شرعية. أما مع الطرح الجديد للمستشرقين فقد بدت الشريعة كما لو أنها نظام دموي متوحش وظالم.
كانت المرابط الثقافية بمختلف مكوناتها اللبرالية والعلمانية والماسونية قد استوطنت مبكرا في رحاب الإمبراطورية العثمانية، عبر البعثات التعليمية التي توجهت إلى أوروبا ابتداء من أواخر القرن السابع عشر، كما استوطنت في العالم العربي، أواخر القرن الثامن عشر، انطلاقا من مصر عبر محمد علي باشا وجمال الدين الأفغاني ومخلفاتهما التي وصلت إلى بلاد الشام واستقرت في العاصمة اللبنانية – بيروت. ونجحت الثقافة التغريبة وأدواتها من النخب العلمانية مبكرا في زرع مستوطناتها كدور النشر والترجمة ووسائل الإعلام أو عبر الرموز الثقافية والسياسية والأحزاب العلمانية المحملة بالأيديولوجيات الوافدة.
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل عن معادلة الصراع مع ملل الكفر: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾، ( البقرة: 217). هذا الصراع امتد خلال الفترة الواقعة ما بين الملك العاض والوقوع في « الجبر» مع انتهاء الحرب الأولى سنة 1916، وهي فترة زمنية تقدر بنحو 1280 عاما، عدا عن المائة عام الماضية .. صراع مرير انتهى بالأمة إلى هذا الحال. ومع ذلك؛ فمن العجيب أن يظن البعض أن « تطبيق الشريعة» أو بالأصح « إقامة الدين» هو مجرد قرار سياسي يمكن للحاكم أن يوقع عليه كما لو أنه مرسوم ملكي أو جمهوري أو أميري أو سلطاني يعالج قضية وطنية!!! ومن الأعجب أن نجد قوى إسلامية وشخصيات ومفكرين وحتى قوى جهادية تجادل في « تطبيق الشريعة» كما لو أنها مشروع قابل للتطبيق دون دراسات عميقة للغاية تَرْقُب ما حل في الأمة خلال قرون طويلة ومؤلمة.
الذين يتحدثون عن » تدرج« في « تطبيق الشريعة» يمارسون في الواقع عملية هروب صريح، كونهم لا يملكون أصلا موضوعا للتطبيق ولا أدنى آلية أو برنامج موضوعي أو زمني يمكن الاسترشاد به، فضلا عن الاستعمال والفهم الأيديولوجي لمفهوم « التدرج». أما الذين يحتجون بـ « التمكين» ويعيبون على غيرهم عدم « تطبيق الشريعة» ولو بحد واحد فهم يجهلون أو يتجاهلون حقيقة أنهم واقعون في المحصلة ضحية ما روجه المستشرقون.
الواقع أنه ما من تدرج في شريعة اكتملت مثلما أنه ما من تمكين لأمة واقعة تحت « الجبر». وبالتالي فإن كلا الأطروحتين لا تمتان للحقيقة والواقع بأية صلة، ولا تأخذان الأمر على محمل الجدية بقدر ما تقعان في الأيديولوجيا. فالشريعة هي نمط حياة. وتطبيقها بالكامل يعني أن يكون للأمة أنظمتها التي تعبر عن وجودها الحضاري وهي في حالة الفعل وليس في حالة رد الفعل. بمعنى أن « تطبيق الشريعة» يستدعي استبدال النظم القائمة بنظم خاضعة للشريعة. وهذا يتطلب أن يكون ثمة نظم شرعية، وسياسية وتعليمية واقتصادية وتجارية ومالية وثقافية وإعلامية وقضائية وعسكرية وأمنية، بديلة عن النظم السائدة تحت « الجبر».
لكن كم من دعاة « تطبيق الشريعة» أو جماعاتها أخذ بعين الاعتبار أن الأمة تعيش منذ مئات السنين الإسلام باعتباره طقوسا وشعائر وليس شرائع وأحكاما؟ وكم منها تساءل: كيف يمكن أن ننتقل بالإسلام والمسلمين من حالة الشعائر إلى حالة الشرائع؟ وما هي حجم العراقيل التي ستعترض عملية الانتقال؟ وما هي البدائل التي ينبغي توفيرها للمجتمع واحتياجاته المرتبطة في العالم، بحيث تمر عملية الانتقال بسلاسة بعيدا عن الفتن والخسائر والصدامات الاجتماعية المحلية فضلا عن التدخلات الدولية والقوى المضادة التي من المرجح أن لها القدرة الفعلية حتى هذه اللحظة على إفشال أية محاولة في الطريق إلى الشريعة ؟
فالذي نعرفه أن (1) « تطبيق الشريعة» في « الدولة القومية» أو في أي اجتماع إسلامي، ولو في أقاصي الأرض، سيؤدي، على الأقل، إلى تدخل النظام الدولي عسكريا بصورة مباشرة إذا عجزت القوى المحلية عن التصدي لها. وأن (2) هوية الدولة ونظامها السياسي برمتها علمانية حتى لو كانت بلاد الحرمين، وأن (3) البنية التحتية للدولة القومية علمانية بالكامل سواء في القضاء أو التعليم أو الصحة أو النقل والمواصلات أو العمل أو التجارة … وأن (4) « الدولة القومية» في مصر مثلا تستورد ما يعادل 70% من سلتها الغذائية والدوائية من الخارج، وأن هناك دول تصل فيها النسبة إلى حدود 85%. وأن (5) نظام العملة المحلية ليس له أية قيمة دولية أو إقليمية في أية مبادلات تجارية أو اقتصادية أو استثمارات وأن (6) نسبة الحداثة في بعض الدول، بحسب مركز بيو للاستطلاعات، وصلت إلى 81% كما هو الحال في تونس وقريبا منها في المغرب فضلا عن لبنان وحتى بعض المدن الخليجية، وأن (7) ثقافة الناس جبرية، وأن (8) نسبة لا بأس بها من المجتمع ستحارب بشراسة، سرا أو علانية، أية محاولة لـ « تطبيق الشريعة»، وأن هذه النسبة ستبدو خطرة جدا في المجتمعات المعقدة وخاصة في الدول الكثيفة سكانيا، …. .
المسألة هنا لا تتعلق باستشارة الناس أو استرضائهم ليقبلوا بالشريعة، ولا بالإسقاطات التعسفية لبعض الأحاديث في غير مناطات تنزيلها، بل بحال الأمة وزمانها ومكانها وظروفها. إذ لا يصح تجاهل ما راكمته مئات السنين من كوارث، أو ما خلفته من تحولات وتبدلات واختلالات وكأن شيء لم يكن ، أو كأن كل شيء متصل لم ينقطع في الزمان ولا في المكان. فهل مجتمع النبوة هو ذاته مجتمع الخلافة أو الملك العاض؟ وهل مجتمعات الأنماط الثلاثة هي مجتمع « الجبر» الذي نعيش!؟ وهل الحكم الشرعي في زمن النبوة كان أسهل منه في زمن الخلافة ناهيك عن الملك العاض، وهل سيكون تطبيقه أسهل أم أصعب في زمن « الجبر»، حيث لا أمة ولا بيئة ولا شريعة ولا قوة ولا مَنَعة؟
يقول الشافعي رحمه الله أن « الفتوى زمان ومكان وواقع حال». لكن الغالبية الساحقة من الفتاوى، التي يجري إسقاطها تعسفيا دون النظر في واقع الحال، تفتقر إلى التأصيل الشرعي والفقهي بحيث تبدو أقرب ما تكون إلى التصريحات السياسية. ولو كانت مؤصلة شرعيا وشاملة فقهيا لتَبيَّن لنا أن إقامة الدين تحت « الجبر» منوط بالقدرة أو الاستطاعة فيمن يقوم على تطبيق الحكم الشرعي مثلما هو منوط فيمن يخضع له. ودون ذلك فهو ليس بحديث شرعي بقدر ما هو حديث أيديولوجي يستجيب فقط لمطالب سياسية وأمنية أو احتياجات حزبية أو قراءات قاصرة عقلا وشرعا.
- نظرية الإعداد
تكاد تكون نظرية الإعداد أهم ما تحتاجه القوى الإسلامية لاسيما الجهادية منها. في حين أن الواقع يؤكد أنها أبعد ما تكون عن مواضع الفقه بها. لكن أطرف ما في النظرية أنها الفاضحة لـ « العقل الجبري» وعيوب العمل.
يقول الله عز وجل:
﴿ وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، ( الأنفال:٦٠ ).
المعطى الأول: في الآية يشير إلى أنه ثمة أمر تكليفي واضح يوجب الإعداد لمواجهة ثلاثة أعداء هم: (1) عدو الله، و (2) عدوكم، و (3) وآخرين من دونهم يعلمهم الله ولا نعلمهم. وهو أمر رباني صريح لا يقبل إلا التسليم به والطاعة في تنفيذه.
والمعطى الثاني: هو ماهية الأمر الذي يلزم المسلمين بالإعداد لمواجهة ثلاثة أعداء، وهم بالمحصلة أعداء الله، سواء كانوا معروفين أو مجهولين. لكن الإعداد هنا يتعلق بالمعلومين من الأعداء في حين أن إرهابهم يشمل غير المعلومين.
والمعطى الثالث: هو الذي يحدد مضمون الإعداد. وهو الاستطاعة الواقعة، مبدئيا، ما بين الحد الأدنى والحد الأقصى، لكنها هنا بموجب العبارة ﴿ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ﴾، مقيدة بالحد الأقصى. وهي عبارة وردت مرتين في القرآن الكريم، وفي الثانية سبقها أمر بوجوب التقوى، وتلتها أخرى بوجوب السمع والطاعة والإنفاق: ﴿ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا۟ وَأَطِيعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَيْرًۭا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾، ( التغابن:١٦).
إذن الإعداد لا ينفع معه « الكِبْر» و « الهَوَى». فهو أمر وجوبي لبلوغ أقصى درجات القوة. وفي أقصى مضامينه لا يمكن أن يكون عصيا على التنفيذ، ولا تعجيزا يفوق القدرة على الاحتمال، بل هو في الصميم ضرورة تتطلب استنفاذ الجهد والوسع الواقع حتما في نطاق ﴿ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، مثلما هو بموجب التقوى واقع حتما في نطاق ﴿ ٱلْمُفْلِحُونَ﴾. أما الهبوط في الاستطاعة من الحد الأقصى إلى ما دون ذلك وصولا إلى الحد الأدنى، فهو إخلال جسيم في شروط الإعداد يخرجه من نطاقه الشرعي الموصل إلى الفلاح إلى النطاق الدنيوي.
فإذا خلصت النوايا والتزم القائمون على الإعداد بشرطي إخلاص النوايا والتقوى والهدف منه، فإن الخطوة الأولى في الإعداد هي المعرفة بما تفرضه من وجوب تَوَفُّر قراءة شاملة ودقيقة وملزمة تأخذ بعين الاعتبار ضرورة: (1) التشخيص الدقيق لهوية الصراع كما هي، و (2) ومعرفة وزنه محليا وإقليميا ودوليا، و (3) زمن الصراع ومداه، و (4) وقدرات العدو ومصالحه أهدافه، و (5) القوى الحليفة والمحايدة والخصيمة والمستفيدة، و (6) الاحتياجات اللازمة من عناصر وأدوات القوة لخوص الصراع، و (7) الوقوف على نقاط الضعف والقوة.
وتلزم الإشارة، في السياق، إلى أن وجوب الإعداد لبلوغ أقصى درجات القوة ينبغي ألا يتوقف ولو للحظة واحدة، لكنه لا يلزم معه الدخول في الصراع إلى أبعد مدى إلا بموجب ما تفرضه السياسية الشرعية في ضوء وقائع الصراع، كما لا يلزم معه أن يتم استخدام ما تم إعداده بالضرورة. إذ أن توفر أدوات القوة لا يعني بالضرورة استخدامها في وقائع الصراع، فقد يؤدي مجرد امتلاكها إلى الردع أو حتى الهزيمة للعدو دون الاضطرار إلى استعمالها إلا وقت الحاجة.
المسألة الحاسمة في الإعداد بمقتضى ﴿ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ﴾، أنه ينبني على التكليف الشرعي وليس على الرغبة أو الاختيار. أما المشكلة فتقع غالبا في المدى، أي ما بين الحد الأقصى والحد الأدنى. فإذا كانت الأمة تعيش في زمن « الجبر» فمن المفترض أن يكون الإعداد في مستوى القوى « الجبرية» المهيمنة، وإذا كان الطموح هو الوصول بالأمة إلى إقامة الدين فينبغي أن يأخذ الإعداد بعين الاعتبار الأوضاع التي مرت بها الأمة، ونقلتها من الشرائع إلى الشعائر، وكذا العقبات والقوى المناهضة التي تحول دون الوصول إلى الهدف. لكن إذا هوى المدى إلى ما هو أدنى فسيعني ذلك أن سقف الإعداد انخفض حتى لو كانت أهدافه المعلنة « تطبيق الشريعة»، وهي كما سبق وأشرنا مصطلح جرى التفكير فيه كما لو أنه مشروع سياسي. بل أن النزول إلى الحدود الدنيا سيعني بالضرورة أن الإعداد فقد صفته الشرعية ولم يعد وفقا لـ ﴿ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ﴾، بقدر ما يصير وفقا لـ رغباتكم أو لما ﴿ تَهْوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ﴾، التي تجد صداها في أطروحات أيديولوجية ذات طابع سياسي من نوع دولة مدنية ديمقراطية أو حكومة انتقالية أو مصالحة وطنية أو وحدة وطنية أو ذات طابع قيمي من نوع التسامح والمساواة والتعددية وأخوة الوطن … !!!
ميزة « العقل الجبري» في الإعداد أنه فاضح. إذ من المكن ملاحظة جماعة جهادية تتبنى « تطبيق الشريعة» في حين أن برنامجها السياسي وطنيا من ألفه إلى يائه!! أو مجرد يوتوبيا نظرية لا تنفع لإنجازه ناهيك أن يكون لها مبرر بعد نجاح المشروع!! فكيف يستقيم هذا مع اللوازم الشرعية لنظرية الإعداد؟ ولو افترضنا جدلا أن هذه الجماعة اخترقت « الجبر» وقامت في الأرض! وشرعت فعلا بـ « تطبيق الشريعة»، فهل تستطيع هذه الدولة أن تتنصل من كونها دولة توحيد تقع على عاتقها مسؤولية المسلمين في شتى أنحاء العالم؟ أم أن « التوحيد» يمكن تجزئته أو حصره في الحدود الوطنية!!؟ ومثل هذا الأمر ينطبق على الجماعات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم دون أن يكون لديها ولو ملفا واحدا عن وزارة تديرها، بحيث تعرف تاريخها وبنيتها وآلية اتخاذ القرار فيها، ومراكز القوى التي تسيطر عليها، وحجم ممتلكاتها، والكائن منها والمفقود، وحجم الفساد والنهب، والمظالم التي وقعت فيها بحق الناس … !! فما هو مستوى الإعداد الذي أنجزته هذه الجماعات لتطبق الشريعة أو لتقيم خلافة أو دولة أو تدير حتى مجرد وزارة؟
الذي فعلته القوى الإسلامية، الجهادية والدعوية والاجتماعية والسياسية، مع التفاوت فيما بينها، أنها في اختياراتها العقدية المحددة ومناهجها المتعددة، دخلت في صراعات أيديولوجية جعلت من التنافس والاستقطاب والإقصاء والإسقاط أولوياتها في العمل، وتبعا لذلك بحثت، ولمّا تزل، عن النصرة والموالاة والتأييد بأي ثمن أكثر مما عملت في الإعداد. بل أنها بدت أشد شراسة في صراعاتها الأيديولوجية والمسلحة من صراعات القوى العلمانية فيما بينها حين كانت تمتلك السلاح في العقود السابقة.
كلمة
لا أحد، إلا من كابر، يستطيع القول أن أيا من القوى الإسلامية ورموزها مهما بلغ شأنها استطاعت، تنظيميا أو شرعيا، أن تحشد من خلفها الأمة أو تصمد في أية مواجهة سياسية أو عسكرية. ولا يعني هذا التقييم أنها فشلت ولم تُحدث فارقا في الأمة لكنها قطعا عجزت عن حسم أية مواجهة لصالح الإسلام والمسلمين. والأسوأ من هذا أنها بدلا من إعادة تقييم أدائها والتوقف عند مواطن الخلل في أطروحاتها، أخذتها العزة في الإثم وأوغلت في الخطيئة، أو اتجهت نحو التراجع عما سبق وآمنت به أو دافعت عنه .. ولكن بكبرياء وضيع!!! أما لماذا هذه النتيجة؟ فلأن مشاريعها أقرب إلى الهدم منها إلى البناء .. ولأنها من فِعل و ﴿ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ﴾، وهذا هو عين « الجبر» بل عين « العقل الجبري».
(المصدر: رسالة بوست)