بقلم عمرو بسيوني – مدونات الجزيرة
استعرضنا في المقالات السابقة كثيرًا من التاريخ التحليلي حول علاقة العالم والسلطان، كي نكون على وعي، ولو بدرجة ما؛ بتطور هذه العلاقة، وتأثير الزمن والظروف فيها. ووصلنا ها هنا إلى تقديم وجهة نظرنا الشرعية التاريخية لذلك الموضوع.
لا نقدم ها هنا رأيًا كاملًا بطبيعة الحال، ولا هو في اعتقادنا اجتهاد قطعي الصحة، ولا حتى مظنونها ظنًّا راجحًا في جميع موارده؛ فإن هذا أمر لا يطيقه أي أحد، وبخاصة في المسائل عديدة الأطراف بشدة من جهة، والمسائل السائلة الخاضعة لكثير من المعطيات غير المضمونة من جهة أخرى، والتي تدخلها اجتهادات وظنون ومتغيرات كثيرة، ثم إن كثيرًا منها يرجع إلى القصود والنيات، وإنما ما ننظر إليه هو الظواهر والحكم الشرعي والواقعي عليها.
ولكن نفس هذه السيولة، وعدم ضمان المعطيات؛ قد كان من عوامل صياغة هذه الرؤية التي أطمئن إليها. والتي قد أفضّل أن أعبر عنها بأنها نزعة، وموقف، أكثر منه رأيًا.
وليكون كلامنا واضحًا، فلسنا نعالج هاهنا إلا نقطة محددة: علاقة العالم بالحاكم أو الحكومة الظالمة، بمعنى أنها قائمة على المظالم لا تستهدف الصلاح بالمعنى الديني أو الدنيوي أو كلاهما. ولسنا نبحث في عموم الموقف من الاشتغال بالسياسة، أو التعامل – بالأحرى – مع الحاكم العدل الذي يبتغي الإصلاح الديني والدنيوي.
(2)
سبق أن استعرضنا كيف تطور الموقف العام – على الأقل – لعلماء أهل السنة من الحكام الجورة، وهو الوضع المخيم على عموم التاريخ السياسي الإسلامي، من الانعزال عن الحكام، ولو نسبيًّا، في الحقبة الأولى، إلى الانفتاح النسبي عليهم تغليبًا للمصالح الشرعية والدنيوية. ورصدنا كذلك الاختلاف النوعي الكبير الذي طرأ على الأمة وتصوراتها الشرعية للواقع الجديد عقب الاستعمار وما بعده.
وبصورة مبدئية: نعتقد أنه لا ينبغي للعالم أن يقترب من السلطة الظالمة باختياره. وأنه لو وقع في دائرتها رغمًا عنه فإنه ينبغي أن ينأى بنفسه عنها، ويهرب منها، مع وجوب أن يصدع بالحق في تلك الحالة مع القدرة وعدم الضرر، وإلا لوجب أن ينفذ ما يقدر عليه من مصلحة، ويحرم عليه في كل حال أن يزين باطلًا أو يسوغه أو يحسّن من ظلم أو ظالم ويثني عليه.
نعم، نحن نقرّ تمامًا بأن الواقع ليس بسيطًا كما كان في الحقبة الأولى التي فضّل فيها كثير من العلماء الانعزال التام. ولكننا نعي أيضًا، وبوضوح، أن ذلك الواقع ليس كما كان في مرحلة التعاطي التي اختارها العلماء لاحقًا. بل هو واقع أكثر اشتباكًا وإشكالًا بكثير من ذلك الواقع السابق. وهذا الاشتباك والإشكال نفسه سيقلل من مضار ومفاسد التجافي عن السلطة الظالمة ولو بذريعة الاستصلاح، كما سأذكر لاحقًا.
(3)
الكثرة الكاثرة من الحيد والانحراف التي نطالعها باستمرار ممن اقترب من السلطات الجائرة؛ يجعل من تلك الذريعة ذريعةً واضحة وقريبة التحقق، وليست مجرد توهمات أو وساوس أو مبالغات.
ونحن ننطلق من كون إرادة العالم صالحةً، ولم يدخله الهوى (الصريح) في استبدال الباطل بالحق، وإلا فإن هذا يكون كفرًا. ولكن نشير إلى أن مسارب الهوى الخفية تفضي بالعالم غالبًا، مع هذا الواقع المعقد السائل: إلى أن يزيغ وينحرف.
أتطرق هاهنا إلى ملاحظة دقيقة ومهمة جدًّا، تتضاءل أمامها المصلحة التي قد ينظر إليها العالم الداخل على السلطان الجائر لمناصحته، أو أن يستهدف بالقرب منه استصلاحه.
وهي أن تَبْيِئَة العالم في المجال السلطاني تضع عليه أثقالًا من الضغط النفسي، والتوهمات المصلحية. وهذه الملاحظة متعلقة بالإشارات التي أدلى بها بعض السلف في فلسفة المنع من تغير نفس الناصح لما قد يجده من إكرام أو هيبة. ولكن تلك الملاحظة هاهنا أدق، وهي أن العالم لا شعوريًّا ينتقل من صف المحامي عن الشريعة، والحكم (القاضي) على الحاكم، إلى صف شريك الحاكم، أو صديقه، والناظر معه في الأمور. من صف: (افعل)، إلى صف (تعال نفكر معًا كيف نفعل). والحقيقة إن هذا الثاني – ببساطة – ليس دور العالم.
ومن المهم هنا أن نقول إنه ينبغي أن يُعلَم أن عالم السلطان ليس بالضرورة شخصًا منافقًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا يسير، يأتي الحرام ويحرف الدين عالما متعمدا. بل إن من علماء السلاطين من يسارع في هوى الحاكم المخالف للشريعة؛ لخور عزيمة العالم، وقلة بصيرته، وضعف سياسته وعجزه، فيستنزفه الحاكم لحساب هواه، ويستحلب منه الدين الذي يوافق مبتغاه (ويعمل له البحر طحينة)، كما يقول المصريون بلسانهم المدهش. وذلك نفسه من معنى الفتنة التي لأجلها ورد النهي عن الدخول على السلاطين، لا مجرد الرشوة والخيانة.
(4)
إن أعظم مشكلات التعامل مع الظلمة في نفس إطار ظلمهم أنه يبدأ بمنطق تقليل الشر الراهن، وينتهي بمنطق تقليل كل شر مستقبل ومتوقع، بحيث تستمر دالّة الشر في ازدياد، ومستوى التقليل أصغر مما بدأ، وتستمر الخطوط البيانية لكثرة الشر في اطراد مميت، يضيع معه أصل مسوغ الاجتهاد الأول.
نعم؛ قد يفترق حكم هذين النوعين من (علماء السلطان) الأخروي، وبعض الأحكام الدنيوية المتعلقة بالإعذار، لكن تبقى الصورة واحدة، والاسم واحدًا، مادام قد قال بالباطل المخالف للشريعة لأجل هوى الحاكم، ولو التبس بغيره، وبخاصة مع ما قد لاحظناه من قبل من التفريق بين الابتلاء بالدخول على الحاكم، وبين طلب ذلك البلاء، فنفس ذلك الطلب مع المفسدة المتوقعة يكون ذنبًا في كثير من الأحيان، ولو لم يكن ذنبًا؛ فإن مجرد طلبه يحمل صاحبه مسؤولية التبعات المترتبة عليه، بخلاف من حصل له دون طلب.
لقد تناول ابن تيمية أن تعرض الإنسان لما لا يجب عليه، أو لا يقدر عليه من الفتن: ذنب. قال: «التعرض للفتن: بالإيجاب والتحريم بالعهود والنذور، وطلب الولاية، وتمني لقاء العدو ونحو ذلك = هو من الذنوب». وقال: «وسواء كان مراده بها محرما، أو مباحا، أو مستحبا. وإرادته بها المحرم زيادة ذنب. وإن أراد بها المستحب فقد فعل ما لم يؤمر به، وهذا مما يذم عليه. والتعرض للفتنة هو من باب الذنوب فالمؤمن الصادق لا يفعل».
(5)
ومن هذا الباب ما رأيناه من تجارب واقعية حديثة. فوجدنا بعض السلفيين في مصر – حزب النور – قد دخلوا في طاعة حاكم ظالم، وانخرطوا في نظامه السياسي، مع التأييد والدعم والمساندة، متذرعين بالمصلحة الشرعية، حتى خرجوا من اجتهاد تقليل الشر، وهو خطأ من بابه؛ إلى تقليل كل شر، والمشاركة فيه، وتسويغه، أو الاعتذار له.
وحاولوا في ذلك السياق أن يحتجوا بأنه مادام الخروج على الحاكم بقتال غير متكافئ متعذرًا وفيه مفاسد عظيمة؛ فإن بديل ذلك هو السير في ركابه. فانظر إلى هذا التسويغ بالهوى للنفس في مداراة عجزها وخورها في العلم والعمل.
فإن المخادعة الضحلة التي يراد إمرارها دائما أن الموقف ثنائي بسيط: إما المقاتلة، أو المداهنة والتماهي مع المجرمين. وكما ذكرت ونقلت من قبل في مقالات سابقة؛ فإن للسلف الأولين في التعامل مع الحكام الجورة – فيما وراء القتال بالسيف – طريقتين:
إما الصدع بالحق، والإنكار العلني، والمجاهرة بذلك، وتحمل الضيق والمحنة، كما كانت طريقة سفيان الثوري، وغيره.
وإما إنكار المنكر بحسب ما يؤدي الكفاية، مع اعتزالِ الشأن العام، وعدم الدخولِ على الظالمين، كطريقة أحمد، أو مع الدخول عليهم لقول الحق، كطريقة مالك وغيره.
ثم تعامل العلماء في مرحلة لاحقة مع الحكام الظالمين لإنفاذ المصالح الشرعية والدنيوية، مع تعقد الظروف واستباحة بلاد الإسلام بالغزو وكثرة الاضطرابات، بحيث رأى العلماء أن انسحابهم عن مواقع السلطة سيفضي إلى مفاسد وجودية تتعلق بالإسلام نفسه.
ولكن: لم يختلف جميع العلماء، في الحقبتين: أن ذلك التعاطي لإنفاذ المصالح الشرعية، لا يعني، ولا يجوز معه: معاونتهم، أو الإشارة عليهم، أو مجاملتهم، أو تحسين الكلام في وصف حالهم وجرائمهم.
فتلك الطريقة الثالثة: طريقة محدثة، ليس لها قدم صدق في الأولين، وهي فقه سلطاني، دخل فيه النقص والفساد، كما دخل في سائر مظاهر الحياة الإسلامية.
(6)
وهذا ابن تيمية الذي يستدل به دائمًا في هذا المجال، باعتباره لا يرى المنع المطلق من الدخول على السلاطين، وإن كان هذا ليس بذلك التسطيح، ولذلك خصصنا مقالًا في تحرير موقفه من تلك القضية؛ أقول: ومع ذلك فقد كان ابن تيمية من أعظم الناس مباينة للظالمين، وإنكارا للمنكر، بيده في كثير من الأحيان وليس فقط باللسان، ورفضا للدخول في معاونتهم، بله مجرد أكل طعامهم!، فكيف بالتودد، والمباسمة، والتقبيل والأحضان، وترقيق الكلام بالباطل، بل والثناء والتفضيل على المظلومين، من غير نكير ولا تقريع ولا براءة منهم ومن جرائمهم، ومنابذتهم على سواء.
ولذلك يقول ابن تيمية إنه في حالة الابتلاء بالفجار أو الكفار، مع العجز، الذي لم يصل إلى حد الإكراه: فإن المؤمن لو سكت؛ لم يجز أن يتكلم بالباطل. فيفرق تفريقًا واضحًا بين عدم القدرة على الجهاد أو قول الحق (للعجز)، وبين مداهنة الفجار أو الكفار وقول الباطل، وأن العاجز دائر بين الإنكار باللسان، أو الكتمان، لا قول الباطل، إلا بالإكراه المعتبر شرعًا، لا المداهنة والمصانعة، وتوهم المصلحة المعارضة للشرع.
يقول: «المؤمن إذا كان بين الكفار والفجار = لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن فرعون – وامرأة فرعون – وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه. وكتمان الدين شيء، وإظهار الدين الباطل شيء آخر. فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر. والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره».
(7)
وهؤلاء الذين أثنوا على الظالم، وزينوا حكمه للناس، واعتذروا له، وسوغوا أفعاله: شركاء معه في ظلمه وفساده. شركاء معه حتى من الناحية الجنائية، حتى ألزمهم الفقهاء الضمان! فيما يتلف من دماء وأموال إن زكَّوْا فاسدًا، أو من لا يعلمون صلاحه.
وأنقل نصا واحدا – آخر – في ذلك عن شيخ الإسلام نفسه، في الكلام عن الثناء على الظالم أو الفاجر أو العاجز ليتولى ويتأمر، وأنه يضمن بذلك – ما لم يعتقد صلاحه، فيكون معذورا -، يقول: «لو أراد الإمام أن يولي قاضيا أو واليا لا يعرفه، فسأل عنه، فزكاه أقوام، ووصفوه بما يصلح معه للولاية، ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم؛ فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي، وكذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته. لكن الذي لا ريب في ضمانه: من تُعْهَدُ المعصية منه، مثل الخيانة، أو العجز، ويخْبِرُ عنه بخلاف ذلك، أو يأمر بولايته، أو يكون لا يعلم ويزكيه، أو يشير له».
وهذا الذي ذكرته عن حزب النور السلفي ليس إلا مثالًا، ينطبق على غيرهم من السلفيين في البلاد الأخرى، وكذا العلماء الرسميين من الاتجاه الأشعري في بلادهم، وجميع من يفعل الأفعال نفسها تجاه الحاكم الظالم.
باختصار: ليس هناك فرق بين عالم سلطان أشعري أو سلفي إلا عند المتعصبين المؤدلجين. فقط أحدهما بعمامة والآخر بغترة. أحدهما يمثل عند أشياعه الدين الأشعري، والآخر يمثل الدين السلفي، ولكن ليس لهذين النظامين أثر في طريقته السلطانية، فليست الأشعرية ولا السلفية، ولا المعتزلية، ولا الإباضية، ولا الإمامية، ولا أي آخر نظام يتوخى الوحي والحق: يمكن أن يكون دينًا سلطانيّا.
(8)
قد يقال هنا إن كثيرًا من العلماء الفاسدين، أو الجاهلين المتعصبين، قد يرون الحاكم الظالم المجرم حاكمًا عدلا، ولذلك يشايعونه ويعاونونه.
وهذا لا إخاله يحدث لعالم صحيح العلم صحيح الإرادة، بل إما أن يكون جاهلًا، أو فاسدًا غاشًّا منافقا، أو ضعيف الإيمان عاجزًا جبانًا.
أما من انتفع بالوحي، ولو في أقل درجات انتفاعه؛ فإنه لا يشتبه عليه المفسد فسادًا عامًّا بيِّنًا بالمصلح. فإن هذا أمر يدركه أغلب الناس بوجدانهم الأخلاقي، ممن لم تتلوث فطرهم، ولا داخلهم هوى، ولا تلبيس، فكيف بمن هو من أهل العلم والرأي.
ولذلك كان عدم التعرض لهذه الفتنة، أولى وآكد؛ لأن الواقع يعلمنا أن كثيرًا من عوام العلماء هم كليلو البصر ضعيفو السياسة خوافون، يمكن استضعافهم والتلاعب بهم، ثم يتلبس ذلك بالمنفعة والهوى، فإن الباطل يندر أن يكون محضًا خالصًا.
أما الحاكم الصالح المصلح، ولو لم يقدر على إنفاذ جميع ما يريد من الخير، ولو لم يقدر على إنفاذ بعض الخير إلا بوجود مفاسد معه؛ فهذا يندب أن يحاول العلماء مساعدته، وإرشاده، وألا يداهنوه أيضًا في بيان الحق ووجوب العمل به بشرط العلم والقدرة.
(9)
قد يقال إن هذه النزعة وهذا الموقف من عدم التعاطي مع الحكومات الظالمة هو نوع من الانسحاب الذي يقلل من مصالح وجود العلماء، ولو في تقليل المفاسد.
فنقول: الانسحاب إن كان موقفًا شرعيًّا سائغًا له مستنده؛ فليس هذا بعار ولا هو ممنوعًا. فليس الانسحاب قيمة سلبية بإطلاق، كما أن الانخراط ليس بقيمة إيجابية بإطلاق، فإن هذا يكون في بعض الأيديولوجيات الوضعانية التي تقدس تصرفات لذاتها، أما المنظورات الأخلاقية فهي تدور على التصرفات سلبًا وإيجابًا بحسب مواءماتها الأخلاقية.
ثم إن هذا الوصف – الانسحاب – ليس بمسلَّم. فإن عادة بعض المؤدلجين أن يحصر مخالفه في خيارات؛ إن لم يختر بينها: رماه بكل نقيصة. فنحن نقول إن طبيعة العصر الجديد الذي نعيش فيه؛ يعطي العلماء والمصلحين من مجالات الاختيار والتأثير والنفوذ الإصلاحي ما لم يكن متاحًا لكثير من العلماء في الحقبة التي اختاروا فيها التعاطي مع السلطات الظالمة، فضلًا عن طبيعة واقعهم المختلف من الجهة الإسلامية عما نراه الآن من مفاسد ملموسة لانخراط العلماء في سياق الحكومات الظالمة.
هناك العديد من الدوائر الوسيطة، وجماعات الضغط، وآليات المجال العام – والتي منها المجال السياسي بالمناسبة – التي يمكن للعالم أن يؤثر فيها وينتج إصلاحًا، يناهض فساد السلطة، أو يقلل منه، قدر الإمكان والطاقة. وليس الانخراط الإصلاحي الوحيد هو السلوك في إطار السلطة الظالمة؛ كي يكون الانعزال عن ذلك انعزالًا عن الإصلاح بالعموم. لقد تناولت ملمحًا من ذلك في مقال سابق بعنوان: الداعية والسياسي.
ثم الأمر الآخر المهم: أنه مهما كان موقفنا وجيهًا وواضحًا؛ فلن يعدم الواقع مَنْ ينخرط مع الحكام الظلمة من العلماء، سواء بقصد حسن واجتهاد مغاير، أو بغير ذلك من مقاصد. ولذلك أقول دائما إن الحكم المثالي ليس إلا حكمًا أخلاقيا شرعيا، وليس حكما كونيًا، ومن ثمة فلا مخافة منه على حصول شيء من المصالح نتيجة التسرب الواقع، الذي قد يكون هو الأصل والغالب!
ولذلك فنحن لا نحكم على من يخالف موقفنا أنه مخطئ ولا بد أو آثم حتمًا. ولكن نقول إنه استشرف ما قد يكون لا طاقة له به، والنادر لا حكم له. ولكنه إن ابتلي بذلك، قصدًا أو من غير قصد: فإنه يجب عليه ما ذكرناه من قبل، من الصدع بالحق، أو الإصلاح قدر الطاقة، وعدم المداهنة والتزيين. كما قال ابن مفلح أن الأصلح «أن يعتزل عنهم فلا يراهم ولا يرونه. والسلامة في ذلك. ثم ينبغي أن يعتقد بغضهم على ظلمهم فلا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ويتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوته بسبب مفارقتهم».
هذا هو المحكم، فهل سيطيقون ذلك؟
هذا القدر المحكم الأخير، هو الذي لا يسوغ فيه الخلاف عندنا. أما موقفنا نفسه فيسوغ فيه الخلاف، وإن كنا نرى الصواب فيه والخطأ مع مخالفه، ولكنه يبقى اجتهاديّا يتصور في صاحبه الإثابة على نيته وعمله. بل حتى غير السائغ نحن لا نمنع إمكان المعذورية فيه، بشروط أخرى، وموازنات.
(10)
ومن أجل بيان تلك المساحات من الخلاف السائغ وغير السائغ، ودخول العذر في السائغ منه غالبًا، وفي غير السائغ أحيانًا: نعرض نموذجًا مهما في الحلقة القادمة والأخيرة عن التعامل مع الحاكم الظالم، للمساعدة في تفهم الخلاف والإعذار، فنقدم نموذجًا للتفريق بين عالم الدولة وعالم السلطان، وبخاصة في تلك الظروف المعاصرة المشتبهة الملتبسة.