بقلم الشيخ د. نادر العمراني
العبرة في دخول الشهر وخروجه بالرؤية، فمتى رأينا الهلال حكمنا بدخوله بغض النظر عن حجمه وظهوره وخفائه. فإذا تمَّ تحري الهلال يوم الخميس (ليلة الجمعة) وهو التاسع والعشرين من جمادى الآخرة ولم نره أتممنا الشهر ثلاثين، ولم نحكم بدخول شهر رجب. وإذا ظهر كبيراً الليلة التي تليه لم يكن ذلك دليلاً على خطأ ما حكمنا به الليلة التي قبله.
وقد حصل مثلُ هذا في زمن الصحابي الجليل عبد الله عباس رضي الله عنهما، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي الْبَخْتري سعيد بن فيروز قال: “خرجنا للعمرة، فلمَّا نزلنا ببطن نخلةٍ، قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث. وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس، فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين؟ فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال: فقلنا ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله مدَّه للرؤية، فهو لليلة رأيتموه”. وفي رواية: فقال ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد أمدَّه لرؤيته، فإن أغمى عليكم فأكملوا العدة”.
ففي هذه القصة اختلف أصحاب أبي البختري في الهلال هل كان لليلتين أم ثلاث، وما ذلك إلاَّ لأنَّه كبير ظاهر، فلمَّا سألوا ابن عباس رضي الله عنهما بيَّن لهم أنه لا عبرة بحجم الهلال، وإنَّما الحكم منوط بأول ظهوره بغض النظر عن حجمه، وأنَّ الله سبحانه قد يمد زمن مكوث الهلال في الأفق حتى يكون ظاهراً جلياً.
قال ابن الجوزي في كشف مشكل الصحيح: “معنى الحديث: لا تنظروا إلى كبر الهلال وصغره، فإنَّ تعليق الحكم على رؤيته، فإن أغمي يعني ليلة رمضان فأكلموا العدة أي عدة شعبان”.
وقال الملا علي قاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: “والمعنى: رمضان حاصل لأجل رؤية الهلال في تلك الليلة، ولا عبرة بكبره، بل ورد أنَّ انتفاخ الأهلة من علامات الساعة”.
والتفسير العلمي لهذا: أنَّ للقمر أطواراً، تبدأ بالمحاق وهي اللحظة التي يلتقي فيها القمر والشمس والأرض على استقامة واحدة، وتسمى بالاقتران، أو الولادة الفلكية للشهر، ولا يمكن رؤية القمر في هذا الطور؛ لصغر حجمه وقربه من الشمس وعدم قدرته على عكس أي من أشعة الشمس على الأرض.
ثم يكون هلالاً، وهي اللحظة التي يبتعد فيها القمر قليلاً عن الأرض بحيث يتمكن من عكس بعض أشعة الشمس عليها ويمكن حينها رؤيته. وهي الولادة الشرعية للشهر؛ إذ أنيط الصيام والإفطار برؤية الهلال وليس بولادته.
وعلماء الفلك متفقون في تحديد لحظة الاقتران، وهي لحظة واحدة في أي موقع على الأرض. أمَّا لحظة الرؤية فهي مختلفة، ويؤثر فيها عدة عوامل، منها صفاء الجو وعدم وجود أتربة أو غبار أو سحاب، وارتفاع الهلال وبعده عن الأرض، وزمن مكثه في الأفق بعد غروب الشمس؛ إذ لا يمكن رؤية الهلال والشمس ساطعة. ويقرر علماء الفلك أنه لا يمكن الرؤية الهلال إلا بعد ولادته باثنتي عشرة ساعة على الأقل، ومنهم من يمدها إلى ثمان عشرة ساعة.