العدالة المطلقة في ميراث المرأة
بقلم عزة مختار
تعدّدت الدعوات المشبوهة في آن واحد عبر أكثر من قطر عربي إسلامي تطالب بالمساواة الكاملة في الميراث بين الرجل والمرأة، دون مراعاة اختلاف الأحوال والظروف الحادثة والمؤدية للميراث، وتبارت وسائل إعلام تلك الأقطار على أيهم يبادر ويقدم الحجج في مطالبته بالمساواة، فيقول أحدهم: إن القرآن كتاب تَعَبُّد لا يلزمنا اتِّباعه تشريعياً! وآخر يقول: إننا لن نغير النص القرآني، وإنما سنقوم بتعطيله؛ لأنه لم يعد مناسباً للعصر الحديث كتطبيق، على اعتبار أنه أكثر من الله علماً بعباده! فيتحداه سبحانه في تغيير تشريعه.
وبين هذا وذاك، تقف المرأة المسلمة موقف السلب، وهي التي استخدموها طويلاً ولقرون متتابعة لهدم ثوابت هذا الدين، بدءاً من نبذها فريضة الحجاب، واستخدامها كجسد مجرد في إفساد أجيال، ثم مناطحتها الرجال في الطرقات وأعمال لا تليق بها كإنسان كرمه الله تعالى، فاصطفاها لخير مهمة، وهي تربية أجيال موحدة تسعى في الأرض بدينها، لتطأ الشواطئ شبه عارية، وتستخدم صورها على السلع لترويجها، لتختم اليوم بمسألة حدّها الشرع بنصوص قاطعة ومفصّلة، لا يجوز التصرف فيها أو الاقتراب منها، وإن لم يتصد لتلك الدعوات قوة كبيرة ويوقفوا تلك المهاترات إلى الأبد، فقد أوشكت الأمة على الهلاك!
-المساواة لا تعني العدل بالضرورة:
يتحدثون عن المساواة وهم لا يدركون أن كلمة “مساواة” في حدّ ذاتها لا تعني العدالة المطلقة، فعلى سبيل المثال؛ كي أقرّب ذلك المفهوم، إذا افترضنا وجود اثنين يعملان في مؤسسة واحدة، أحدهما يتقن عملاً عقلياً فكرياً، والآخر يتقن عملاً حركياً، في وقت توزيع خريطة العمل والأدوات اللازمة له، قرر المدير أن يوزّع المهام بناءً على القدرة الخاصة بكل منهما، خصّ أحدهما بمكتب جيد التهوية، حيث إنه سيحتاج للمكوث وقتاً طويلاً بالشركة؛ لوضع خطط التشغيل بالمؤسسة، مزوّداً بمقاعد خاصة تساعده على التركيز في أقصى ركن من الشركة، حيث الهدوء، وبالقرب من مكتب المدير مباشرة؛ كي يتسنى له متابعته. والآخر كلّفه المدير بالمرور على الأقسام الخاصة بالشركة؛ ليقوم بعملية متابعة أداء الموظفين ويراقب إنجازاتهم، ويحاسبهم على التقصير، ويثيب على الإنجاز، منح الأول جهاز تكييف، ومنح الثاني سيارة.
لو قمنا بالحساب الكمّي بحساب قيمة ما وهبه المدير للأول، لوجدناه يقل كثيراً من حيث القيمة التكليفية عمّا أخذه الثاني، وقد كان من باب المساواة أن يأخذ كلاهما نفس القيمة! إنما من باب العدالة أن يتم الأمر كما تم؛ ليقوم كل منهما بوظيفته على خير وجه، دون أن يقلّل ذلك من شأن أحدهما أمام الآخر، وإنما هي وظائف، ومهما يصلح لها وتلك هي أدواتها، ولا يصلح لها الآخر فلا يلزمه اقتناؤها.
ولله المثل الأعلى، فالله عز وجل أنزل تشريعاته ليس بالمساواة التي قد تؤدي إلى الظلم البيِّن، وإنما أنزلها تبارك وتعالى بالقسط، والقسط هو المقصد الذي من أجله تنزَّل التشريع؛ ليضمن به المشرّع وصول الحقوق إلى أصحابها على خير وجه خلقت من أجله، دون النظر لاعتبارات الإنسان القاصرة، وعقله المحدود في فهم بعض الأحكام السماوية، والتي تم تكليفه بها؛ لينفذها دون الالتفات إلى الحكمة، إلا إذا ظهرت جليّة بفضل الله ورحمته، فيقول تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد، آية:25].
فميزان شرع الله هو القسط والعدالة المطلقة التي لا يدركها عقل بشري، وإلا فقد كان حري بالأستاذ أن يمنح لكل تلاميذه تقديراً واحداً من باب المساواة في الوقت الذي يمثل فيه ذلك عين الظلم.
