العدمية في فكر ما بعد الحداثة “نماذج من أشكالها القبيحة، وخطرها على المرأة المسلمة”
بقلم عبد اللطيف المحيمد
تقوم العدمية في فكر ما بعد الحداثة على إزالة الحدود والحواجز بين كل شيئين متمايزين؛ بين “الخير والشر”، وبين “الله والشيطان”، وبين “المقدس والتافه”، وينظر المجتمع إلى أن هذه الأشياء كلها أشياء طبيعية يمر بها خلال دورته اليومية، والشهرية، والسنوية، دون أن يكون من الواجب تحديد موقف من هذه الأشياء بسلب أو إيجاب، وبالتالي يتعايش النقيضان في المجتمع، وكلاهما يحمل من الشرعية ما يجعله مألوفاً في المجتمع بين أفراده، فبعد أن كانت الإنسانية ـ في قرون طويلة مضت ـ تقوم على عداء الثنائية “الخير والشر”، أو “الحسن والقبح”، أو “الله والشيطان”، بحيث كانت بقايا الفطرة الإيمانية التي خلق الإله الإنسان عليها تجعله يأنف من مساواة الحسن بالقبيح، أو تجميل الشر في عيون الأفراد.
فالعدمية تعني القضاء على الجمالية التي تمايز الأشياء بعضها عن بعض؛ بحيث تستوي نظرة الناس إلى الأشياء وإن اختلفت أوصافها، وهذا ما نجده في المجتمعات التي انتقلت من مرحلة الحداثة “انتقاد الماضي والتراث والأصالة” إلى مرحلة ما بعد الحداثة “التخلص من التراث وبناء مستقبل مستقل عن الماضي بجميع أشكاله”، ولا تحمل “ما بعد الحادثة” من بذور “الحداثة” شيئاً، بل إنها تسعى وبشتى الطرق للتخلص من جميع الإرث الإنساني الذي يقوم على إعطاء الأشياء قيمة بحسب جماليتها وحسنها، وبالتالي إعطاء القبيح نظرته الدونية والرديئة.
وأقصد بهذه المجتمعات، المجتمعات الأوروبية، وما شابهها؛ فإنهم بتشريعاتهم، وقوانينهم اليوم يسعون لقبول كل شيء في المجتمع، والاعتراف به على أنه حالة سليمة وصحية؛ كالمثلية والنسوية، ويفرضون على بلدان العالم الثالث “النامية” احترام هذه القوانين، والتشريعات، وتطبيقها على أنها جزء من الحضارة، وربط الحضارة بالاعتراف بهذه الأشياء؛ بحيث يتم ـ كجزء من الإنتاج الحضاري الذي يتم تصديره وتعليبه ـ شرعنة الشذوذ، وتجميله، وتصويره كحالة صحية في المجتمعات، ومع الأيام ولطول الألفة، وكثرة الاختلاط ينظر إلى الشاذ على أنه سوي، ويتحول المجتمع بكل أفراده إلى أسوياء، فلا ممايزة بصفة، وفضيلة وخلق، وتستوي العفة بالزنى، والعالم بالراقص، والفيلسوف والأديب بالمهرج.
النسوية:
وكما تتم إزالة التمايز بالأخلاق والصفات، فكذلك تتم إزالة التمايز بين الرجل والمرأة؛ فلا فرق بينهما أبداً لا من حيث الخلقة والطبيعة ولا غيرهما، فنستطيع تقييم النسوية على أنها حالة اجتماعية تقوم على الندية الكاملة مع الرجل، وتتخذ منه وتجاهه نظرة سلبية على أنه هو السبب الأول فيما تتعرض له المرأة من دونية واضطهاد، وبالتالي يتركز الهدف القريب للنسويات على فصلهن عن الرجل، ولكن الهدف البعيد يقوم على استغناء المرأة عن الرجل بشكل كامل، كما قالت جيل جونستون -وهي إحدى منظرات النسوية في العالم-: (لسنا مضطرين لأن تكون لنا أية علاقة بالرجال على الإطلاق)، فالنسوية نوع من الثورة والمعركة لمواجهة الرجل وذكوريته، وكأنها نوع من العنف في المطالبة في الحقوق التي لم تفلح المنظمات السلمية الاجتماعية في تحقيقها، فتمردن بالقوة والعنف لتحقيق ما يردن تحقيقه!
فالنسوية تسعى بشكل من الأشكال إلى الاستقلال عن الرجل بشكل كامل، وإقامة مجتمع نسوي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى؛ وهذا يعني أن النسوية تسعى إلى إزالة أي علاقات اجتماعية تربط الرجل بالمرأة، كعلاقة الزوجية بين الزوج وزوجته، وعلاقة الأبوة بين الأب وابنته، أو علاقة الأخوة بينها وبين أخيها، فالأصل في هذه العلاقات هو الصراع لسيطرة المرأة، فلا اعتبار للأسرة في أدبيات المرأة إلا بمقدار ما يخدم المرأة في سيطرتها على العالم، وعلى الرجل، وإلا فإن أدت الأسرة إلى تقييد المرأة لحصولها على حقوقها فالتخلي عنها يكون واجباً، باعتبارها قيداً بما يحمله من صور للارتباط مع الرجل من حمل، وأمومة، وولادة، وغيرها.
تقول شولاميت فايرستون في كتابها النسوية وما بعد النسوية: (إن القضاء على الأدوار المرتبطة بين الجنسين لن يتحقق إلا بالقضاء على الأدوار الثابتة التي يقوم بها الرجل والمرأة في عملية الإنجاب؛ ومن هنا فإن منع الحمل، والتعقيم، والإجهاض، وثم التلقيح الاصطناعي، كلها وسائل تساعد على تقليل التمييز البيولوجي، ومن ثم الحد من التمييز بين الجنسين في مجال السلطة).
وتتم المطالبة من قبل الجمعيات النسوية بسن قوانين تيسر للنساء الإجهاض وبالمجان, وتعقد الندوات والمحاضرات, التي تدعوهن إلى عدم التفكير في مشروع الزواج؛ ويدخلون من باب منع تزويج القاصرات، وأنهن فتيات لا زوجات، ولأن الزواج يقف في طريق طموحهن، وأحلامهن في العيش بحرية على طريقة نساء الغرب المتحررات, وتقدم لهن البعثات الدراسية إلى دول الغرب قبل الرجال, وتصاغ المناهج الدراسية، والندوات، والبرامج الإعلامية لتخرج فتيات مهيئات، ومقتنعات بالفكر الحر، والاختلاط, ومساواة المرأة مع الرجل في كل شيء, واحترام إباحية الحضارة الغربية, والتمرد على العائلة والمجتمع, وترك الحجاب واللباس الساتر, وكشف العورة في الحياة العامة, وتحدي الأحكام الشرعية المتعلقة بالطلاق والميراث, وتعدد الزوجات, ولباس المرأة, والعمل في مهن تحط بهن غريبة على المجتمع العربي والإسلامي؛ كعرض الأزياء، والدعايات الإعلامية، والباليه، وبدعم مباشر ومنظم من المنظمات الدولية, وبإقرار من قبل بعض السلطات على أساس أنه جزء من الحضارة، والديمقراطية، وحرية المرأة وتقدمها!
فالنسوية تسعى للقضاء على أي شكل من أشكال تسلط الرجل على المرأة، بما فيها قدرته على التلقيح من خلال الجماع وممارسة الجنس، فالمرأة عليها أن تلجأ إلى التلقيح الصناعي كبديل عن تلقيح الرجل، فهي تدعو إلى حريتها الجنسية وانفصالها عن الرجل، ولذلك فالدعوة إلى المثلية الجنسية من أهم مرتكزات الدعوة النسوية.
المثلية الجنسية “مجتمع الميم”:
مجتمع الميم: هو الاسم التجميلي للمثليين الشواذ، وهو ما يعبر عن الانجذاب الجنسي للرجال نحو الرجال “اللواطة”، وللنساء نحو النساء “السحاق”، فالذي ينجذب للجنس الآخر يسمى سوياً، أو طبيعياً، بينما يسمى من ينجذب لجنسه مثلياً أو شاذاً.
ونحن لا نناقش حالة المرض النفسي بشعور الميل إلى الجنس المماثل، وهو حالة طبية قديمة، ولها أحكامها وعلاجها، وغالباً ما تكون غير اختيارية، ولكننا نتكلم عن حالة مجتمعية منظمة، ولها أدبياتها، وينادي بها أشخاص طبيعيون، لا مرض فيهم، ويخرجون بمسيرات، ومظاهرات مطالبة بالاعتراف بهم كحالة طبيعية مساوية لغيرهم، وعدم النظر إليهم كحالة شاذة في المجتمع.
وقد كان ـ ولا زال ـ لبعض البرامج التلفزيونية التي تظهر على قناتي “فرانس 24″ و”BBC العربية” دور كبير في تلميع، وتجميل المثلية الجنسية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يتم استضافة نساء أو ذكور مثليين، لشرح مأساتهم للمجتمع، وتصويرهم على أنهم مضطهدون في هذه المجتمعات المتخلفة وغير الحضارية!
ويمر المتصفح في الشبكة لنشاط المثليين بمئات المقالات التي تصورهم بموقف “المظلوم”، وأن نضالهم “نضال عصافير في قفص الأفاعي” في محاولة للإيحاء للنفس البشرية بأنهم جزء من التوازن الطبيعي للمجتمعات، وليسوا حالة غريبة ونبتة ضارة.
ومن الجمعيات التي تدافع وتنادي بحقوق المثليين في العالم العربي جمعية “حلم” اللبنانية التي تصرح في تأييدها للمثليين وحقوقهم، وتتستر وراء حقوق العمال الأجانب، وحقوق المرأة، وطالبت هذه الجمعية كثيراً في سبيل إلغاء المادة “534” من القانون اللبناني التي تعاقب العلاقات المثلية، وظهرت في الجزائر جمعية “تن تن” وطالبت بالاعتراف المجتمعي بحالة المثليين، وكذلك ظهرت في المغرب جمعية “كيفيكف” محاولة تخفيف حدة النبذ المجتمعي للمثليين الشواذ.
ولعل أفضل ما يمكن فعله أمام هذا النشاط الشاذ لهذه الجمعيات توعية المجتمع، وتسمية الأشياء بمسمياتها من خلال الإعلام؛ فتسميتهم بالشواذ يقبح نظرة أفراد المجتمع لهم، وبعث حالة من التوعية الدينية بين الشعوب لنبذهم، والتعامل معهم بازدراء ليتم التخلص منهم مع الزمن، ولابد من الدفاع عن القوانين والتشريعات التي تعاقبهم، وتجرمهم، وتلاحق جمعياتهم ومنظماتهم، ولابد من الرقابة القوية على القنوات الفضائية التي تروج لهذه السموم في مجتمعاتنا، وخاصة القنوات الغربية التي تنطق بالعربية.
الدمى الجنسية:
لا يمكن النظر إلى الدمى الجنسية إلا على أنها مظهر من مظاهر العدمية لـ “ما بعد الحداثة” حيث كانت الغاية منها استغناء الرجال عن النساء في أهم وظائفهن في المحافظة على استمرار النوع البشري، وهي خطوة عكسية لاستغناء النساء عن الرجال، وهذه الدمى ـ كما أعتقد ـ تشكل نقلة نوعية نحو الزوال الإنساني، وفي بعض الدراسات التي حصلت في بعض بلدان آسيا تشير الإحصائيات إلى ارتفاع نسب الطلاق بعد توجه الكثير من الشباب إلى الدمى الجنسية، وترك الزواج المكلف، وتوفير تلك المبالغ للحياة الشخصية.
وقد ظهر في الصين لوحدها أكثر من 1000 مصنع لهذه الدمى التي يتم تصديرها إلى جميع أنحاء العالم، بما فيها المجتمعات العربية والإسلامية، وربما خطرها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية أشد من خطرها على غيرها من المجتمعات، لخصوصية مجتمعاتنا من حيث واقعها الاجتماعي والاقتصادي، وصعوبة الزواج، وكثرة الفتن، وانتشار المغريات، فستشكل هذه الدمى حالة كارثية على الشباب العربي، في ظل الثورات والحروب التي زادت الطين بلة ومأساة، ولاشك أن هذه الدمى ستزرع في نفوس الشباب حب العزلة، والانطواء، والابتعاد عن المجتمع، والعزوف عن الزواج، وبالتالي ضعف النسل، والنوع الإنساني.
ففي مجتمع كالمجتمع الياباني انخفضت نسبة الولادات فيه بشكل كبير جداً، وكانت الدمى الجنسية من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك، فقد انتشرت بشكل كبير بين الشباب الياباني، ونوه بعض الباحثين إلى أن عدد سكان اليابان سينخفض بنسبة الثلث خلال 30 عاماً فقط.
فيجب على الحكومات العربية والإسلامية سن قوانين تجرم بيع وشراء هذه الدمى، بل ومحاربة محاولات ترويجها سواء عبر الانترنت، والإعلانات، أو غيرها من الطرق والوسائل المرئية، والمسموعة، والمقروءة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو غيرها من الوسائل.
الحلول والعلاج:
كما أن المرأة نقطة ضعف المجتمعات العربية والإسلامية، وخاصة بعد تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن النساء أشد الفتن على الرجال، كذلك فإنها تبقى الحصن المنيع الذي سيحمي الأمة من جميع مخاطره المحيطة به؛ ولكن نحتاج للوعي الكافي والكبير لها حتى تأخذ مكانها، وقد حث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بأحاديث كثيرة؛ منها قوله كما في صحيح مسلم: “من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين“، ولاشك أن الإعالة تكون بالتربية، والتعليم، ونشر الوعي الكافي بين النساء والفتيات، بحيث يستطعن من خلاله التمييز بين الخطأ والصواب، والضار والنافع.
فكما أننا نؤتى من قبل النساء المسلمات من خلال تغريبهن، وزرع القيم الأوروبية التي تدعو إلى التفلت، والعري، والثورة على الرجال، فكذلك نستطيع أن نحمي مجتمعاتنا من قبل النساء أنفسهن من خلال تربيتهن على حمل المسؤولية لحماية المجتمع الإسلامي من الشرور.
ولابد أيضاً من زرع قيم اتخاذ القدوة المناسبة بينهن؛ من خلال تحبيبهن بالصحابيات كالسيدة عائشة، وفاطمة، وغيرهن -رضي الله عنهن-، فغياب القدوة يجعل اختراق نسائنا وارداً في ظل كثرة الفتن، والمطربين، والممثلين، والمتفلتين هنا وهناك.
ولا شيء كتربية النشء على التقوى وحب الله ورسوله، واستحضار مراقبة الله تعالى للفتاة في كل وقت وحين، وذلك من خلال تربيتهن على العقيدة الصحيحة والسليمة، وربطهن بدروس العلماء، والنشاطات المفيدة، والقنوات الهادفة، التي تملأ أوقاتهن بما يرضي الله تعالى، فلا شيء أقتل لنفس الإنسان من الفراغ، فالفراغ هو الذي يجعل المرأة تلتفت لمثل هذه الترهات، وهذه النشاطات المشبوهة التي تتستر وراء أغطية الحضارة والعولمة.
حفظ الله نسائنا من كل سوء وشر..
والحمد لله رب العالمين.
(المصدر: موقع “أثارة”)