بقلم محمد صلاح قاسم
العام التاسع والتسعون بعد الهجرة، في دمشق حاضرة الدولة الأموية وموطن الذهب والسيف، طوفانٌ من الحزنِ الشديد والترّقب يعصف بالأجواء، وكذلك بنفوس الدمشقيين، الذين كان لسان حال أكثرهم يقول: «يا ليتنا متنا قبل هذا اليوم، أو كنا نسيًا منسيًا». البعض غَشِيَتهم حالةٌ من الإنكار تريح نفوسهم وأعصابَهم من تحمُّل ثقل تصديق حدوث ما سوف يرونه اليوم في قلب دمشق.
سرت شائعاتٌ كثيرة بأن الخليفة عمر بن عبد العزيز أصدر تعليماتٍ واضحة وقاطعة بخصوص هذا الأمر الجلل على كراهةٍ منه. فحملتُه الصادقة من أجل تطبيق العدل الصارم، والتي بدأها بمظالم أقاربه أمراء البيت الأموي الحاكم، لن تتوانى عن إنصاف المسيحيين ضد المسلمين ما دام الحق في صف الأولين.
والآن نعود أكثر من 80 عامًا للوراء لنتتبع خيوط القصة.
المسلمون على أبواب دمشق
كنيسةٌ صارت إلى مسجدِ ..هديةُ السيِِّدِ للسيِّــدِ * أحمد شوقي
دمشق، عام 14 بعد الهجرة، تحاصر الجيوش الإسلامية المدينة كإحاطة الخاتم بالإصبع. يرابط كل قائد مسلم بفرقته أمام الأبواب الرئيسية للمدينة التي أصبحت كالثمرة الناضجة في موسم القطاف، وتؤازرهم جيوشٌ أخرى على المُقتَربات الرئيسة لتحول دون وصول النجدات للمدينة المحاصَرة. طال الحصار شهورًا، وأجهد من داخل الأسوار ومن خارجها، وانتظر كلٌّ فرجَهُ.
بدت في الأجواء نصف فرصة للحسم أجاد استغلالها القائد الفذ خالد بن الوليد. تصادف أن وُلد لأحد أمراء الروم أثناء الحصار، فأقام وليمة كبيرة من مخزونٍ كان لديه، فانشغل الكثير من المدافعين بهذا الحدث، وأكلوا وشربوا وسكروا. ولما نقلت عيون خالد بالمدينة هذه الأوضاع، لم يُضِع دقيقة واحدة حتى ليخبر باقي القادة بخطته، فاخترق وشجعان جيشه منطقة ضعيفة في الدفاع، ونفذت قواته إلى داخل المدينة، وفتحت إحدى بواباتها الكبيرة. فوجيء من في المدينة بسيوف جيش خالد داخلها تحصدهم قتلى وأسرى. فحاولوا استدراك ما يمكن استدراكه.
فوجئ القائد العام للجيوش الإسلامية، الصحابي الشهير أبو عبيدة بن الجراح ببعض أعيان البلد يفدون إليه يعلنون تسلميهم المدينة بالأمان، فأعطاهم ما يطلبون فورًا، ودخل بجيشه من باب الجابية الكبير. تقابلت الجيوش الإسلامية في منتصف المدينة، وعاتب بعضهم بعضًا. يصر خالد أن المدينة أخذت عنوة بالسيف، وبالتالي فلا أمان لمن فيها. بينما الباقون يصرون أنهم أعطوا الأمان وانتهى الأمر.
آل الأمر بعد سجالٍ إلى شطر أحكام المدينة نصفيْن. نصف الأمان له عهد الله ورسوله والمؤمنين، بأن تسلَم دماؤهم وأموالُهم ودورهم وكنائسُهُم. أما نصف العنوة، فهو ملك المسلمين يفعلون به ما شاؤوا على وفق قانون الحرب آنذاك. بالمصادفة كانت كنيسة دمشق العظمى في منتصف المدينة تمامًا، فاختلفوا في أي نصفٍ تقع.
آخر المطاف اتفقوا على أن تُقَسَّم الكنيسة – وكانت تسمى كنيسة يوحنا – إلى نصفيْن. يظلّ النصف الغربي كنيسةً كما هو، بينما قام المسلمون باتخاذ النصف الشرقي مسجدًا كبيرًا لهم، كان هو نواة جامع دمشق الأموي الكبير الذي لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا. للمفارقة، فقبل قرون، كان هذا البناء معبدًا وثنيًا، فلما غلبَت النصرانية على الدولة الرومانية، تم تحويله إلى كنيسة.
الوليد بن عبد الملك.. الأموي الذي هدمها بيده
وقد تشرفتُ وزُرتُ آلافًا من المساجد، في الداني والقاصي من بلاد الإسلام، فما رأيتُ فيها كُلَّها بعد المساجد الثلاثة التي ميَّزَها الله مسجدًا هو أقدَمُ قِدَمًا، وأفخمُ مظهرًا، وأحلى في العين منظرًا، من المسجد الأموي في دمشق. * الشيخ علي الطنطاوي يصف الجامع الأموي
على مدار حواليْ نحو سبعة عقود، ظلَّ المسلمون والمسيحيون يصلي كلٌّ في نصفه. مع تزايد أعداد المسلمين، بدأ المسجد يضيق بالمصلين، خصوصًا مع حرص غالبية المسلمين على صلاة الجمعة في هذا المسجد الجامع، وكذلك كان منبره منصَّةً هامة للخلفاء والأمراء للتحدُّث إلى الناس في الأمور الحيوية الكبرى.
حاول حكام دمشق حلَّ هذه المشكلة، فحاول كلٌّ من معاوية ثم عبد الملك بن مروان استرضاء النصاري بالمال للتنازل عن نصفهم، لضمه إلى المسجد لتوسعته، لكنهم كانوا يرفضون في كل مرة لأهميَّتها عندهم. وهكذا استمرَّت المشكلة في التضخم دون حل، ويتهم كل طرفٍ الآخرَ بإزعاجه في ممارسة عباداته.
عام 86 هـ، اعتلى كرسي الخلافة الوليد بن عبد الملك، والذي صدَّر ابن كثير من البداية والنهاية الفصل الذي يتحدث عن وصوله للخلافة بعنوان: «خلافة الوليد بن عبد الملك .. باني جامع دمشق». وبالفعل كان من أول القضايا التي تصدَّر لها الوليد هو حل «مشكلة» جامع دمشق، خصوصًا وقد كان شغوفًا بالبناء والعمران. ولأنه كما وصفه ابن كثير في نفس الفصل، كان جبَّارًا عنيدًا، فأصرّ على حل الأمر، ولو لزَمَ الأمر تجاهل أي اعتبارات كان يحرص عليها سابقوه.
يذكر الشيخ «علي الطنطاوي» في كتابه عن الجامع الأموي أن الوليد جمع مقدَّمي المسيحيين ليتفاوض معهم على التنازل عن نصيبهم في الكنيسة لتوسعة الجامع، وذلك مقابل أن يبني لهم أخرى في موضع آخر، فرفضوا. فزاد المقابل إلى أربع كنائس، فرفضوا أيضًا، وقالوا إنهم يلتزمون بالعهد الذي كان أيام الفتح، ويتمسكون بحقهم فيها.
طلب الوليد بناءً على اقتراح أخيه المغيرة مراجعة صيغة العهد، وإعادة مسح الأماكن طبقًا له. توصَّلت لجنة المراجعة إلى أن نصيب المسلمين يشمل كامل الكنيسة – من الغريب اكتشاف تلك الحقيقة فجأةً بعد 70 عامًا من الفتح -. لما أعلَمَ الوليد قياداتِ المسيحيين بهذه النتائج، حاولوا استرضاءَه ليحصلوا على أي شيءٍ في المقابل، فذكَّروه بعرضه السابق بتعويضهم بأربع كنائس، فرفض . ثم أعطاهم كنيسة واحدة فيما بعد.
كان آخر ما لجأ إليه المسيحيون لإثناء الوليد عن عزمه، هو تخويفه بعاقبة هدم هذه الكنيسة المقدسة، إذ أخبروه أنه قد يصاب بالجنون أو العاهات من يشرع في القيام بهذا. فاستفزَّ هذا الوليد، فقرر أن يبدأ عملية الهدم بنفسه، وقد كان. بل يذكر عبد القادر الدمشقي من كتابه «الدارس في تاريخ المدارس»، أنَّ الوليد من شدة غضبه أثناء توجهه لبدء هدم الكنيسة بنفسه، قام بجر أحد الرهبان الذين رفضوا إخلاءَها، حتى ألقاه خارجها. كذلك إمعانًا في النكاية، أوكل لبعض خصومهم اليهود المشاركة في عملية الهدم.
استمرَّت عملية بناء الجامع الكبير سبع سنوات كاملة، وفي بعض الروايات عشر أعوام. جاء البناء آية في الحسن والفخامة والزخرفة، لدرجة أن سرت شائعات بين الدمشقيين أن أموال خزانة بيت المال نفدت في بناء الجامع، مما دفع الوليد أن يأمر مناديه بحشد الناس. فلما اجتمعوا، خطب فيهم بخصوص الأمر، وجعل مسئول خزانته يجلب أموال بيت المال على ظهور البغال، وقام الموظَّفون بوزنِها وعدِّها أمام الناس، ليتأكدوا بأنفسهم أنه ما زال هناك رصيد احتياطيٌّ كافٍ لسنواتٍ بعد إتمام هذا المعمار الضخم.
تمتَّع الجامع الأموي بمكانة خاصة ازدادت بروزًا على مدى سنوات طوال، فمثلًا يخصص ابن كثير الدمشقي – الذي عاش بعد هذه الأحداث بسبعة قرون – في موسوعته التاريخية «البداية والنهاية» فصلًا عن الآثار المنقولة في فضل جامع دمشق – رغم كون معظمها غير صحيحة أو صريحة -.
يُروَى كذلك حكاية طريفة – لا يعرف تحديدًا نصيبها من الصحة – عن جامع دمشق، أن أحد رسل الروم وفد إلى دمشق لمفاوضة خليفتها. أخذ الرسول يتجولْ في شوارع دمشق حتى رأى جامعها الكائن في وسطها. فما كاد ينظر إليه حتى خرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق الرجل سأله مرافقوه عما حدث، فقال إنه لم يتحمل الصدمة عندما رأى البنيان الضخم الماثل في قلب دمشق – يقصد جامع دمشق الكبير -، فعرف أن العرب طالما نجحوا في إقامة مثل هذه العمارة الشامخة، فلن يزول سلطانهم عن تلك الأرض، وعلى الروم أن يعودوا كما كانوا.
عمر بن عبد العزيز.. العدل هو الحل
لا تضربنَّ مؤمنًا ولا مُعاهَدًا سوْطا إلا في الحق، فإنك صائرٌ إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. *
عمر بن عبد العزيز مخاطبًا واليه على خراسان الجراح الحكمي، نقلًا عن «الكامل في التاريخ لابن الأثير»
تولى عمر بن عبد العزيز الأموي الخلافة عام 99 هـ، بعهد استخلاف استثنائي مقارنة بمن سبقوه من الحكام الأمويين. إذ لم يرث الحكم من أبٍ أو أخ، إنما اصطفاه الخليفة السابق، ابن عمه سليمان، لعدله وتقواه. ولما تسامع الناس بعدله الصارم الذي بدأ بالكبير قبل الصغير، وجدها مسيحيو دمشق فرصة لإعادة فتح ملف الكنيسة التي أخذت منهم، فبادر مقدَّموهم إلى عمر شاكين أن الوليدَ غمَطَهُم حقَّهٌم، وانتزع موافقتهم على الصفقة بالترهيب لا الترغيب.
اقتنع عمر بحجّتهم، وأصدر أوامره إلى عامله على دمشق بهدم البناء الحالي للجامع، وإعادة نصفه إلى النصارى كما كان، ما لم يحدث اتفاقٌ يُرضي أصحاب الحق. ضاقت الأرض بما رحُبت بعموم المسلمين في دمشق ومقدَّميهُم، وهالَهُم أن تُرفع الصلبان مجددًا في موضع المسجد، وخشوْا كذلك أن تُحرم مدينتهم من هذا العَلَم الفريد.
اتجه وفدٌ من كِبار المسلمين في مقدمتهم قاضي دمشق للتفاوض مع قيادات المسيحيين. طالت المفاوضات، وأخذ كل طرف يستخدم أوراقه. فمثلًا أخذ المسلمون يذكِّرون المسيحيون بأنهم قد تغافلوا عن استحداثهم كنائس جديدة بالمدينة، رغم عدم تضمُّن عهد الفتح الحق في هذا. في المقابل تمسَّك المسيحيون بالحُكم العُمريّ، وأكَّدوا أن من حقهم في نصف الأمان فعل ما يشاؤون.
أخيرًا، انفرجت الأزمة لمَّا عرض المسلمون رد كنائس غوطة دمشق التي حولَّها المسلمون لأنها كانت في نصف العُنوة، مقابل تنازل المسيحيين عن قضيَّتهم أمام عمر، للحفاظ على جامع دمشق. وافق المسيحيون وسرَّهُم هذا الاتفاق. ولما بلغ عمر بن العزيز تراضي الطرفيْن، سُرَّ كثيرًا، وألغى أوامره بهدم جامع دمشق، والتي كانت قاب قوسيْن أو أدنى من التنفيذ، فانتهت للأبد قضيّة «كنيسة يوحنا»، وإن لم تنتهِ نظرة عمر بن عبد العزيز السلبيَّة إلى جامع دمشق، إذ كان يضيق بالإسراف الشديد الذي فعله الوليد في تزيينه وزخرفته، ولكن تلك قصة أخرى!