مقالات مختارة

العز بن عبد السلام وفقه المقاصد

بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد

للعز بن عبدالسلام عدد من الكتب يحمل عنوان المقاصد وما في معناه، مثل: مقاصد الصلاة، مقاصد الصوم، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فوائد البلوى والمحن، بالإضافة إلى كتابه شجرة المعارف والأحوال.

وسوف نقتصر هنا على ما كتبه في العبادات؛ لِما له من صلة بالتقصيد الجزئي واستقلال فيه.

الفرع الأول: مقاصد الصلاة:

يرى العز بن عبدالسلام أن مقصود العبادات كلها التقرب إلى الله عز وجل[1]، أما مقصود الصلاة الأعظم عنده فهو تجديد العهد بالله تعالى، وقد اشتملت من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضًا وندبًا على ما لم تشتمل عليه غيرها، ونهى فيها عن أقوال لم ينهَ عنها في غيرها، كل ذلك ليتوفر المكلف على الإقبال عليها؛ لأن مقصودها تجديد العهد بالله؛ ولذلك جعلت لها مواقيت متقاربة؛ لئلا يبعد عهد العبد بذكر الله، قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14][2].

هذا هو أبرز ما ذكره العز في مقاصد الصلاة، وبعد ذلك يستعرض أفعال الصلاة وأقوالها، واجباتها ومندوباتها، والحقوق التي فيها، موظفًا كل ذلك في تعزيز مقصود الصلاة، وهو ذكر الله تعالى.

  • ومن ذلك قوله في موضع آخر عن سر التكبير: “ولما كان مقصود الصلاة الذكر، وجب أن يتعرف قدر المذكور وملاحظته؛ ليلزم معه الأدب؛ فافتتحت بالتكبير الدال على الكبرياء؛ ليعلم لمن هو قائم وقاعد وراكع وساجد، ليخضع له خضوعًا يجب مثله لكبريائه، فإذا لاحظ كبرياءه لزم أدب الصلاة الظاهرة والباطنة، واشتغل بالله وحده… ولذلك شرع التكبير لله في جميع الانتقالات؛ لأن اشتغاله في أطوار الصلاة بملاحظة أذكارها قد شغله عن ملاحظة الكبرياء، فشرع في ابتداء كل طور تجديد ملاحظة الكبرياء؛ ليوفي ذلك الطور حقه من الخضوع والخشوع”[3].

ويمضي العز بن عبدالسلام مع أذكار الصلاة وأقوالها وأفعالها مبينًا الأسرار الكامنة فيها، وما ينبغي أن يقوم به المصلي مع كل قول وفعل، فإذا قرأ آيات الصفات لاحظ ما اشتملت عليها الآيات من الكمال والجلال، من كتاب: مقاصد الأحكام الفقهية، والقدرة والإنعام، وإذا قرأ آيات القصص لاحظ العِبَر التي تضمنتها، وإذا قرأ آيات الأمر والنهي لاحظ معنى ذلك عازمًا على الطاعة والامتثال.

  • يقول: إنه ينبغي للقارئ إذا قال: “سبحان ربي العظيم” أن يلاحظ معنى التسبيح، وهو سَلْب النقص عن الذات والصفات، ويلاحظ معنى الربوبية، ومعنى العبودية بقوله: “ربي” واقفًا على معنى العظمة المستوجِبة للربوبية والتسبيح، وكذلك يلاحظ معنى العلو في قوله: “سبحان ربي الأعلى”، فإن لم يلاحظ ذلك فقد فاته ذكر القلب، وهو أفضل الذِّكر، وإذا قال: “إياك نعبد” أن يلاحظ معنى العبادة، وهي الطاعة على غاية الخضوع، و”إياك نستعين” أن يلاحظ معنى الاستعانة، وما فيه، واختصاصها بالله دون غيره…[4]،وهكذا يسير العز في كتابه مع الصلاة أقوالًا وأفعالًا.

الفرع الثاني: مقاصد الصوم:

يتكون هذا الكتاب من عشرة فصول: وجوبه، وفضائله، وآدابه، وما يجتنب فيه، والتماس ليلة القدر، والاعتكاف والجود وقراءة القرآن، وإتباع رمضان بستٍّ من شوال، والصوم المطلق، وصوم التطوع، والأيام التي نُهِيَ عن صيامها.

ولعل عناوين الفصول لا تَشِيَ بوجود حديث عن مقاصد، أو لا تدل على تناولٍ مقاصدي، وهذا صحيح في مجمل الكتاب، لكننا لا نعدم فيه إشارات مقاصدية، ومن ذلك حين تحدث عن فضائل الصوم.

قال: للصوم فوائد: رفع الدرجات، وتكفير الخطيئات، وكسر الشهوات، وتكثير الصدقات، وتوفير الطاعات، وشكر عالم الخفيات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات..ثم يفصل في هذه الفوائد مستشهدًا لحديثه من القرآن والسنة[5]،ولا يبعد أن يكون لهذه الفوائد سبب بالمقاصد.

ومن المواضع المقاصدية اللافتة في هذا الكتاب ما أورده العز في الفصل التاسع عن صوم التطوع؛ حيث أورد حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فيه بألا يتابع الصوم، وأن أفضل الصوم هو صيام داود – عليه السلام – حيث كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى.

قال العز: وإنما فضَّل النبي صلى الله عليه وسلم صومَ الغِبِّ – يعني صيام يوم وإفطار يوم – في هذا الحديث لسببين:

الأول: أن ابن عمرو كان لا يحتمل أكثر من ذلك؛ بدليل أنه – عليه السلام – قال له: ((فإنك إذا فعلت نفهت – يعني تعِبَت وكلَّتْ – نفسُك، وغارت عيناك”…

والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه صوم داود، وذكر أنه لم يؤثِّر في قوى داود بقوله: ((وكان لا يفر إذا لاقى))، فعلى هذا يكون حديث ابن عمرو مخصوصًا بأفضل الصوم، وحق كل من ينهك الصوم قواه، فإن الغالب على الصحابة أنهم إنما كانوا يسألون عن أفضل الأعمال ليتعاطوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهم منهم ذلك، فيجيب كل واحد منهم على حسب ما فهم منه، ويحمل العز اختلاف إجابة النبي صلى الله عليه وسلم على السؤال نفسه باختلاف حال السائل، ثم يقول: “فعلى هذا صوم الدهر في حق من أفطر في الأيام المحرمة – إذا كان مطيقًا له، لا يؤثر في جسده، ولا يقعده عن شيء من الطاعات التي كان يفعلها الأقوياء – أفضل من الغِبِّ؛ لأن الجزاء على قدر الأعمال على ما تمهد في الشريعة أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها”[6].

فالشيخ الإمام هنا ربط أفضل الصوم بمدى الإطاقة، فإن كان لا يطيق أكثر من ثلاثة أيام كل شهر كان في حقه أفضل الصوم، وإن كان لا يطيق أكثر من الاثنين والخميس كان في حقه أفضل الصوم، وإن قدر على صيام الدهر ما عدا الأيام المحرمة فهو في حقه أفضل الصوم، وهكذا، وهذا نظر تعليلي مقاصدي معتبر.

ولا نبعُدُ عن الصواب – وفق هذا المنطق التعليلي المقاصدي – إن قلنا: وإن كان ممن يصوم بصعوبة ويمثِّل له صيام التطوع مشقة كبيرة تؤثر في جسده وقواه، فتُقعده عن أداء الأعمال والواجبات – فهذا لا يستحب صوم التطوع في حقه، بل قد يحرم[7] إذا عطَّله عن القيام بواجبات وفرائض.

الفرع الثالث: مناسك الحج:

وللعز بن عبدالسلام رسالة عن مناسك الحج لا تبدو فيها النظرة المقاصدية كما كانت في الصلاة أو حتى الصيام، ولكن هناك موضعان في هذه الرسالة[8] رأيت فيهما هذا النظر.

الأول: وهو يتحدث عن السفر باعتباره مقدمات الحج تكلم عن الوضوء والتيمم وقصر الصلاة، قال عن التيمم:

وللمسافر أن يتيمم عند فَقْدِ الماء، فإن كان معه ما يكفيه لوضوئه وشربه، ورفقاؤه محتاجون إليه للشرب في الحال، فليدعِ الوضوء وليعدل إلى التيمم، فإن غلب على ظنه أن في جملة رفقائه وأهل القافلة من يتضرر بفقد الماء ضررًا ظاهرًا يقطع به أو يؤدي إلى هلاكه، حرم عليه أن يتوضأ به، ويجب بذله لهم، ثم له أن يأخذ عوضه منهم[9].

فأدار الحكم هنا على رفع الضرر وحفظ النفس من الهلاك، وهما مقصدان معتبران، وقد رتب على ذلك الحكم بالحرمة رعايةً للمقصد.

والثاني: قال عن يوم عرفة: ويكره له صوم هذا اليوم؛ ليتوفر على الدعاء وذكر الله تعالى[10]، وهذا يذكرنا برأيه في حديث عبدالله بن عمرو وأن أفضل الصيام يدور مع الإطاقة والقدرة على القيام بالواجبات.

ويتبين لنا مما سبق أن للعز بن عبدالسلام نظرًا عميقًا في العبادات ربما يختلف قليلًا عن تناول غيره ممن سبق إيرادهم؛ حيث إن كثيرًا مما قاله في العبادات يقترب من المقاصد أكثر من الأسرار والمعاني، وهذا لا ينفي أن حديثه عن المعاني والأسرار هو الأصل في العبادات.

————————————-

 [1] مقاصد الصلاة: 75، دراسة وتحقيق عبدالفتاح حسين محمد همام، مكتبة أولاد الشيخ للتراث،مصر،الطبعة الأولى،2004م، وللمحدث الحافظ قطب الدين القسطلاني (ت: 686هـ) كتاب بعنوان: “مراصد الصلاة في مقاصد الصلاة”، فصَّل فيه القول في الأسرار والمعاني أكثر من كلام ابن عبدالسلام هنا، ولم يختلف في أن مقصود الصلاة هو ذكر الله تعالى، والكتاب نُشر بتحقيق محمد صديق المنشاوي السوهاجي، دار الفضيلة بالقاهرة.

 [2] مقاصد الصلاة: 79 – 80.

[3] مقاصد الصلاة: 86 – 87.

[4] مقاصد الصلاة: 92 – 93.

[5] مقاصد الصوم: 10 – 17،تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الفكر، دمشق،ودار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الأولى، 1413هـ/ 1992م.

[6] مقاصد الصوم: 36 – 39.

[7] راجع مثلًا: فقه الصيام: 138 – 139، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1426هـ  / 2006م.

[8] ضمها عبدالرحمن أحمد قمحية إلى رسالة الصلاة والصيام، وجعلها كتابًا واحدًا بعنوان: مقاصد العبادات.

[9] مقاصد العبادات: 72، مطبعة اليمامة، سوريا، الطبعة الأولى، 1995م.

[10] مقاصد العبادات: 80.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى