العداء للإسلام.. ماذا تعرف عن ثقب العلمانية الأسود؟
بقلم مالك المكانين
تظهر أوج تناقضات العلمانية حينما يتم الحديث عن الحجاب، نتيجة اختلافات تكتيكية من قبل نظراء العلمانية ومنظريها، ممن يدعون أنهم الممثلون الشرعيون لها، ومن الواضح أن هذه التناقضات أفضت إلى ما يسميه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران Edgar Morin باستراتيجية المرونة في مقابل استراتيجية القسوة. ليس الحديث هنا عن ضروب العلمانية ونماذجها، من علمانية حيادية، إلى علمانية انفصالية، ومن النموذج الأمريكي المتسامح، إلى النموذج الفرنسي المتشدد. ففي مقالته (ثقب العلمانية الأسود) والمنشورة في مجلة (الاستغراب، العدد الثاني) يتحدث موران عن نوع واحد من العلمانية، بما هي مفهوم ادعى دومًا أنه الأنجع في إدارة شؤون الدولة الاجتماعية والسياسية، ومثل ذلك التمايز في الاستراتيجيتين لمفهوم واحد للعلمانية أفضى إلى نحو بتنا فيه لا نعلم على وجه الدقة ما تشير إليه العلمانية، بل مثل هذا التمايز الموغل بالإبهام دفع موران إلى الاعتراف بأن “ثقبًا أسودًا” بات يتوطن هذه الكلمة.
وقبل الشروع في فهم الثقب الأسود، ولفهم المقصود بالتمايز الاستراتيجي، كنت قد نشرت سابقًا مقالة بعنوان (التفكير مع العلمانية لنقد العلمانية) أردت من خلالها مناقشة أهم المفاهيم التي ترتكز عليها العلمانية، لا سيما مفهوم الفصل، ومفهوم الحرية، فالحرية بحسب الخطاب العلماني مشروطة بمفهوم الفصل بين الدين والدولة كي تتحقق تلك الحرية، ومثل هذا الاشتراط مسوّغ بحجج تبدو قوية تتجاوز حرية الاعتقاد والضمير والسلوك، إلى الاستقلالية الابستيمولوجية كونها شرطًا لأي حركة إبداع أو تقدم على كافة الصعد العلمية والثقافية والسياسية، بعد تحجيم اتساع دائرة المقدس. إلى هنا يبدو الأمر مفهومًا. ولكن باسم الحرية تسمح ممارسات إلى أبعد الحدود القانونية، ولكن حينما يتم الحديث عن حجاب المرأة أو البوركيني الشرعي، يمنع ذلك باسم الفصل، لا باسم الحرية، فمثل هذا الأمر يؤخذ بمفهوم فصل الدين عن الدولة، دون أن ينظر إليه من خلال مفهوم الحرية الشخصية للمرأة، لتصبح المرأة هنا ضحية تمايز استراتيجي لمفاهيم تعد العمود الفقري للمنظومة العلمانية، لتبدو للوهلة الأولى أنها مفاهيم غير متوافقة معًا تحت الرعاية العلمانية، جراء تلك الاختلافات التكتيكية التي يتم ممارسها من قبل منظريها.
وعودة إلى الثقب الأسود الذي يتحدث عنه موران، والذي جعل من الصعوبة بمكان فهم المقصود بالعلمانية، إلا أنه يأخذ بالمعنى الشائع والأعم لهذه الكلمة، والتي تعني “العقلانية النقدية التي تتعارض مع العقائد، إنها التعدد الذي يتعارض مع احتكار الحقيقة”، ففي نشأتها التاريخية برزت العلمانية ككيان مناهض لاحتكار الكنيسة للاهوت والاجتماع والسياسة، فكانت العلمانية ردة فعل تصارع هذه المركزية، وتطالب بالتعددية والتسامح الديني.
ولكن تموضوعات العلمانية الراديكالية اليوم، تكشف انحيازها لمفاهيم على حساب مفاهيم أخرى؛ أي لمفهوم الفصل على حساب مفهوم الحرية والتعددية، وكأنها تستمد طاقتها من “دين غامض كانت تتضمنه”؛ إنه الثالوث المقدس للعلمانية: (العقل، العلم، التقدم) وفي هذا الدين العلماني الجديد، الـ(الكاثو – لائكي) كان العقل والعلم يسهمان مع بعضهما في محاربة الأخطاء والخرافات، محرزين التقدم المنشود، ومثل هذا الثالوث الأيديولوجي للعلمانية كان مقدسًا باسم العقلنة، والمفارقة هنا التي يكشف عنها موران، أنه كما استطاعت الماركسية اخفاء الأسطورة الدينية في الخلاص بذريعة العلمانية المادية، ومتسترة بالعقلانية الراديكالية – الجذرية، فإن العلمانية، أو الـ (الكاثو – لائكية) استترت أيضًا بثالوثها (العقل، العلم، التقدم).
كان هذا الحال ونشأة العلمانية التاريخية في بادئ الأمر، ولكن ما هي تموضوعات العلمانية في القرن العشرين إلى اليوم؟ وبصيغة أكثر دقة، ما الذي فعله ثالوث العلمانية بالعالم الغربي؟ تكفي الإشارة هنا إلى حربين عالميتين، وبروز الوحش الرأسمالي، وتطور العلم التقني الذي تشوبه مصالح سياسية وعسكرية، وغيرها من أمور كانت ثمار هذا الزواج المسخ بين العلم والسياسة، حيث توصل العقل البشري إلى اختراع أسلحة أكثر فتكًا بالإنسان والطبيعة على حد سواء، كانت هيروشيما وناكازاكي أول صدمة جعلت البشرية تتيقن أن فكرة التقدم نفسها تعيش أزمة حقيقية، فلم يعد الدين هو عدو العلمانية، بل باتت هي نفسها تحمل عداءً داخليًا في بنيتها الذاتية الدينية (الكاثو – لائكية). فكيف استحالت نداءات عصر الأنوار من حداثة وحرية وتعددية وتقدم وسلام، إلى سباق نحو التسلح والهيمنة والموت بالجملة، فضلًا عن التسارع نحو تدمير الكوكب الذي نعيش عليه، في سيناريو منحرف لتورط العقل والعلم في هذه الكارثة العبثية لعصر فرض علينا تسميته بعصر ما بعد الحداثة. حيث بات شائعًا الحديث عن قصور العقل وازدواجيته، وأية ذلك الهجوم الذي قام به فلاسفة مدرسة فرانكفورت على العقل والعقلانية، الذين أثبتوا بتحليلاتهم الخاصة، كيف لنتائج العلم أن تكون مدمرة، وأن العلم ممكن أن يقدّم تطورات مزدوجة وخطيرة.
وبعد انتهاء سنوات الصراع الإمبريالي بين المعسكرين الشرقي والغربي، أي في عام 1989 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكك الماركسية اللينينية، وأزمة النموذج اللينيني الستاليني للمجتمع، تجدّد الإيمان العلماني بذاته، واعتقدت أنها جاهزة لدحر العدو الطائفي المتمثل بالإسلام، ولكنها لم تعلم أن الإسلام ليس دينًا كاثوليكيًا كالذي اعتادت على مكافحته، فهو ليس مركزيًا ولا كنسيًا، وبعبارة موران “إنه ليس هجومي على الإطلاق، ليس هو من يفرض النقاب، بل أحد مذاهبه الذي يشكل أقلية صغيرة جدًا، وهكذا وجد المعسكر العلماني نفسه منقسمًا بين متصلّب وليّن”. ومثل هذا الانقسام خلق استقطابًا داخل العلمانية ذاتها، انسحب ليشكل خللاً بين مفاهيمها الأكثر محورية، كمشكل هوية الدولة، والتعددية، والتعايش الثقافي، واندماج المهاجرين، وغيرها من اشكالات تنبؤ بثقب أسود يتسع شيئًا فشيئًا داخل البنية المفهومية للعلمانية.