القسط هو المقصد الذي من أجله تنزَّل التشريع؛ ليضمن به المشرّع وصول الحقوق إلى أصحابها على خير وجه خلقت من أجله، دون النظر لاعتبارات الإنسان القاصرة، وعقله المحدود في فهم بعض الأحكام السماوية، والتي تم تكليفه بها
-دين المساواة والرحمة:
لم نجد شريعة من الشرائع السابقة حققت المعادلة الصعبة مثل الشريعة الإسلامية، المساواة والرحمة والعدالة، فقضية المساواة المطلقة في الإسلام مفروغ منها. ففي العمل كان الخطاب موجهاً للفرد المسلم، رجل وامرأة على السواء، وفي الجزاء والأجر كان الخطاب موجهاً لكليهما على حد سواء، وكان الخطاب التشريعي مسبقاً دائماً بألفاظ وجمل: (يا أيها الناس)، (يا أيها الذين آمنوا)، (يا بني آدم)؛ لتشملهما معاً، وبهذا حين يتعارض المساواة في الميراث تكون العدالة هي الأوجب في التطبيق، ولا تترك لأهواء البشر يتلاعبون في مصائرهم، فيحدث الخلل المجتمعي والضغائن.
وبعقد مقارنة بسيطة بين الإسلام والشرائع الأخرى، نجد أن القرآن الذي تنزل منذ أربعة عشر قرناً ويزيد قد أنصف المرأة إنصافاً لم تصل إليها مثيلتها في الدساتير الأخرى حتى يومنا هذا، ففي أوروبا ظلّت المرأة لوقت قريب معروف عنها أنها ليست بشراً كاملاً، حتى أتى “سيمون دي بوفوار” باكتشاف خطير يؤكد أن المرأة مخلوق كامل كالرجل!
إن القرآن الذي تنزل منذ أربعة عشر قرناً ويزيد قد أنصف المرأة إنصافاً لم تصل إليها مثيلتها في الدساتير الأخرى حتى يومنا هذا
وحين نزل القرآن كانت المرأة كلّاً ومتاعاً مهملاً، يورث ولا يرث، فقال جلّ وعلا: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [سورة النساء، آية:7]، وتلك سابقة عالمية لم يعرفها أحد من قبل، ثم يأتي الحديث عن المهر، وأنه خاص بالمرأة لا بوليِّها، ومن حقها هي وحدها بموجب ذمتها المالية المستقلة، فالرجل عليه أن يبذل المهر، والمرأة تأخذه دون أن تنفق منه شيئاً، أي أنه من المال الذي ورثه، عليه أن ينفق على المرأة والأبناء، وأما هي فالمال الذي ورثته من حقها وحدها، ليس مفروضاً عليها أن تساعد زوجها منها إلا أن تتصدق عليه بإرادتها.
مسألة أخرى، وهي أن الرجل مفروض عليه الإنفاق على زوجته حتى لو كرهها، أو طلقها يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [سورة النساء، آية:19]، هنا الأمر بالمعروف -أي العدل- في معاشرة الزوجة حتى لو كان يكرهها زوجها، وبالمقابل وعد الله -جل وعلا- بخير كثير يأتي لهذا الزوج العادل.
ومن العجيب أن باب المواريث يطلق عليه باب الفرائض، كذلك دخل في تلك الفرائض: المهور مما يعتبر دلالة على أهمية الحكم، وفداحة الظلم، ومنع الميراث، أو عضله كما حدده الله في كتابه.
-توزيع الإرث حسب الحالة الفردية:
يختلف حق المرأة في الإرث من حالة لأخرى، فهي قد تحصل على النصف في حالة، وقد تحصل على أقل منه في حالات أخرى، وقد تحصل على أكثر من الرجل في حالة ثالثة، ففي معرض الحديث عن الأبناء يقول الله تبارك تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} [سورة النساء، آية:11].
يختلف حق المرأة في الإرث من حالة لأخرى، فهي قد تحصل على النصف في حالة، وقد تحصل على أقل منه في حالات أخرى، وقد تحصل على أكثر من الرجل في حالة ثالثة
إذن فهذه الآية الكريمة توضح أن قاعدة {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} ليست عامة ومطلقة، والإسلام دين شامل كامل، لا يجب أن نتخير منه أحكاماً ونترك أخرى، فكما يطبق في المهر والإنفاق على المرأة، فهو يطبق كذلك في أحكام الميراث؛ لكي تتحقق فكرة العدالة المطلقة التي من أجلها أتى الدين.
من كل ما سبق، يتضح أن الدافع الوحيد من وراء تلك النداءات للمساواة ليس حرصاً على كرامة أو حقوق المرأة، وإنما حرصاً شديداً على الطعن في أحكام الدين، والنيل منها، ونزع القداسة من ألفاظها الدقيقة، واللعب بمستقبل التشريع الإسلامي، والتهوين من تلك المسألة، إنه أصبح لزاماً على علماء الدين وعلى الأحرار في كل العالم أن يتصدوا وبقوة لتلك المهاترات قبل أن يصير الدين مستباحاً لطغامة لا همّ لها إلا هدم كل ما هو مقدس، والنيل من كل ما هو سماوي، حقداً وغلّاً وحسداً من عند أنفسهم!
(المصدر: موقع بصائر)