مقالاتمقالات مختارة

العدالة والتنمية.. تقويم وتدعيم

العدالة والتنمية.. تقويم وتدعيم

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

هل يمكن لعاقل عادل أن يَشُكّ أو يُشَكِّك في هذه الحقائق التي رسبت في قاع العقل الجمعي التركيّ وفي الضمير العام للأمّة التركية كلها؟ هل يستطيع إنسان سَوِيٌّ يحترم عقله أن يُنْكر – وفي وجهه نقطة ماء أو مسحة من حياء – أنَّ تركيا في عهد أردوغان والعدالة والتنمية قد انتقلت نقلة بعيدة لم يكون يحلم بها آباء هذا الجيل ولا أجداده؟ وهل يوجد في ذهن من يعي ويبصر بديل يغني عن أردوغان وحزبه أو يمكن أن يسد مسدَّه؟ وأين نجده ذلك الكيان الذي يمكن أن يكون – دون عسف يمارسه أو إكراه يزاوله – مُعْتَصَمَ الوحدة للأمة التركية المتعددة القوميات والأعراق والمذاهب والمشارب؛ إذا لم يكن هو العدالة والتنمية؟ ومن ذا يستطيع أن يملأ فمه بالزعم بأنّ حزباً من أحزاب المعارضة يقدر – دون ارتكاب مهزلة تحالف الأضداد – أن يقود البلاد أو يفوز بتأييد الشعب؟ فأين إذن تكمن المشكلة؟

    إذا انطلقنا من هذه الأرضية الصلبة المتينة فسيكون بلوغ الغاية أقرب وأسهل، والغاية هي: أين تكمن المشكلة؟ وما السبيل إلى حلها؟ وهما سؤالان يمثلان قضيبين متوازيين لا غنى عنهما من المبدأ إلى المنتهى، وإذا كانت الإجابة على السؤال عويصة فالإجابة على الثاني أعوص، غير أنّ امتلاك طرف الخيط يعد خطوة ناجحة في النظر إلى المسألة برمتها ومن ثمّ في الإجابة على السؤالين مهما تعقدا واعتاصا، وطرف الخيط الذي يبدو من خلال طرح الأسئلة السابقة هو أنّه لا مناص من استعادة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان لوضعه المتميز الذي كان به مغايراً لكل ما كان سائداً، وكل ما عدا هذا الخيار – وإن بدا للوهلة الأولى حلاً خارج الصندوق – يفتقر لكثير من عوامل النجاح أهمها التوقيت، فعلى سبيل المثال: لا يمكن أن يكون الذهاب إلى إيجاد بديل منافس للعدالة والتنمية من داخل مكوناته حلا أو علاجاً؛ لعدم المناسبة من جهة التوقيت؛ فالتربص بالحكومة والقيادة الحالية في الداخل والخارج بلغ من الشدة والعجلة والطيش مبلغا لا يكون معه الذهاب إلى هذا الخيار إلا تعجيلا بالانتحار، وإنّما يصلح هذا الخيار في وقت الرخاء والتمكين، أمّا في هذا التوقيت فهو ذبح للتجربة كلها من الوريد إلى الوريد.

    ولكي نكون منصفين يجب أنّ نُقِرَّ بأنّ أخطاءً بمستويات متعددة ارتكبت من الحزب، منها عدم التوفيق في كثير من الاختيارات للمقاعد في البلديات وفي البرلمان والحومة، ومنها خيارات التحالفات وما سببته من رد فعل معاكس تمثل في تحالفات مضادة وتكتلات أضداد لا غرض لها إلا إسقاط التجربة، ومنها ما يتعلق بخطاب الحزب وزعمائه في الداخل والخارج، ومنها حزمة القرارات الاقتصادية التي تكلم في نقدها خبراء اقتصاديون من كافّة التوجهات، وغير ذلك، وهذه الجملة من الأخطاء لها أثر بارز على توجه الناخب التركيّ بلا أدنى شك؛ وعلى الحزب سرعة تدارك هذه الأخطاء وسرعة علاجها، وهذه هي المحطة الأولى لانطلاق الخطين المتوازيين: إدراك المشاكل والسعي في إيجاد حلول لها.

    غير أنّ حصر المشكلة في هذه الأخطاء التي وقع فيها الحزب يعد في تصوير الواقع تضييقاً لزاوية الرؤية وخنقاً ل(الزوم) الذي يجب أن يتسع ليستوعب المشهد بكل مكوناته، ففي المشهد تكتلات من أضداد سياسية لا غاية لها إلا إنهاء التجربة وإسقاط العدالة والتنمية، ويقطع العقل بأنّ هذه القوى المتكتلة لا يمكن أن تلتقي على مشروع ينهض بتركيا أو حتى يحافظ على وحدتها وهويتها، بل يقضي تاريخها وواقعها كذلك بأنّ التقاءها لن يكون إلا على سبيل تقاسم المغانم التي لن تعود على الشعب إلا بالمغارم، وهذه التكتلات وراءها نسب تصويتية مؤدلجة وجامدة، والشريحة الضيقة السائبة التي تسيل بين هذه الكتل الصلبة تنتهبها وسائل الإعلام المحلية والعالمية والإقليمية التي لم يعد لها همّ إلا التخلص من أردوغان تجربته المزعجة لكل حسود لدود.

    إنَّ ما وقع فيه الحزب الحاكم من أخطاء أو تقصير لا يرقى للمستوى الذي يجعل شخصاً – لا يَعْدُ أن يكون ظاهرة إعلامية – يجعله ويصيره في لمح البصر نداً لزعيم صعد بتركيا من القاع المسف إلى القمة السامقة في كل شيء ابتداءً من رغيف العيش وانتهاء بالكرامة التي تليق بشعب ينتمي لحضارة حكمت العالم خمسة قرون أو يزيد، إنّ في الأمر تزييف يمارس على الوعي التركي بشكل خطير ومثير، هذا التزييف يجد لنفسه مسالك كثيرة مهيأة في الواقع التركيّ وفي الواقع البشريّ كذلك.

    أهم وأخطر هذه المسالك هو الرغبة الطبيعية في التغيير، هذه الرغبة يعززها طول مكث العدالة والتنمية والرئيس أردوغان في الحكم، وهي رغبة فطرية لا يصح لأحد أن يصادرها على الشعوب، غير أنّ هناك جملة من الحقائق التي يغفل عنها كثير من الخلق أو يتغافلون عنها عن عمد وَلَيٍّ، أول هذه الحقائق أنّ التغيير ليس هدفا في ذاته، أي أنّ التغيير ليس لمجرد التغيير، فهذا لا يقول به عاقل، وإنَّما يكون التغيير نشداً للأفضل، أمَّا التغيير وحسب فهو رغبة يزجيها ويزكيها التخريبيون الذين لا يملكون رؤية ولا مشروعاً، بل لا يملكون إخلاصا لبلادهم، ثاني هذه الحقائق أنّ طول المكث إذا كان عبر شرعية دستورية حقيقية، وعن طريق احترام وتعظيم لإرادة الناخب هي في حقيقتها استقرار ونمو وانسجام، أمّا طول المكث الذي يجب أن تسعى الشعوب لإنهائه هو الذي يكون بالعسف والجور والاستبداد، وهذا غير موجود قطعاً في تجربة العدالة والتنمية، ثالثها: أنّ التغيير الذي ينشده كثير ممن يسعون إليه لن يكون من قبيل تداول السلطة وإنّما سيكون من قبيل تناسخ الأنظمة؛ وتبدل الأوضاع وانقلاب الأحوال رأسا على عقب، وهذا يشعره كل مراقب يعرف تاريخ الصراع بين القوى السياسية في هذا البلد، وأقل أخطار تغيير كهذا في توقيت كهذا وظروف وملابسات كهذه أن يتوقف قطار التنمية ويختل الاستقرار الاجتماعي، وهذه مخاطر لا يستهان بها ولا يعقل تحملها من أجل التغيير المجرد أو مجرد التغيير، لقد صارت نغمة التغيير مركبا ذلولا لكل من لا غرض له إلا إنهاء تجربة نهضوية واعدة لصالح أعداء تركيا.

    المسلك الثاني المتبع لإنجاز العملية هو التركيز على إبراز أردوغان على أنَّه ديكتاتور، وهل يمكن أن يأتي دكتاتور للحكم عبر شرعية دستورية؟ وهل يمكن أن يبلغ تجلي إرادة الشعب في حكم ديكتاتور إلى حد سقوط المدينة الكبرى في عهده في يد المعارضة بانتخابات وصناديق اقتراع؟ وهل يصح أن نقول عن حاكم إنّه دكتاتور لمجرد أنَّه بقى في الحكم مدة طويلة؟ أليس من الأنصاف أن نقول إنّ بقاءه هذه المدة وهو لا يأتي إلا باختيار الشعب دليل على نجاحة وعدله يضاف إلى الأدلة الظاهرة المتواترة؟ ثم ما هذه الحملة الإعلامية العالمية التي تطول يدها عليه وهو رئيس شرعي وتقصر عن الانقلابيين وهم من جاءوا على ظهور الدبابات؟ إنّ هذا العالم لعجيب حقاً!!

    إنّ دور الشعب في حل هذه المشكلة كبير، وواجباته في إنهاء هذه الأزمة كثيرة، يأتي في قمتها أن يتجرد الناخب من انتمائه الحزبي وهو يختار من يحكمه؛ ليختار الأصلح والأقوى على تحمل المسئولية بغض النظر عن انتمائه، ففي ذلك تقديم لمصلحة الوطن وإعلاء لها على حساب المصالح الحزبية الضيقة، وألا يحكم على المرشح بظاهر الأمر حتى يعرف مشروعه وقدراته على تنفيذ هذا المشروع، وليس لمجرد التعاطف بسبب مظلومية قد لا تكون حقيقية في الواقع، أو لموقف نفسي من خصمه أو غريمه، وألا تغريه وسائل الإعلام بما فيها من زيف وكذب، وألا تكون المعارضة للمعارضة ذاتها بل للتقويم والإصلاح.

   وإنّ على العلماء والأكاديميين والإعلاميين أن يلتزموا بالمصداقية وأن يعلوا من شأن المهنية، وأن يربوا الشعوب على الانصهار في الوطن ككل والتخلي من العصبيات؛ فإنّها هلاك للأوطان والأديان، والله الموفق والمستعان.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى