مقالاتمقالات مختارة

العدالة والمجتمع وما بينهما

بقلم أحمد أبو رتيمة

في صحراء الديكتاتوريات يظمأ الناس إلى العدل والحكم الرشيد فيرسم المواطن المقهور لنفسه مخيالاً جميلاً لحاكم عادل يرد الحقوق إلى أهلها وتستقيم به أحوال البلاد والعباد. لكن قوانين الاجتماع لا تحابي أمنياتنا الجميلة، فهل يمكن لحاكم فرد أن يهبط من السماء أو ينبت من الأرض فجأةً ليملأ الأرض قسطاً بعد أن ملئت ظلماً دون إسناد ثقافي وتهيئة اجتماعية؟ وهل نجني من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً؟ لا يأتي الحاكم المستبد من فراغ، بل هو تتويج لاختلال في قواعد المجتمع، وهو يمثل ذروة علاقات شائعة تقوم على ثنائية السيد الآمر والعبد المطيع؛ هذه العلاقات تبدأ من مستوى الأسرة وتمتد إلى كل المؤسسات والتجمعات وتنتهي بالحاكم الأعلى، وبذلك فإن المستبد تعبير طبيعي عن المجتمع الذي يحكمه؛ ليس بمعنى مجيئه عبر آليات انتخاب ديمقراطية، بل بمعنى أنه نبت في ثقافة تتفهم حق القوي في استعباد الضعيف وحق الكبير في إذلال الصغير.

إن كثيراً من الشعوب المستضعفة يئنون تحت سياط قهر الحكام وبطشهم، لكن ماذا لو سنحت الفرصة لأحد هؤلاء المستضعفين فصار حاكماً؟ ماذا سيمنعه من إطلاق العنان لشهوات نفسه في التسلط وإذلال العباد؟ ويثير مشهد الشعوب المستضعفة في نفس الحاكم مزيداً من شهوة التسلط، وفي القرآن إشارة: “كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى”، وقد فكك عبد الرحمن الكواكبي بنية الاستبداد فقال: “إن المستبد إنسانٌ مستعدٌّ بالطّبع للشّر وبالإلجاء للخير”، أما مارتن لوثر كينغ فقد قال: “لن يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنياً”.

العدل ليس منةً يجود بها الحاكم الفرد على رعيته، بل هو ثمرة ولادة نظام اجتماعي يلجأ الحاكم إلى الاستقامة عبر تشارك السلطة معه وإبداع آليات للمراقبة والمحاسبة وفرض سيادة القانون فوق الجميع. وإزاحة السلطة الفوقية الحاكمة دون ترسيخ أسس العدالة في قواعد المجتمع أمر لا ينطوي على قيمة جوهرية، وفي مواجهة سؤال التغيير المنشود في بلادنا العربية علينا ألا نغفل عن دروس الربيع العربي فقد سقط الرؤساء فعلاً في عدد من الدول، لكن موجة الثورات المضادة أعادت خلق نسخة أشد فظاظةً من الحكم الاستبدادي!

ما حدث هو أن الشعوب العربية أسقطت أشخاصاً وهيئات لكنها لم تسقط نهجاً معششاً في التربة الثقافية. والمواطن العربي قد يغضب من الظلم الذي يمارسه الحاكم ضده لكنه لم يمتلك من الوعي والوضوح الأخلاقي بعد ما يحرم به ذات الممارسات حين يقوم بها حزبه أو عشيرته الأقربون. ولا يزال أكثرنا ينطلق من القاعدة التي ذكرها القرآن: “لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ” فنفتح أعيننا على انتهاكات الخصمم السياسي أو الأيديولوجي، لكننا نتغافل أو نهون من شأن انتهاكات مشابهة حين يقترفها من يربطنا بهمم حبل من الهوى.

لقد عبر كثيرون عن تذمرهم من الفوضى التي أعقبت ثورات 2011 حتى وصل بهم الحال إلى إبداء الندم على إسقاط الأنظمة احتجاجاً منهم بأن تلك الأنظمة كانت تحافظ على الاستقرار، لكن هذه المقارنة مغلوطة، إذ لا يأسف عاقل على الخلاص من طاغية، وقد كانت المشكلة في أننا لم نهيئ أنفسنا لمرحلة ما بعد هذه الأنظمة ولم نؤسس نظاماً اجتماعياً راسخاً يرعى العدل ويحول ثورة الغضب الفطرية على الظلم والاستبداد إلى آليات منتظمة للبناء وضمان حقوق الشعوب، فكان من الطبيعي أن يحل الفراغ والفوضى. وعلينا أن نعيد رسم المعادلة، فالقضية الرئيسة ليست إزالة الحاكم، بل أن نعقم البيئة عن تفريخ أي طاغية، وأن ننشئ أسس العدالة وضمانات الحكم الرشيد. إن ميدان النضال الحقيقي هو المناداة بسيادة القانون وتوزيع السلطات وسلطة الشعب، وأن نمتلك من التجرد الأخلاقي ما يدفعنا لإدانة أي انتهاك لحقوق الإنسان وأن نرى فيه خطراً علينا، فإذا أعطينا لأنفسنا الحق في انتهاك حقوق الآخرين فليس لنا حق بعد ذلك أن نشكو من انتهاك حقوقنا حين تدور الدائرة علينا.

حين اشتد بطش فرعون ببني إسرائيل قال لهم: “عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ”، لقد كان موسى عليه السلام متفطناً إلى أن إقامة العدل أهم من هدم الظلم، وأن هلاك الطاغية لن يكون ذا قيمة إن لم يكن ثمة نهج مختلف بعده، وقد تحققت نبوءة موسى إذ ما كادت أقدام بني إسرائيل تجف من البحر بعد هلاك فرعون حتى قالوا لموسى: “اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ”! إن النفوس التي لم تستوطنها الحرية لتسارع في البحث عن سيد جديد يستعبدها بعد إذا تحررت من سيدها الأول.

الخطر الحقيقي على العدالة في مجتمع ما لا يتمثل في الانتهاكات الفعلية للعدالة من قبل السلطة الحاكمة، بل يبدأ من المنظومة الثقافية التي تحكم القاعدة الجماهيرية لهذه السلطة، فإذا وجدتها كتلةً جماهيريةً صماء تتبع على عماية وتبرر كل أفعال السلطة وتخلو من أي حس نقدي وبوصلة أخلاقية فاعلم أن بذور الطغيان كامنة في هذا المجتمع حتى قبل أن تتجلى على هيئة ممارسات مرئية، لأن القابلية موجودة ومن يبرر الطغيان هو مشروع طاغية حين يمتلك الأدوات المناسبة وحين تتهيأ له البيئة لفعل ذلك. والأمة الراشدة هي التي تصنع الحاكم الراشد، وبناء الكتلة الاجتماعية المتحررة من أي عماية أيديولوجية وحزبية شرط سابق لإقامة العدالة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى