العرض والمعارضة العلمية
بقلم د. فتحي حسن ملكاوي / تقديم محمد عوام
دأب فضيلة أستاذنا الفاضل العلامة فتحي ملكاوي حفظه الله على أن يرسل إلى بعض العلماء والباحثين ما يكتب، وأنا واحد منهم، وهذا أكبر دليل على تواضعه، وشيم أخلاقه، وحرصه الشديد على أن يستفيد من كل عالم وباحث، كبر شانه أو صغر، وما أحوجنا اليوم بالذات إلى هذه التربية الفكرية والعلمية، ان يعمد علماؤنا وباحثونا إلى عرض ما يكتبون على أهل العلم والتخصص لينهلوا من علمهم، ويستدركوا ما قد يقعون فيه من هنات، او يصوبون بعض ما قد يعوج من فكرهم، أو أن يزيدهم العرض أيضا ثقة بما يكتبون.
وكنت أسأل نفسي دائما حين تأتيني مقالات أستاذنا فتحي حفظه الله، هل مثلي يصلح ليعرض عليه من هو في مكانة ومنزلة أستاذنا فتحي الذي خبر العلوم وتمكن فيها، وسما كعبه في تحريرها وتدوينها وتحقيقها وتدقيقها؟ فسرعان ما أدركت أن هذا المسلك لا يسلكه إلا الراسخون في العلم تواضعا، وحرصا منهم أن ينتفعوا بمن يملك المعرفة والعلم، ولو كان من طلابهم.
وأنا أحكي ما سمعته من أحد شيوخنا الكرام، ولعله شيخي وأستاذي أحمد الريسوني، فقد بلغه أن العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله كان يعرض ما يكتبه على زوجته، ومستواها المعرفي لا بأس به، لكن الشيخ كان يفعل ذلك حرصا منه على أن يوصل علمه وفكره واجتهاداته إلى معظم الناس. كما أني لمست هذا الخلق الرفيع في أستاذنا العلامة طه فياض جابر العلواني رحمه الله، فقد جلست معه مرات في منزله بمدينة مراكش ويسألني عن بعض القضايا، وكنت أخجل من الكلام أمامه، لكنه حفظه الله بتواضعه يحرص أن يستفيد من كل احد، ويعرض فكره وعلمه على طلابه ومحبيه من العلماء والباحثين.
والحق أن هذه الفكرة أعني العرض على العلماء والباحثين، التي أثارها أستاذنا فتحي، في حاجة إلى بلورتها إلى مشروع علمي وثقافي، تكون بمثابة الحسبة في العلم، ومن غير شك انها ستدفع بعجلة العلم الراكدة اليوم، إلى الرقي والإبداع والتجديد. بدل إبقاء ما كان على ما كان دون تمحيص وتحقيق.
ونظرا لأهمية هذه الفكرة المنهجية المرتبطة بإبداع المعرفةن وتحرير العلم، وعرضه على العلماء والباحثين، وأهل التخصص، ارتأيت أن انشر مقالة أستاذنا فتحي، واضعا لها عنوانا أرجو ان يكون موفقا، العرض والمعارضة العلمية.
لماذا أُرْسِلُ لكم هذه المقالة؟
بقلم: د. فتحي حسن ملكاوي
عكفتُ في السنوات الثلاث الأخيرة، على “عَرْضِ” بعض ما أكتب على طائفة من أهل العلم والفضل، طمعاً في “الـمُعَارَضَة” التي قد يرسلها إليّ بعض من “أعرض” عليهم المقال وطلباً لما قد يلزم من تصويب وتصحيح وتعليق وإضافة. وكنت متردداً في أوّل الأمر، خوفاً من أنَّني أكون “كمُسْتَبْضِع التَّمْر إلى هَجَر” أو “كبائع الماء إلى حارة السقائين”. لكنَّ ما شجعني على المواصلة هو الردود الجميلة التي أستقبلها باستمرار من عدد ليس قليلاً من هؤلاء الذين تشرفت بوضع أسمائهم في قائمة البريد الصادر.
قلت: هذا “عَرْضٌ”، وهذه “مُعارَضة”. وقد وجدت لهذا السلوك “سُنَّةً” حسنة في التراث الإسلامي. فالتلميذ الذي كان ينسخ كتاباً لأستاذه، كان يَعرضُه عليه، أو يُعارضُه معه، حتى يتأكد الأستاذ من صحة النسخ بلا زيادة ولا نقصان، وحتى يصلح لتلميذه ما قد يكون من خطأ. والمستمع الواعي يكتب ما يسمعه من الأستاذ الـمُمْلِي، ثم يعرضه على أستاذه أو يعارضه معه. وكان مما يصلحه الأستاذ أن تكون المادة المكتوبة واضحة وضوحاً مباشراً لا تثير شكاً في قراءة كلمة أو تفكيراً في معناها، وذلك بوضع النقاط والعلامات التي تعين في ذلك.
والروايات في ذلك كثيرة. نكتفي بمثالين الأول نقله الخطيب البغدادي -بسنده- في الجامع، فقال: “قال هشام بن عروة: «قال لي أبي: أكَتَبْتَ؟ قال: قلت: نعم، قال: عَارَضْتَ؟ قلت: لا، قال: فلَمْ تَكْتُبْ ».[1]
والثاني رواه الرامهرمزي في المحدث الفاضل بين الراوي والواعي وفيه: “أنَّ طلحة بن عبد الملك قال: أتيب القاسم، وسألته عن أشياء، فقلت: أكْتُبُها؟ قال: نعم، فقال لابْنِه: انظر في كتابه، لا يزيد عليَّ شيئاً، قلت: يا أبا محمد، إنِّـي لو أردت أن أكذب عليك لَـمْ آتِكَ! قال: إنِّـي لَـمْ أُرِدْ، إنَّـما أردتُ –إن أسقطت شيئاً- يُعَدِّلُه لك.” [2]
وفيه كذلك ما رواه الرامهرمزي من أبيات محمد بن عبد الملك الزيات محمد بن عبد الملك الزيات (ت 233ه) يصف دفتراً:
وأرَى وُشُوماً في كتابك لم تَدَعْ شكّاً لِـمُرتابٍ ولا لمفكِّرِ
نُقّطٌ وأشكال تلوح كأنَّها نَدَبُ الخُدوش تلوح بين الأسطرِ
تُنبيك عن رفع الكلام وخفضه والنَّصْبِ فيه بحالِهِ والمصْدَرِ
وتُريك ما تُعنى به، فبَعِيدُهُ كقريبه، ومُقَدَّمٌ كمؤَخَّرِ [3]
وقد رأيت أنَّ في هذه “المعارضة” معنى جميلاً للمعارضة، يعدِّل ما يتوارد من المعاني السلبية لها، ولا سيّما في دلالاتها السياسية والعلمية، فيجعلها هذا المعنى الجميلُ صفةً حميدة لطَرَفَـيِّ المعارضة، فالمعارضة “مفاعلة” بين طرفين، لا فضل لأحدهما على الآخر، إلا بما يقدمه من صحيح موقف وسداد رأي، ويكون منهما “الفعل” الحسن الذي ينشده الجميع.
ثـمَّ إنَّني وجدت في الكثير مما يأتيني ممّن تصلهم مقالاتي، فائدةً جمَّة، ذات أوجه متنوعة؛ فمنه: تصويبٌ لغوي، وتنبيهٌ على عبارة قلقة، وشكلٌ لبعض الألفاظ حتى تقرأ دون شك في مكانها من الكلام، وتعديل في عنوان، وضرب لأمثلة، واعتراض على فكرة، (نعم! اعتراض مع مخالفة)، وتعقيب مطول أجده بعد ذلك مقالاً كاملاً لصاحبه. وأخيراً أجد ممن يكتبون لي ما أقدِّرُه وأطلب منه المزيد، دعاءً صالحاً لي، أرجو الله أن يُـجيبَه.
وقد رأيت من مقالاتي ما كان معروضاً بكامله أو ببعضه في صحيفة يومية، أو مجلة ثقافية، أو منشوراً على موقع إلكتروني، لأشخاص أو مؤسسات، أو عبارة منسوبة إليّ في وسائل التواصل الاجتماعي. وبقدر ما أعدّ ما أكتبه شيئاً متواضعاً في قيمته؛ إذ لم أعرف نفسي كاتباً ولا عالماً ولا مفكراً… فإني أصبحت أقدِّر أهمية الكتابة الجادّة، في وقت تمتلئ فيه شاشات الأجهزة المحمولة من غُثَاء وزَبَد!
فأردتُ أن لا أدعوَ غَيري لأمْرٍ لا أبدأ به بنفسي
والحمد لله على كلّ حال.
[1] الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (ت463ه). الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق محمود الطحان، الرياض: مكتبة المعارف، 1983، ص 275.
[2] الرامهرمزي، القاضي الحسن بن عبد الرحمن (ت360ه). المحدث الفاضل بين الراوي والواعي، تحقيق محمد عجاج الخطيب، دمشق: درا الفكر، ط3، 1984م، ص 539.
[3] المرجع السابق، ص 539-540.
(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث)