العدل والإحسان ووضوح الرؤية
بقلم عزام التميمي
ذكرني اللقاء الذي أجراه الزميل طه العيسوي لموقع “عربي21” مع الأمين العام لجماعة العدل والإحسان المغربية، الدكتور محمد عبادي، باللقاء الذي جمعني في عام 2008، أي قبل ما يقرب من اثني عشر عاماً، في الرباط مع مؤسس ومرشد العدل والإحسان الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله.
حينها سجلت مع الشيخ سلسلة من أربع حلقات لبرنامج مراجعات الذي تبثه أسبوعياً قناة الحوار، والذي استضفت من خلاله منذ تأسيس القناة في عام 2006 وحتى الآن ما يقرب من مائة من شخصيات العالم العربي من أصحاب المشاريع الفكرية أو السياسية.
يتحدث الدكتور العبادي في لقائه، كما كان حدثني من قبل شيخه عبد السلام ياسين، منطلقاً من رؤية واضحة لدى جماعة العدل والإحسان تجاه القضايا المبدئية، بما في ذلك قضية فلسطين، وهي رؤية لا تنسجم مع توجهات كثير من الأنظمة العربية، التي تظن أنها تمكنت من تدجين كل معارضة لديها ونجحت في كتم أنفاسها ترغيباً أو ترهيباً، سواء كانت معارضة فردية أو جماعية، نقابية أو حزبية، فراحت تتحدى إجماع الأمة وتطعنها في القلب منها، كاشفة عن علاقات لها كانت قائمة مع الكيان الصهيوني منذ عقود ومسارعة إلى إضفاء وضع قانوني على علاقة محرمة دينياً ووطنياً، ومهرولة نحو ما بات يعرف اصطلاحاً بالتطبيع.
أكثر ما آلم العرب والمسلمين عامة، والفلسطينيين خاصة، أن الإعلان عن إبرام صفقة تطبيع النظام المغربي مع الكيان الصهيوني جاء بغطاء من حكومة يرأسها ويشارك فيها أشخاص يحسبون على حركة إسلامية، طالما عرفهم الناس هم الآخرون بتمسكهم بالمواقف المبدئية تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الأمة بشكل عام، حتى جاء اليوم الذي شهدنا فيه ما لم يكن يخطر لنا ببال أو يرد لنا في حسبان: أن يجلس العثماني الإسلامي الفقيه العارف، بوصفه رئيساً لوزراء المغرب، على طاولة واحدة مع الصهاينة ويوقع على اتفاق الذل والعار الذي يقر لهم بشرعية الاحتلال ويتغاضى عن كل جرائمهم ضد الفلسطينيين والعرب بل وضد الإنسانية.
وكأنما أراد ملك المغرب أن يوزع إثم الجرم التي ارتكبه فيشرك معه فيه غيره. كانت تلك طامة كبرى، أن يقبل إخوان لنا يعزون علينا بأن يتحولوا إلى مطايا تحمل على ظهورهم مفسدة كبيرة، لم يجد مدبرها أفضل منهم لهذه المهمة القذرة، وهم المحسوبون على التيار الإسلامي العروبي العريض، الذي طالما اشتهر من المحيط إلى الخليج بمواقف ثابتة تجاه قضية فلسطين لا تتزحزح مهما تأزمت الأوضاع واشتدت الأهوال، ومهما نال زعماءه أو أنصاره من تنكيل.
ولكن هؤلاء العرب والمسلمين بعمومهم، والفلسطينيين منهم خاصة، سرهم وأثلج صدورهم أن يعلموا أن شعب المغرب بمجمله كما شعوب الأقطار العربية الأخرى، لا يقبل بهذه المهزلة، ولا يرضيه أن تقايض حبة تراب واحدة من فلسطين بأي شيء في أي مكان آخر، ناهيك عن أن يكون كل موضوع المقايضة مجرد تمثيلية سمجة يقصد منها تبرير ما لا يمكن تبريره وإضفاء مشروعية على انتهاك الحرمات. ولقد وجدنا، ولله الفضل والمنة، أن جماعة العدل والإحسان، بقيادة أمينها العام، تعبر بصدق عن الموقف الشعبي الوطني المغربي، رغم أنها ما لبثت تتعرض من حين لآخر للتضييق من قبل مختلف أجهزة النظام في المغرب، وما ذلك إلا لأنها تتمسك، قيادة وأعضاء وأنصار، بما تعتبره مبادئ لا يجوز بحال التفريط فيها.
في اللقاء الذي سجلته مع الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله قبل وفاته بأربعة أعوام تقريباً، حدثني بكلمات قليلة العدد بسيطة التركيب بليغة المعنى، عن نشأته وتجاربه وعن تاريخ جماعته وعن فكرها وآليات عملها.
وقص علي ما حدث معه بعد أن وجه رسالة إلى عاهل المغرب السابق الملك الحسن الثاني بعنوان “الإسلام أو الطوفان” في منتصف ثمانينيات القرن الماضي تقريباً، ينصحه فيها بما ينبغي أن يُنصح به من يلي أمر المسلمين، فعوقب على ذلك بأن احتجز لعام ونصف في مصحة للأمراض الصدرية، حيث يعالج المصابون بالسل وغيره من الأمراض المعدية الفتاكة، ربما رجاء منهم، كما أخبرني حينها، أن يصاب بواحدة من تلك العلل الفتاكة فيتخلصون منه ويرتاحون من وعظه لهم وأمره إياهم بالمعروف ونهيه لهم عن المنكر.
حماه الله منهم، فأرسل إليه الملك مفوض الشرطة يخبره بأن الملك يطلبه ليتحدث معه، فقال له إذا أراد الملك أن يحدثني فليرسل إلي برجل عاقل. فما كان منهم إلا أن أمروا بنقله إلى مصحة عقلية قضى فيها عامين اثنين عقاباً له على ما قاله لمفوض الشرطة.
سألت الشيخ عبد السلام ياسين: “ولكن إذا كان الملك يريد أن يتكلم معك، لماذا لم تذهب إليه وتكلمه؟”
فأجابني: “لأنني أعلم أن الحديث مع الملك يقتضي منك أن تقبل اليد والرجل والكتف، وأن تسجد وأن تركع. وأنا غير مستعد لهذا.”
أشار الشيخ يومها إلى أن مشاهد الركوع والسجود أمام الملك من قبل الداخلين عليه تعرض عادة في التلفزيون المغربي، ولم أكن قد شاهدتها من قبل، فلما تابعت وشاهدتها بنفسي هالني ما رأيت.
قد يقول قائل، إنها مجرد طقوس، وحركات يعبر من خلالها المرء عن احترامه للملك لا أكثر.
لم يكن هذا فهم الشيخ ياسين لها، وهو الذي أدرك أن لهذه الطقوس ما بعدها، من طاعة عمياء وتسليم مطلق، يتوقعان من كل من أراد أن يكون من أهل البلاط وحاشية القصر.
ذلك هو وضوح الرؤية الذي كان لدى المؤسس ولدى أعضاء الجماعة التي أسسها، فمن يرضى بأن يسجد ويركع لمخلوق، مهما كانت المسوغات والحجج والمبررات، فإنه يمكن أن يسوغ كل ما دون الركوع لغير الله من آثام.
(المصدر: عربي21)