بقلم د. عامر الهوشان
لا شك أن العدل قيمة إنسانية كبرى، وحاجة بشرية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها, وضرورة لا بد منها لضمان استقرار المجتمعات والحياة الإنسانية على وجه الأرض بشكل عام. فبالعدل تستقيم الحياة، وتحيا الأمم، وتستقر ولا تضطرب؛ وبدون العدل تنهار الأمم، وتسقط الحضارات، ويضطرب أمن الناس وأمانهم. وإذا كان العدل بهذه الأهمية والمنزلة والمكانة فإن الإسلام قد أولاه اهتماما غير عادي؛ وبوأه منزلة رفيعة سامية. فجعل العدل في قمة مبادئه وقيمه وثوابته الأساسية. ويكفي أن نذكر أن الإسلام اعتبر العدل الهدف الأسمى التي اشتركت في إرسائه جميع الرسالات السماوية, قال تعالى: ((لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وأَنزَلنَا مَعَهُم الكِتَابَ والـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ))، الحديد: 25.
والحقيقة أن آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية المطهرة تشير بوضوح إلى مدى رسوخ قيمة العدل في الإسلام. فالبيان الإلهي في القرآن الكريم صريح في الأمر بالعدل وضرورة الالتزام به. قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ والإِحسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُربَى..))، النحل: 90. وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ…))، النساء: 58.
وبالإضافة لبعض الأحاديث النبوية القولية التي تبين ثواب ومكانة من يحكم بالعدل من المسلمين في حياته، ومع من يعول، كقوله -صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الـمُقسِطِينَ عِندَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ عَن يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وجَلَّ، وكِلتَا يَدَيهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعدِلُونَ في حُكمِهِم وأَهلِيهِم ومَا وَلُوا)[1]، فإنَّ السُّنة التطبيقة مليئة وزاخرة بالأمثلة العملية الحية لمبدأ العدل؛ والتي لم تشهد البشرية مثيلا لها في تاريخها الطويل. ولا يمكن لهذا المقال –بحال- أن يستقصي بعضها، فضلا عن جلها أو كلها.
وأمام تراجع سيادة الحضارة الإسلامية الملحوظ على العالم في العصر الحديث، وخصوصا منذ سقوط الخلافة العثمانية التي كانت مصدرا لإرساء مفهوم العدل ونموذجا فريدا لتطبيق هذه القيمة الإنسانية على أرض الواقع، وأمام هيمنة الغرب واحتلاله لكثير من الدول العربية والإسلامية, ومحاربته لقيم الإسلام ومبادئه وثوابته, ومحاولته استبدال ذلك بثقافته العلمانية اللا دينية، بدأ تطبيق مبدأ العدل الإسلامي يغيب شيئا فشيئا, في محاولة لإحلال مفهوم العدل العلماني الغربي المزيف محله.
نعم، لقد انخدع الكثير من المثقفين والباحثين المسلمين بشعارات الغرب التي رفعها إبان نهضته الحديثة، وعلى رأسها العدل. فانبهر الكثير بمحاكم الغرب، ونظامه القضائي، والعدالة النسبية المطبقة فيها، في مقابل البيروقراطية والفساد الذي أصاب المحاكم والنظام القضائي في كثير من الدول العربية والإسلامية. والذي كان السبب الأهم في ذلك هو الاحتلال الغربي، الذي لم ينجل عن الدول العربية والإسلامية إلا عسكريا وظاهريا, بينما لا تزال آثار إفساده للحياة السياسية والاقتصادية والقضائية والاجتماعية والأخلاقية فيها ماثلة أمام الأعين وبادية حتى اليوم.
لقد حاول الغرب -أمام هذا الواقع- تمرير نظامه القضائي إلى العالم الإسلامي، وكأنه المثال النموذجي لقيم العدل والمساواة. كما حاول تسويق مفهومه الأعرج للعدالة والمساواة على أنه الأفضل في العصر الحديث؛ إلا أنه اصطدم بكثير من العوائق والحواجز التي تمنع نجاح هذه المحاولات. ولعل أهمها العوار الواضح المتمثل بالعنصرية في مفهوم العدالة الغربية من حيث التطبيق؛ ناهيك عن ثغرات كثيرة أخرى لا مجال لتفصيلها في هذا المقام.
والحقيقة أن خطر هذه المحاولات الغربية يتمثل بشكل أساسي في عقول الشباب المسلم, الذي كان -وما زال- يرى في محاكم الغرب من العدالة –وإن كانت نسبية كما سنرى- ما لا يراه ويلمسه في كثير من البلاد العربية والإسلامية العريقة في إسلامها؛ الأمر الذي قد يجعله يتبنى مفهوم العدالة الغربي كبديل عن مفهوم العدالة الإسلامي, مع ما بينهما من فروق و واختلاف, ما دام الأول منهما مطبق على أرض الواقع في محاكم الدول الغربية, والثاني مغيب وغير معمول به في الدول العربية والإسلامية.
ومن هذا المنطلق تبدو الحاجة إلى بيان الفروق بين مبدأ العدل في الإسلام ومفهوم العدالة الغربية في غاية الأهمية والضرورة, ولعل النقاط التالية تلقي الضوء على بعض تلك الفروق وأهمها:
أولا: العدل في الإسلام شامل لجميع المسلمين، لا يستثنى منه أحد في مجال التطبيق والتنفيذ, وليس من ناحية التنظير والتشريع فحسب, فلا فرق في تطبيق العدالة بين أن يكون المسلم ذو بشرة بيضاء أو سمراء أو حتى سوداء, ولا فرق كذلك بين غني أو فقير, أو قوي أو ضعيف. فمبدأ العدل في الإسلام مطبق على الجميع بناء على أن الجميع سواسية كأسنان المشط.
بينما تفوح من القوانين الغربية رائحة العنصرية أثناء التطبيق والتنفيذ, على الرغم من كونها قد تبدو فيه في مرحلة التقنين في قمة المساوة ومنتهى النزاهة. وتكفي بعض الأمثلة لبيان هذه الحقيقة الناصعة:
أما من حيث تطبيق العدالة على جميع المسلمين أبيضهم وأسودهم, فبالإضافة لتأكيد خاتم الأنبياء والمرسلين على عدم التفريق بينهم، بقوله: (أَلَا لَا فَضلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعجَمِيٍّ، ولَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، ولَا لِأَحمَرَ عَلَى أَسوَدَ، ولَا أَسوَدَ عَلَى أَحمَرَ،.. إِلَّا بِالتَّقْوَى)[2]، كان التطبيق العملي لهذه العدالة والمساواة صارخا وواضحا في العهد النبوي والراشدي وغيرهما من عصور الحضارة الإسلامية. فقد بلغ بلال الحبشي منزلة مؤذن الرسول -صلى الله عليه وسلم, كما فاق كثيرا من مسلمي قريش بالتقوى والعمل الصالح وسابقته في الإسلام.
ومن أروع أمثلة تطبيق العدل على القوي من المسلمين والضعيف, والغني والفقير, وذو الجاه ومن لا جاه له, ما جاء في حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُم شَأنُ الـمَرأَةِ الـمَخزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَت، فَقَالُوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالُوا: ومَن يَجتَرِئُ عَلَيهِ إِلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم. فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (أَتَشفَعُ فِي حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟!)، ثُمَّ قَامَ فَاختَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّمَا أَهلَكَ الَّذِينَ قَبلَكُم أَنَّهُم كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإِذَا سَرَقَ فِيهِم الضَّعِيفُ أَقامُوا عَلَيهِ الحَدَّ، وايمُ اللَّهِ لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَت لَقَطَعتُ يَدَهَا)[3].
إنه البيان الذي ليس بعده أي كلام في سمو العدل، وشموله في الإسلام. فالعدل الإسلامي لا يحابي قويا ولا غنيا ولا صاحب جاه. وهل بعد قسم الرسول الكريم بتطبيق العدل حتى على إحدى بناته، وفلذات كبده، إن فعلت ما يوجب الحد -حاشاها أن تفعل ذلك- مكان للمحاباة أو المجاملة أو المحسوبية؟!
ومن هدي الآيات القرآنية التي أمرت المسلمين بإقامة العدل حتى على ذوي القربى قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، ولَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ والْأَقْرَبِينَ))، النساء: 135. ومن هدي هذه التوجيهات والنماذج النبوية في الحرص على شمول العدل حتى على الوالدين والأقربين جاء العهد الراشدي، ليسطر أعظم النماذج لشمول العدل في الإسلام.
فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يأبى إلا أن يأخذ العدل مجراه في تنفيذ أدق تفاصيل حد من حدود الله على أحد أبنائه –عبدالرحمن. على الرغم من أن الحد قد أقيم والعقوبة قد وقعت. جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية: “وقَد رُوِيَ عَن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ: أَنَّ ابنَهُ عَبدَالرَّحمَنِ لَمَّا شَرِبَ الخَمرَ بِمِصرِ، وذَهَبَ بِهِ أَخُوهُ إلَى أَمِيرِ مِصرَ عَمرِو بنِ العاص لِيَجلِدَهُ الْحَدَّ جَلَدَهُ الحَدَّ سِرًّا، وكَانَ النَّاسُ يَجلِدُونَ عَلَانِيَةً، فبَعَثَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ إلَى عَمرٍو يُنكِرُ عَلَيهِ ذَلِكَ. ولَم يَعتَدَّ عُمَرُ بِذلِكَ الجَلدِ؛ حَتَّى أَرسَلَ إلَى ابنِهِ، فَأَقدَمَهُ الـمَدِينَةَ، فَجَلَدَهُ الحَدَّ عَلَانِيَةً، ولَم يَرَ الوُجُوبَ سَقَطَ بِالحَدِّ الأَوَّلِ، وعَاشَ ابنُهُ بَعدَ ذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ مَرِضَ ومَاتَ، ولَم يَمُت مِن ذَلِكَ الجَلدِ”[4].
في مقابل هذه النماذج الفريدة في شمول تنفيذ وتطبيق مبدأ العدل على الأبيض والأسود، والغريب والقريب، حتى طال أولاد وفلذات أكباد الخلفاء المسلمين؛ لا تزال العنصرية المقيتة والتمييز على أساس اللون هي المهيمنة على بلاد الغرب التي تزعم أن العدل في ربوعها قد بلغ ذروته وانتهى إلى مجده. ولم تقتصر هذه العنصرية الغربية على الوظائف العامة فحسب, بل طالت أرواح الكثير من ذوي البشرة السوداء في أمريكا دون جريمة أو ذنب إلا لون البشرة! وما حوادث قتل السود الأخيرة المتكررة في الولايات المتحدة الأمريكية, إلا خير دليل على تجذر العنصرية في المجتمع الأمريكي.
ثانيا: العدل في الإسلام يشمل المسلم وغير المسلم, فلا تمييز في تطبيق العدل في المجتمع الإسلامي على أساس الدين أو المذهب؛ بل يشمل العدل كل من يقطن في الدولة الإسلامية؛ بل إن العدل الإسلامي لا يتأثر ببغض قوم أو محبتهم, فيطال عدل الإسلام حتى الأعداء. قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ ولَا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلَا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى…))، المائدة: 8. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي “لا يحملنكم بُغضُ قَومٍ على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوًا”[5].
والأمثلة على شمول عدل الإسلام مع غير المسلمين -من اليهود والنصارى وغيرهم- لا يمكن حصرها في هذا المقال, ويكفي ذكر مثال واحد يتمثل في قول جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما: “أفاء الله -عز وجل- خيبر على رسول الله، فأقرَّهم رسول الله كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبدالله بن رواحة، فخرصها عليهم الخَرصُ تقدير حق المسلمين من تمر خيبر، ثم قال لهم: يا معشر اليهود.. أنتم أبغض الخلق إليَّ، قتلتم أنبياء الله -عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بُغضي إياكم على أن أحيف عليكم، قد خرصت عشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم، وإن أبيتم فلي. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، قد أخذنا، فاخرجوا عنا”[6].
في مقابل شهادة اليهود بعدل المسلمين وإنصافهم يمكن ملاحظة العنصرية في عدل القوانين الغربية, فمبدأ العدل والمساواة هناك على مستويات. فهناك عدل من الدرجة الأولى للنصارى واليهود, وعدل من الدرجة الثانية لغيرهم من الملل والنحل, وعدل من الدرجة الثالثة للمسلمين.
والحقيقة أن التمييز ضد المسلمين في دول القارة العجوز والولايات المتحدة الأمريكية بات أمرا مفضوحا, وقد صدرت الكثير من التقارير تؤكد تزايد نمو هذه الظاهرة وتحذر منها. ومنها تقرير اللجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب التابعة لمجلس أوروبا، عن عام 2014م، والذي أظهر ارتفاع معدلات العنصرية والإسلامو-فوبيا في القارة الأوروبية.
ورصد التقرير اتجاه الزعماء الأوروبيين إلى إلصاق التهم بالإسلام والمسلمين فيما يتعلق بالأحداث الإرهابية التي تشهدها أوروبا، وتحويل الأمر إلى أشبه ما يكون بأداة سياسية دون أدلة أو براهين, وهو ما يتنافى مع أبسط قواعد العدالة الغربية المزعومة.
في ختام هذا المقال لا بد من القول بأنه من العدل والإنصاف الاعتراف بوجود عدالة نسبية في محاكم الدول الغربية مقارنة بمثيلاتها في الدول العربية والإسلامية, إلا أن ذلك لا يعني مقارنة مبدأ العدل الشامل المقرر في دين الله الخالد مع العدل الغربي النسبي القاصر.
————————————————
[1] صحيح مسلم، (برقم: 4825).
[2] مسند الإمام أحمد، (برقم: 23489).
[3] صحيح البخاري، (برقم: 3475).
[4] مجموع الفتاوى: ج3/361.
[5] تفسير ابن كثير: ج3/62.
[6] مسند أحمد، (برقم: 14996)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.
*المصدر : مركز التأصيل