بقلم إدريس أحمد
لا يكمل الحديث عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة دون الإشارة إلى وثيقة المدينة، وهي أول دستور سياسي الذي أنشئت الدولة الإسلامية الجديدة عليه، وحين نتحدث عن الدولة بمفهومها السياسي فإنها تقوم على أسس معينة، منها استقلالية سيادتها، وامتيازها بالحدود الإقليمية، ووجود شعب يقيم على أرضها.
وهذه الأسس بطبيعة الحال كانت متوفرة في الدولة الإسلامية بالمدينة، لذلك احتاجت إلى سياسة تحكم المقيمين بأرضها، وهذا ما يظهر في وثيقة المدينة، وتعد هذه الوثيقة من أحد دعائم نشأة الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى الإخاء بين المهاجرين والمسلمين من أهل يثرب، وبناء المسجد.
اشتمل هذا الدستور المدني على عدد من البنود، وتميز بمصطلحات سياسية تنبض بروح العصر الذي تزامن معها، لكن حين نراجع مضامين البنود، ونفعّل مدلولات مصطلحاتها نجد أنها توافق عصرنا والفكر السياسي السائد في العصر الحديث، وتتضاعف قيمة هذا الدستور أنه أوجد حلولا جذرية لبعض مشكلات اجتماعية وسياسية وأمنية وغيرها مما يعاني منه العالم العربي والإسلامي.
نذكر على سبيل المثال بعض هذه المعاني البارزة من الوثيقة، من ذلك أهميةالوحدة الدينية بين أبناء المسلمين، ومنها دقة المساوة الاجتماعية بين أفراد الشعب، ومنها نوع العلاقة بين أفراد الشعب والمرجعية العليا في الدولة، ومنها سمات العدالة الاجتماعية مثل التكافل والتضامن.
من جانب آخر، هذه الوثيقة كونها تمثل تقافة الأمة الإسلامية منذ فجر ازدهارها يلزم أن تأخذ حيزا مهما في حياة المسلم أفرادا وجماعات، على مستوى الدول والمنظمات، لا نريدها أن تكون زينة بارقة يتبرك بها كلما جاء الحديث عن الهجرة النبوية، ولكن تكون عملا متمثلا في حياتنا اليومية، يتقيد بما جاء فيها، بأدق صورها وأتم وجهها، بم يتناسب مع روح العصر وثقافته.
لو أردنا أن نتتبع مظاهر العدالة الاجتماعية مثلا في هذه الوثيقة، نجد أن قاعدة العدالة الاجتماعية بنيت على أساس واضح، نظري وعملي معا، وحياة الرسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المدني يصدق هذا المثل الأعلى لهذه القاعدة، نقرأ في بنود الوثيقة: ” ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.” هذا في حق المسلمين.
وينص الدستور في حق غير المسلمين من أهل يثرب: “وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم”.
ويدل ذلك على حق التناصر بموجب المواطنة، والجيرة، فالمسلمون وغيرهم ممن يقيمون في المدينة متساوون كلهم في الحقوق، دون التمايز بينهم، وإن كان يستثنى من هذا الأقضية حين يحمل اليهودي في الحكم على دينه، والمسلم على مقتضى دينه، وهذا من باب التفصيل، لأنهم غالبا لا يرضون إلا بذلك ، أما من حيث الأصل فإن جميع المواطنين أمام سلطة القضاء متساوون، ومتكافؤون، فكانت هذه الوثيقة تقطع دابر الطبقية والعنصرية على أساس الدعاوي الدينية والقومية والعرقية.
ندرج قليلا إلى قيمة أخرى من معايير العدالة الاجتماعية، أبرزت الصحيفة كذلك قاعدة التضامن الاجتماعي، ونصها: “هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس”. ثم جاء تفصيل ذلك من خلال احترام أديان غير المسلمين من أهل المدينة، وأن الاختلاف الديني لا يخرم في بلديتهم أو وطنيتهم.. ولا يكرهون على الإسلام، وهذا موضوع آخر يأتي النقاش عنه في وقته!
من خلال الفقرات المنقولة يتبين أن الإسلام وضع قيما أخلاقية اجتماعية راسخة، خلد ذكراها التاريخ وهي مسطورة في كتب السير، ويترنح بها المثقفون والعلماء من حين لآخر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هذه القيم المشار إليها رغم أنها تدرس في برنامج المعاهد العلمية، فلم في أرض الواقع معطلة ومنعدمة ؟!
ولماذا الحكومات العربية والإسلامية لا تراعي هذه الحقوق في معاملاتها ؟ فكأن هذه النصوص إنما رويت للتبرك والتزين وليست للعلم والعمل.. !
ولماذا نرى التظالم بين شتى فئات المجتمع، لكأن هذا الأمر لم يصل إليهم ؟!
من الذي يتحمل مسؤولية انعدام هذه القيم الأخلاقية الاجتماعية ؟
وخير مثال لهذه الحالة المزرية، نلتمسها في حال دول الربيع العربي، حيث صدع الشعب بطلب حقوقهم في العدالة، وتوزيع الفرص بين الشعب على التساوي، ونبذ الطبقية، وسرقة أموال العامة.. ووجهت هذه الثورة بالانقلاب والإساءة من دول تمثل روؤساؤها الفساد الإداري ، والاستبداد السلطائي بامتياز، تقمع ثورة الشعب ليرجع الأمر إلى حالة البؤس والتزمر من جديد، ويتعجب الإنسان العاقل إن كانت هذه الحكومات تعرف هذه المعاني، واستقى رجالها من ينابيع الدين الصافية!
أين الإنصاف حين يطلب الشعب حقه في العدالة والحرية والإرادة والتعبير ؟ أما لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ يستقضيه -عليه الصلاة والسلام- الاعرابي ويغلط معه في الكلام ، ويرد صلى الله عليه وسلم حقه ويقول “إن لصاحب الحق مقالا”، ولا يستبد به وبحقه لمنزلته!
ويسترد النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي حقه كان أخذه منه أحد المسلمين، ثم جحده، وخاصمه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل رسول الله به حتى باع المسلم متاعه وسدد ما عليه من حق اليهودي. وهذا الواقع صار أصلا في الشرع، فإن الحكم الإسلامي لا يفرق بين الشريف والوضيع، ودماء الناس تتكافأ..
أرى أن المشكلات الاجتماعية التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم لا يمكن علاجها حتى نحكم شرع الله في أنفسنا أفرادا وشعوبا، حكاما ومحكومين، لكي يصلح المجتمع المعمور، ويصلح ديننا ودنيانا، وكما قيل: أقم شرع الله على نفسك يقم لك على أرضك ! وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!.
المصدر: اسلام أون لاين.