بقلم يوسف بكاكرية
صحت الشعوب العربية بعد استقلالها على مفاهيم جديدة، مفاهيم اجتاحت جل مناحي الحياة: السياسة، والاقتصادية، وحتى الاجتماعية، لتدرك المجتمعات أن الروابط التي تكونها أكبر من روابط عرقية أو روابط جينية أو حتى روحانية.
مفاهيم تيقن العربي من خلالها أن الأقوام الأخرى قد تجاوزته بعقود، العربي الذي كان يرى أن حياته تتزحلق بين ثنائيتين لا ثالث لهما: الروحاني والمادي؛ لأن حياته اقتصرت في السعي، إما ليصبح غنيًا، أو ليصبح تقيًا، وهما ما شكلا التجاذبات السياسية التي شهدتها الأقطار العربية على مر التاريخ، فإذا اعتبرنا أن الفكر الغربي، الذي تجاوز هذه الثنائية، قد اكتشفته الذهنية العربية في العصر العباسي، إلا أن التتمة لم تكتب له، بعد تراجع اللغة الذي أدى لتراجع الجهود الفكرية في العصور التي تلت العصر العباسي.
العربي الذي دخل في دهاليز الحروب والمستعمرات منذ الزمن الغابر، صحا مع بداية القرن التاسع عشر، واكتشف نمط حياة آخر كان للمسيحية الدور الهام في معرفته، فبعد أن كان العلم عنده يقتصر على ثلاثة أثافي، القرآن والسنة والفقه، أدرك وقتها أن العلم علوم، وأن ما نبذته الذهنية العربية حين بدت بوادره مع أناس كانوا سابقين لعصرهم، هو الأساس في تكوين المجتمعات الحديثة، وأن الغرب قد خطى عدة خطوات كان الأجدر أن يكون العرب تجاوزوها منذ قرون، لينتقلوا إلا مخطط آخر حتى يتمكنوا من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالوعي العربي في القرن التاسع عشر كان لا يزال حبيس القوالب البدوية القديمة، لهذا بدأ العرب ينقلون ما تصل إليه أيديهم وما تستوعبه عقولهم وما يتقنون لغته، فمارسوا فنون عدة وتأثروا بفلسفات مختلفة، منهم من تأثر بنمط التفكير فقط، الذي ساد أوروبا بعد عصر التنوير مثلًا، حين أدركوا أن كسر قيود الكنيسة لن يكون إلا بالعودة إلى الأصل ووضع الأرضية المناسبة للبناء من جديد، فعاد بعض العرب مع بداية القرن التاسع عشر إلى التراث العربي من ما قبل الإسلام حتى العصر العباسي، كما عادة أوروبا لإرثها الإغريقي والروماني اللاتيني، في حين آثر البعض الآخر مواكبة أوروبا الحاضر (أوروبا القرن التاسع عشر)، وليس أوروبا القرن السابع عشر، فنقلوا علوم ذلك العصر وحاولوا تبيئته بما لا يتناقض والعقلية العربية، ليحتدم الصراح بين الفرقين، وتبادلا التهم، فوصف الإحيائيون بأنهم أصوليون متخلفون وأصحاب فكر جامد، لايتطور ولا يستحدث، ووصف المجددون بأنهم مستلبون حضاريًا، وبأصحاب الهوية المتشظية، والمولعين بتقليد الغالب، على حد تعبير ابن خلدون.
سيقول أحدهم ما دور هذا فيما يحدث الآن، دوره أن المشكلة لا زالت تطاردنا إلا يومنا، بل ازدادت حتى أنها تطورت إلى حروب أهلية وتصفيات جسدية مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين، أين أصبحت الأقطار العربية على مرمى حجر من تصفية الوجود الاستعماري، ولأن هذه الأفكار بدأت تظهر في النظم السياسية والاقتصادية ، أراد كل فريق أن تكون مرجعيته الفكرية هي الأساس في الحكم في البلدان العربية، وخاصة بعدما عرف كثير من البلدان العربية انفتاحًا سياسيًا وتعددًا حزبيًا وفكريًا، أصبحت أثره الخارطة السياسية تشبه إلى حدما الخارطة الأوروبية، إلا أنه يفرق في طرف سياسي وحيد هم أصحاب التوجه الديني، الذين بدأ دورهم يتراجع في أوروبا، في حين أن الإسلاميين الذين ظهروا مع نضج أفكار حسن البنا، وأرسوا أسسهم مع كتابات سيد قطب، أصبحوا قوة فكرية وسياسية حزبية ليس في مصر فقط، بل في مختلف الأقطار العربية، هذا الأمر لم يعجب كثيرًا أصحاب الفكر الغربي، العلمانيين أو الجمهوريين أو الاشتراكيين بجميع أطيافهم، خصوصًا أن الأنظمة العربية بعد الاستقلال كانت تخضع لنوع ما من الوصاية السوفياتية، فتبنى الخيار الاشتراكي، كان نوعًا من رد الجميل على المساعدة السوفياتية لحركات التحرر، أكثر منه تأثرًا بكتابات ماركس وتروتسكي وغيرهم، لهذا فالاختيار كان تأثرًا بالقشور أو الواجهة السوفياتية أكثر منه تأثرًا بما جاء في كتاب رأس المال وغيرها من الكتب، لأن القارئ لمثل هذه الكتب سيدرك حتمًا الفرق الشاسع بين التنظير والتطبيق على أرض الواقع.
ومنذ ذلك الحين والنخب العربية، قسمان لا ثالث لهما: الأولى متشبعة بالثقافة الغربية، ومتهمة إما بالعمالة، أو الاستلاب وحتى الإلحاد، والثانية متشبعة بالإرث الإسلامي، ومتهمة بالأصولية والرجعية وحتى الإرهاب، وبين طرفي النقيض لازلت الأمة تتخبط في مآسيها ما يتخبط الديك المذبوح بين دمائه.
(المصدر: ساسة بوست)