العشر المباركة
بقلم د. عامر الهوشان
في زحمة الحياة المادية القاسية التي تمر بالمسلمين والناس أجمعين وفي غمرة التكالب على الدنيا والانشغال بزخرفها وزينتها والاغترار بأوهامها وأمانيها…..ترتكس الروح وتنتكس ويصاب القلب ويتلوث بأكدار الدنيا وغبارها وتتوق النفس المؤمنة إلى ذلك الفضاء الرحب وتلك المعاني السامية والمشاعر والأحاسيس الصادقة .
علم الله – الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء – تقلب أحوال بني آدم و حاجة أرواحهم بيت الحين والآخر إلى نفحات إيمانية ونفوسهم إلى شحنات ربانية و قلوبهم إلى محطات يصلحون بها ما فسد فيه أو انحرف….فجعل لهم في أيام دهرهم نفحات يتعرضون لها فيغسلون بها أدران القلوب ويزيلون خلال ساعاتها ودقائقها ما علق في الروح والنفس والقلب من سوء و ران وما تلبست به الجوارح من إثم وذنب ومعصية .
ليس من باب المبالغة أوالتهويل القول : إن أيام عشر ذي الحجة التي سيستهلها المسلمون هذه الليلة أو ليلة غد هي من أعظم المنح والنفحات الإلهية التي امتن الله تعالى بها على عباده وتفضل بها على خلقه , وكيف لا وقد اجتمع فيها كل أصناف العبادات والطاعات من صلاة وصيام وصدقة وزكاة وحج وذكر لله تعالى .
في هذه الأيام والليالي المباركة يتوافد حجاج بيت الله الحرام و ضيوف الرحمن إلى أطهر بقاع الأرض وأقدسها لأداء مناسك الحج والعمرة وإعلان منتى الخضوع والاستسلام لأوامر الله سبحانه وإظهار غاية التبتل والانكسار لإله الأرض والسماء .
وفي أيام وليالي عشر ذي الحجة المباركة يتضاعف ثواب الطاعات والعبادات والأعمال الصالحة للحاج ولغير الحاج إلى أضعاف مضاعفة , ويتنافس المتنافسون من عباد الله الصالحين إلى العمل الصالح وفعل الخيرات وترك المنكرات لما فيها من الأجر والثواب العظيم .
جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ ) . يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ : ( وَلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ ) سنن الترمذي برقم2440 وصححه الألباني .
كثيرة هي الأعمال الصالحة التي لا ينبغي أن تفوت المؤمن الحريص على تلقي نفحات الله في هذه الأيام قبل فواتها , و متنوعة هي العبادات والطاعات التي لا يحسن بالمسلم أن يضيع واحدة منها في هذه الأيام والليالي العشر .
أولى هذه الأعمال والطاعات تلك السنة النبوية التي غابت عن كثير من المؤمنين ولا نكاد نجد لها تطبيقا واسعا في مجتمعات الموحدين , ألا وهي سنة الإكثار من التهليل والتكبير والتسبيح في هذه الأيام المباركة , فقد جاء مسند الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ ) .
قال الإمام البخاري رحمه الله : “كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيّام العشر يكبران ويكبر النّاس بتكبيرهما”، وقال أيضا : ” وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا” , كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمنى تلك الأيّام وخلف الصلوات وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيّام جميعا .
الصدقة والإنفاق في سبيل الله والإكثار من أعمال البر والإحسان وقضاء حوائج المسلمين ودفع الأذى عنهم وحسن الجوار وإغاثة الملهوف وصلة الأرحام …….من الأعمال الصالحة التي قد تغيب أحيانا عن أذهان بعض المسلمين في هذه الأيام المباركة نظرا لخطأ قصر الأعمال الصالحة الواردة في الحديث النبوي على الصلاة والصيام والعبادات الشعائرية فحسب !!!
لا شك أن صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة سنة ومستبحة استحبابا شديدا كما قال الإمام النووي رحمه الله لدخولها في عموم العمل الصالح الوارد في الحديث الصحيح ولما ورد بشأنها عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كل شهر ) أبو داود وأحمد والنسائي .
ليس اغتنام أيام عشر ذي الحجة ولياليها ضرورة روحية قلبية نفسية أخلاقية فحسب , بل هي أيضا ضرورة حياتية دنيوية جسدية , فالصحة البدنية المأمولة و الحياة السعيدة المنشودة و……..لا يمكن أن تُنال بغير طاعة الله ومرضاته .
(المصدر: موقع المسلم)