مقالات

العبادات الجماعية الموسمية وأثرها في أخلاق المسلم

بقلم إدريس أبيدمي أحمد

شهدت الأمة الإسلامية خلال الأيام القليلة الماضية موسم الحج المبارك، وهو الموسم الذي أعقب شهر رمضان الفضيل، وكلاهما – وهما من فرائض الإسلام العينية – يشتركان في أوصاف متجانسة، فإنهما يجمعان شتات الأمة، حيث يصوم الأمة قاطبة في شهر واحد، ويفطرون في وقت واحد، وأوضح من ذلك في موسم الحج حين يشارك المسلمون في مختلف بقاع العالم مشاعر واحدة، والقلوب جميعا متلهفة للتقرب إلى الله تعالى، يستوي فيه الحاج وغيره.

ويتميز هذان الركنان كذلك أنهما يأتيان مرة في العام، ويعقبهما عيدان، عيد الفطر والأضحى، وهما يوما الفرحة والسرور على الأمة، كما أخبر الشارع، وهذه الأوصاف المذكورة قلما تتوفر في أي ركن آخر سواهما، بل سائر أعمال العبادات يفضل الإكثار منها في هذين الموسمين لما يرجى منها من الثواب العظيم والأجر الجزيل.

حيال هذه التوطئة يحق بنا أن نقف قليلا نستحضر بعض معان أخلاقية من هذه الفروض الموسمية الجماعية، حين نقرأ قوله سبحانه وتعالى في معرض صيام فريضة رمضان، يقول المولى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) /البقرة: 183/، إشارة إلى الهدف من الصيام وهو زيادة التقوى، ثم تأتي بعدها عدة آيات تفصل الأحكام العملية للصيام، وإبان هذه الآيات كلها يأتي قوله (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) /البقرة: 188/، نتيجة عملية للتقوى وهو اجتناب أكل مال الحرام والتواطئ على ذلك بمعونة صاحب السلطة.

وفي آيات الحج استفتح القرآن الكريم الأمر بالحج بقوله تعالى:  (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) /البقرة: 196/، يشير إلى الغاية من أداء مناسك الحج وهي التقوى، ثم بين تفاصيل أعمال الحج ومدته في آيات متعاقبة، وبعدها أتى قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) /البقرة: 204 – 207/، صنف المولى سبحانه الناس صنفين، أحدهما المنقلب من حالة الإيمان والتقوى إلى حالة النفاق، والصنف الآخر وهو الذي تمحض فعله للخير، مستقيم عليه لا ينفك عنه أبدا.

ويمثل هذان المثالان رؤية الإسلام الأخلاقية، فإن الشرع لا يفرق بين علاقة العبد بربه، وبين معاملته مع الناس، وإنما يتكاملان، فالإسلام دين تكاملي لا يركز على الحياة الروحية بعيدة عن الحياة المادية، كما أنه لا يؤثر الجانب المادي الخارجي على الجانب الديني الإيماني، وإنما وفق بينهما، وجعل أحدهما نتيجة الآخر، وهذا حقيقة التشريع الإلهي، وأوجب الشرع الحنيف على الفرد المسلم أن يؤدي الحقوق إلى مستحقيها.

ولم تظهر المشكلة في الفرد المسلم أو المجتمع الإسلامي إلا حين تم الانفصال بين هذين العنصرين، – طبعا بنسب متفاوتة -، حين أهملت الحقوق، وتعطلت الذمم، وأعدمت الإنسانية، واختلط الحابل بالنابل، ولنا في رسول الله مثل يحتذى به حين قال: “إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”.

نتأمل هاتين الفريضتين؛ الصيام والحج في ضوء الرؤية التكاملية للمنظوم الأخلاقي في القرآن الكريم، نرى أن القصد من الصيام والحج التقوى، والتقوى خصلة من خصائل القلب لا يظهر في العلن إلا عند القيام بما أمر الله واجتناب ما نهى عنه، لذلك نرى العلماء يعرفون التقوى في الغالب بمقتضاها يقولون: التقوى هي طاعة ما أمر الله واجتناب منهياته!

ولعل الأفضل أن نعرف التقوى بحقيقتها وهي الخوف من الله والرغبة فيما عنده، والخشية له سبحانه، والتعظيم لحرماته، والمحبة الصادقة له سبحانه ولرسوله. هذا التعريف – وهو اختيار ابن باز رحمه الله – يحدد معنى التقوى بالدقة أكثر كعامل أساسي للإيمان، ودليله على الخيرات، لأن القرآن الكريم بأسلوبه البليغ لم يقتصر معنى التقوى على الجانب الوجداني فقط، إنما راعى الأفعال والأخلاق التي تتبع التقوى والإيمان وتدل عليهما.

ففي آيات الصيام نرى القرآن ذكر بعد التقوى للدلالة على النهي عن أكل مال الحرام، والتسلط على الضعفة، وما يدخل في هذا المعنى على مستوى المجتمع، كالفساد المالي والإداري، والاستبداد، والغصب، وأكل مال اليتيم، وسرقة مال الدولة ونحو ذلك مما تستشري مفاسده، فإن القرآن ينهى عنه.

وفي آيات الحج يصنف القرآن الناس على ضوء ما جاء به الشرع، بين المنقاد لأمر الله، القائم على حدود الله، وهو الذي يشري نفسه، والصنف الآخر المنقلب على عقبيه، والواقع في حدود الله. فالأول مسلم بنفسه وذاته لله، ويسالم من حوله من بني البشر، والآخر منافق متلون بلسانه، وقلبه تعفن بالبغض والكره والأنانية والشر، وحال المسلم كريم في نفسه، يعرف حقوق الله عليه، ويعرف ما عليه من حقوق الآخرين، فلا يؤذي بلسانه ويده، وهذا عين التقوى، وهو الصالح المصلح، يقول الله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) /الاعراف: 170/.

أما المنافق فهو مفسد ظالم أثيم، وصفه القرآن بأخبث الأوصاف (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وهذا يعم المسلمين وغيرهم ممن لم ينتفع بنسكه، سيرته بين الناس الفساد والإفساد، وقد عبر بقوله (سعى) ليشمل جميع حركاته وسكناته من أجل الإفساد، وسفك الدماء وقطع الأرحام من أكبر الإفساد لأنه يناقض الغاية الكبرى من الخلق وهي عمارة الأرض.

يظهر لنا مما تقدم وجود رابط قوي بين الإيمان القلبي المتمثل في التقوى، وأخلاق المسلم بينه وبين بني البشر التي تمثل ثمرة إيمانه الحقيقي، ويرد هذا دعوى التفرقة بين هذين العنصرين، لأنها تحدث فجوة دينية في الفرد والمجتمع، وبالتالي يكون سببا لتدهور نسبة التدين في المجتمع، ونفقد حينها حقيقة التقوى التي هي غاية العبادات والطاعات، وبالتالي نفقد على وجه الأرض العدل والرحمة والخير لان الإسلام عدل كله، رحمة كله، حكمة كله، مصلحة كله؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة.

المصدر: اسلام أون لاين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى