إعداد علي طه
أكد الكاتب والباحث التاريخي منصور العساف أن مسلسل هارون الرشيد الذي يقدَّم على شاشات عدد من القنوات العربية، اعتمد في كثير مما قدمه على روايات ضعيفة وأخرى شاذة، وعلى الروايات المشبوهة وغير الموثقة.
وأكد العساف أنه لاحظ ذلك من خلال متابعته بعض مشاهد العمل، وقد منعه من مشاهدة بعضها الآخر كثرة المحاذير الشرعية والمشاهد التي تخدش الحياء، التي لم تراع خصوصية الشهر الفضيل.
ويضيف في حديث إلى موقع “المثقف الجديد”: نستطيع القول إن العمل حسب ما عرض منه يحتوي على كم كبير من الأخطاء التاريخية والمنهجية، ولعلنا نذكر منها في البداية مثالين سريعين:
• أن العمل تحدث عن شخصية (مراجل)، وهي والدة المأمون، التي توفيت بعد أن وضعت ابنها، ولكننا نراها في المسلسل موجودة، ونجدها حية ترزق بعد ولادتها المأمون بن هارون الرشيد، وهذا غير صحيح.
• العمل قدّم صورة غير صحيحة للصفات والطباع الأخلاقية والجسمانية في شخصيات الهادي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، وهي شخصيات قدمها العمل، حقيقة كلها غير واقعية، وتجافي ما كُتب عنهم وعن صفاتهم وما قيل عنهم في كتب التاريخ الموثقة.
لا ينكر العساف أن بعض الممثلين كان أداؤهم في العمل جيداً، لكنه يؤكد أن السقطة الكبرى هي أن الكثير مما قُدم من معلومات تاريخية في النص المكتوب هي غير سليمة.
ويذكر العساف أن من أكبر الأخطاء التي وقع فيها العمل وروّج لها أن الخليفة (الهادي) حاول قتل والدته (خيزران) بالسم! وأن أمه سبقته فتغدت به قبل أن يتعشى بها؛ فناولَته السمّ فقتلته! وهذه الرواية غير مؤكدة، ولم تثبت، إلا أنه جرى تقديمها وكأنها حقيقة تاريخية مثبتة.
ويرى العساف أن مَن كتَب العمل بدا من خلال ما كتبه وكأنه يهدف إلى تشويه التاريخ والاستشهاد بالقصص الغريبة وغير الموثقة، وهذا ظاهر في مشاهد العمل وأحداثه؛ إذ قدم شخوصه وكأنهم قتَلة عديمو الإنسانية، وكأن الغدر والدسائس كانت هي الصفات السائدة وقتها للوصول إلى السلطة والحكم، وكل واحد من هؤلاء ينتهز الفرصة السانحة ليقضي على الآخر.
ويضيف العساف: من الخطأ الفادح اعتماد روايات لم تثبت تاريخياً، وتقديمها على أنها حقائق يجب الأخذ بها، وقبولها على أنها مسلمات.
ويستطرد: من الملاحظ أن العمل لم يراع الصفات الجسمانية لأبطال العمل، وكأن من كتب النص لم يقرأ عنها جيداً فمثلاً: (هارون الرشيد) وُصف بأنه أبيض الوجه طويل القامة، ويتصف بالوسامة، ويميل إلى السمنة أكثر من ميله إلى النحافة، وهي صفات مشهورة عنه، وقد أغفلها العمل.
ويسترسل العساف في بيان كيفية تمادي المسلسل في استعانته بالروايات المشبوهة، فيقول:
على سبيل المثال: مرحلة نكبة البرامكة، قدمها العمل وكأنه يريد أن يوصل إلينا رسالة مفادها: أن هارون الرشيد نكب البرامكة وانقلب عليهم، وربما غدر بهم، وكان يفترض أن يستشير خبراء في التاريخ؛ ليقدموا له رأياً سديداً في الموضوع.
ونرى في العمل تكبيره وتضخيمه قصة (العباسة)، شقيقة الرشيد، التي تُعطى حجماً ودوراً أكبر مما كان عليه في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع، فالمسلسل الذي أمامنا ضخّم قصتها، وأظهرها على أنها الشخصية المؤثرة في الدولة! وزعم أنها تزوجت (جعفراً البرمكي) سراً؛ وأن هذا هو ما أغضب هارون الرشيد!
يقول العساف: أعتقد بأن اعتماد قصة العباسة في العمل على رغم ضعفها سببه الرغبة في استخدام وسائل التشويق وجذب المشاهدين؛ خصوصاً أن شريحة منهم تستهويهم هذه القصص التي بعضها قد لا يتجاوز كونها من الخيال فقط، وإن وُجدت بعض المرويات عنه فهي موضوعة مكذوبة مختلَقة.
ويستطرد: العباسة غير معروفة تاريخياً بنشاط يُذكر، ولم يذكرها المؤرخون هذا الذكر الذي يريد المسلسل أن يروج له؛ فهي لم تكن حاضرة في المشهد السياسي أو العسكري، ولم يكن لها أولاد من الأمراء، وبعض الجواري في زمانها كن أشهر منها وربما كان لهن دور أكبر.
ويضيف: لقد ركز المسلسل في السلبيات فقط، ولم يقدم حياة الرشيد بإيجابياتها وسلبياتها، كما ركز فيما يقولون إنها الدسائس حول الحكم في ذلك الزمن، وتجنّب الحديث عمداً عن أعمال هارون الرشيد العظيمة وإنجازاته الحضارية، مثل فتح مدينة (هرقلة) عام 190 للهجرة، وكان ذلك فتحاً عظيماً تحدث عنه أبي الفرج الأصفهاني الذي يكتب عن الفن والطرب في كتابه (الأغاني)، وسطّر عنه كلاماً يُكتب بماء الذهب، فضلاً عما كتبه عن ذلك الطبري أو ابن كثير أو ابن الأثير، أو غير هؤلاء، كالمسعودي واليعقوبي.
ويتابع: لقد أهمل العمل حقائق تاريخية مهمة، منها أشهرُ حقيقة عن هارون الرشيد، وهي: أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وهي معلومة ثابتة تاريخياً، فلم يُشر إليها، كما أنه لم يظهر للأجيال شيئاً من الجانب المشرق للرشيد، ولم يقدم للناشئة شيئاً يستطيعون أن يروا من خلاله الإنجازات التي شادها أجدادهم القدماء في عصر هارون الرشيد، ولا هو كذلك قدّم الرشيد بجميع جوانبه السلبية والإيجابية حتى يقال إنه كان موضوعياً، ولا اعتمد على أي شيء من الروايات الثابتة والمتواترة عن ذلك الخليفة العباسي العظيم، بل إنه لم يجد سوى أن يهتم بترويج الروايات الشاذة والمكذوبة وإشهارها عن هارون الرشيد وأيام خلافته.
ويوضح العساف أن العمل أغفل بشكل لافت الحديث عن البلاط الأدبي الرفيع في زمن الرشيد، وعن شخصيات شهيرة، مثل: أبي العتاهية، وأشجع السلمي، والأصمعي، والعتابي، وأبي نواس، لم يتحدث عن الجانب العلمي في زمن الرشيد، ولا عن إبداعات المسلمين في هذه الحقبة في شتى العلوم، ولا عن الروايات الأوربية التي تحكي أن هارون الرشيد أرسل إلى شارلمان الساعة العربية الدقاقة التي كانت تُحفة من تُحَف التقدم العلمي في ذلك العصر.
وفيما يتعلق بزوجة الرشيد (زبيدة)، يقول العساف:
لقد أظهر هذا المسلسل جوانب سلبية لزبيدة زوجة الرشيد ولم يتحدث عن إيجابياتها، خصوصاً أعمالها الاجتماعية والخيرية، مثل إجرائها عين زبيدة للحجاج والمعتمرين والمسافرين، وأوضح أن من كتب المسلسل كان يجهل اسم زبيدة الحقيقي، وهو (عزيزة)، وأما (زبيدة) فهو لقب أطلقه عليها جدها أبو جعفر؛ لأنها كانت سمينة وبيضاء، فكان يمازحها ويقول لها: (أنت لست عزيزة، أنت زبيدة).
وحتى فيما يتعلق بهارون الرشيد، بدا أن من كتب النص هو وفريق عمله كانوا يجهلون أن هارون الرشيد توفي وهو في عمر صغير نسبياً، أي في الثامنة والأربعين من عمره.
ويختم منصور العساف حديثه إلى موقع “المثقف الجديد” قائلاً: ما ذكرته آنفاً إنما هو جزء يسير مما وقع فيه العمل من أخطاء تاريخية، ونحن لم نسلط الضوء على الأداء والتمثيل، وهذا لا يمنع من أن نشير إلى أن أداء كثير من العاملين في المسلسل كان لدى بعضهم قدر كبير من التكلف والجمود والتصنع في نبرة الصوت والأداء.
لقد كان يُنتظر من المسلسل على الأقل أن يقدم تاريخاً موثّقاً، إلا أن كثرة السقطات الواردة فيه أفقدته بريقه، وجعلته هزيلاً، لا يصمد أمام أدوات التدقيق العلمي والتحقق التاريخي.
(المصدر: موقع المثقف الجديد)