ولكن هل يعني هذا الثقب أن العلمانية ماتت؟ هل يجب أن تموت للانتقال إلى أمر آخر؟ أم يجب تحديث العلمانية؟ الإجابة: “يجب ألا نتخلى عن العلمانية”. بهذه العبارة يكافح موران بغية إنعاش العلمانية وتأصيلها لا تحديثها، بل تعبئتها في مواجهة التوحش والأوثان الجديدة، فإنعاش العلمانية ضرورة؛ لأنها فضاء عام للتعددية والتسامح، إنها فكرة أكثر جوهرية ممّا تعبر عنه أحزابها التي خلقت اشكالات وانحرافات أودت إلى خلق ثقب أسود بداخلها.
فلا يجب نعي العلمانية، لأنها الحاملة لفكرة انهاء التصور القديم عن العالم في العصر الوسيط، والذي كان يحتكره الدين آنذاك. إنها المنظومة التي لا تحدد نفسها بهذه الحقيقة أو تلك العقيدة، “بل بعلاقة متناقضة ومكمّلة وفاعلة للأفكار والحقائق المتعارضة”، إنها التساؤل الدائم والحوارية المتجددة، ومثل هذه الفكرة، فيما يرى موران، هي ما أنتجت الثقافة الأوروبية اليوم.
وبالتالي تعبئة العلمانية تعني جعلها قادرة على محاورة الأفكار الجديدة، ومواجهة التوحش والظلاميات التي نتجت عن انحراف فكرة التقدم، ومن أبرز تجليات هذا الانحراف “العلم التقني”، وما يترتب عليه من “تجزئة الوجودات وتجزيء الأفراد”، وانحلال بيئي وأخلاقي، كل ذلك وأكثر من إشارات لأزمة حقيقية داخل فكرة التقدم كواحدة من ثالوث العلمانية، إنها إشارات دالة على خطأ ما في المنظومة الاخلاقية، إنها حالة توحش في حضارتنا، “وحالة من الظلامية في عقولنا التي تعتقد نفسها عقلانية”.
إنّ أول خطوة في المسار الصحيح، هو أن يعترف العالم العلماني أن عدوه الجديد يأتي من الداخل، فلا يكفي الحديث العاطفي عن أهمية العلم، ودور العقل، وضرورة التقدم، بل يجب أن تعمل العلمانية على محاكمة ذاتية لهذه المفاهيم، يجب اخضاعها لمساءلة نقدية، وعلى رأسها الإشكالات التي تطرحها تطورات العلم التقني، تلكم الإشكالات الحيوية لكل فرد، وليس للنخبة المتخصصة فقط، “بدءًا بالسلاح النووي الحراري، وصولاً إلى التلاعبات الجينية، بانتظار التلاعبات الدماغية”، دون أن تبقى تلك المناقشات بيد الخبراء الذين يقومون بدور الوسيط بين المعرفة والفرد، فيما تنقل فقط نتائج مناقشاتهم إلى الناس، وكأنهم أوصياء على المعرفة، الأمر الذي يحيل الأفراد إلى الجهل.
إنّ دور العلمانية يجب أن يقوم على تشجيع “الديمقراطية الإدراكية” لا سيما في عصر انتهاء الفكر الشمولي، ذلك الفكر الذي فرض على الكثير في مرحلة ما أن ينهكوا أنفسهم في إفهام الذات ما ثبت أخيرًا أنه مجرّد “عمى”، في إشارة من موران إلى انتهاء عصر الفكر الشمولي، أو ما يسمى بموت السرديات الكبرى التي كانت تسعى لتفسير العالم على نحو شمولي، وبروز عصر نسبية الحقيقة والقيم.
وبالتالي فالديمقراطية الإدراكية تعني الكشف عن مواطن الأخطاء الناجمة عن التطورات التقنية العلمية البيروقراطية، إنها دعوة ديمقراطية تنزع نحو عدم احتكار المعرفة بحيث تكون المناقشات حول القضايا الجوهرية حكرًا على الخبراء، وبالتالي فمثل هذه الديمقراطية الإدراكية، فيما يرى موران، تعمل على حجب الثقب الأسود للعلمانية، ويجعلها تستعيد عافيتها بوصفها المنظومة التي تدعي القدرة على اجتراح إدارة شؤون المجتمع والدولة معًا.
(المصدر: مدونات الجزيرة)