مقالاتمقالات مختارة

العالمات الجزائريات!

العالمات الجزائريات!

بقلم حسن خليفة

في 9 من جمادى الثانية 1357 الموافق لـ6 أوت 1938 كتب الشيخ عبد الحميد بن باديس رسالة خطّية إلى السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الأدب في دمشق، وقد علم عن هذه الجمعية أنشطتها ممّا نشرته مجلة “الرابطة العربية” آنئذ.

وجاء في نص رسالة الإمام ابن باديس ما يلي (حرفيا*).

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله.

قسنطينة 9 جمادى1357هـ/ 6 أوت 1938م.

حضرة السيدة الجليلة رئيسة جمعية دوحة الأدب المحترمة.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فاسمحي لي يا سيدتي أن أتقدم إلى حضرتك بهذا الكتاب عن غير تشرّف سابق بمعرفتكم، غير ما تربطنا به الروابط العديدة المتينة التي تجمع بين القطرين الشقيقين، الشام والجزائر.

يسرّك يا سيدتي أن تعرفي أن بالجزائر نهضة أدبية، تهذيبية، تستمد حياتها من العروبة والإسلام، غايتها رفع مستوى الشعب العقلي والأخلاقي، ومن مؤسسات هذه النهضة جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، ولما علمت إدارتُها بجمعيتكم المباركة بما نشرته عنها مجلة “الرابطة العربية” رغبت أن ترسل بعض البنات ليتعلمن في مدرسة الجمعية (أي جمعية دوحة الأدب) ، فهي ترغب من حضرتكم أن تعرّفوها بالسبيل إلى ذلك.

تفضلي سيدتي بقبول تحيات الجمعية وإخلاصها.

والسلام من رئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس.

العنوان بالحرف الإفرنجي.

Ben Badis

13A, Lambert, Constantine, Algérie (انتهى نص الرسالة) .

كيف يمكن أن ننظر إلى هذا النص اليوم، وما الذي يمكن استخلاصه من هذه السطور القليلة المتوهجة بحب العلم والدين والوطن، هذه السطور التي سبقت زمنها فكرا، واستشرافا للمستقبل؟ .

أستطيع القول جازما إن هذا التصوّر الاستراتيجي لعملية التعليم المبكر، وبالأخص تعليم البنات، هو الذي أفضى إلى هذه الثمرات ممّا عليه بلدُنا اليوم من مئات الألوف من البنات المتعلمّات الدارسات في مختلف المراحل والأطوار، بل ما عليه بلدنا من آلاف مؤلفة من المتخصّصات في شتى الحقول والميادين العلمية والفكرية والدينية والثقافية. بل وأكثر من ذلك، وهذا هو لبّ هذه  السطور في هذه المقالة المختصرة، ما عليه بلادنا من آلاف مؤلفة من العالمات، بكل ما تحمله الكلمة من معنى “عالمة”؛ سواء  في علوم الدين، وميادين الفكر والثقافة، أوفي علوم الطب والبيئة وما إليها من حقول النشاط العلمي الإنساني.

أليس لدينا اليوم آلاف من النسوة الماهرات المقتدرات في التعليم، بكل مراحله وأطواره، والطب والصيدلة والهندسة؟ أليس لدينا آلاف منهن متفوّقات ماهرات في مجالات عملهن؟

الجواب: نعم.. لدينا ، وحياتنا تشهد بحضور المرأة في كل قطاع تقريبا، بقطع النظر عن أي تحفظّات وملاحظات يمكن أن تأتي في غير السياق الذي نبحث فيه الآن، وهو وجود المتعلّمات العالمات كنتيجة وكثمرة طيبة لفكرة التعليم المبكر للبنت كما سعى إليه الأولون الماهدون من بناة النهضة الوطنية الحديثة والمعاصرة.

نعم، لقد كان لباني النهضتين العلمية والدينية في بلدنا الشيخ العلاّمة ابن باديس الفضل، بعد فضل الله تبارك وتعالى وتوفيقه له، في النهوض بالتربية والتعليم، مع استيعابٍ استباقي لدور المرأة في الحياة، ومن ثم إيلاءها ما تستحقّ من اهتمام في مجال العلم وأن تأخذ نصيبها الأوفى في التعليم، ولم تكن جهود الشيخ ابن باديس ومن معه من الصحب الكرام بسيطة ولا قليلة، في وسط امتد الجهل وتعمّق في نفوس الناس، فكان الآباء  يمنعون بناتهم من التعليم بدعاوى مختلفة شتى.

إن تلك الكلمات الطيبات القليلة التي خطّها قلم الإمام قبل نحو 90 عاما من الآن هي التي فتحت الأبواب ـ كل الأبواب ـ لتعليم البنت (المرأة) ودفعها في مجرى الحياة المضيء، بعيدا عن الجهل والفقر والقيود والتقاليد الخاطئة التي ابتغت إبقاءها “شيئا” غير مذكور، معصوبة العقل، محتقَرة تعيش على الهامش.

وما نريد المزايدة على أحد في هذا الشأن، ولكن نرغب أن تكون الموضوعية هي الرائد والحَكمُ بيننا فيما يتعلق بنهضة الجزائر ومشروعها الكبير في النهضة والتميز وتحقيق المناط الحضاري اللازم.

وما أريد أن ألفت النظر إليه بوضوح: إنه في ضوء هذه الملايين من المتعلمات في مختلف مراحل الدراسة واللائي  يحققن كل عام كسوبا وزيادة ونموّا في الكفاءة والتميّز والعلم والمعرفة.

وفي ضوء الساحة الوطنية التي تزخر بالآلاف إن لم أقل بعشرات الآلاف من العالمات المتنوّرات الورعات الإيجابيات المقتدرات في كثير من الميادين، يحقّ لنا التساؤل:

آما آن لهذا الخزّان النسوي العالِم أن يأخذ مكانه ويُعرف له القدر اللازم من الاهتمام والتأطير والاستفادة منه على الوجه الأمثل الأكمل قدر المستطاع؟ .

ثمة آلاف، بتقدير متوسط، من النسوة العالمات المسلمات الجزائريات في الدين والشريعة والفقه والأصول، كما في الطب والصيدلة والكيمياء والفيزياء ومختلف العلوم.

أليس جديرا بالمجتمع، وكل من في المجتمع مسؤول، أن يهيِّئ ويوجد لهن “فضاء” عالِم يسمح لهن بأداء أفضل وخدمة أكرم وأجمل لدينهن ووطنهن ومجتمعهن؟

وإذ أقول “عالمات مسلمات” فإن الأمر يجرُّ إلى العلماء المسلمين (من الرجال) وهم أيضا ألوفٌ مؤلفة في داخل الوطن وخارجه. أما يكون من الخير للوطن أن يكون لهذين الجناحين من العلماء والعالِمات الدور الأوفر في إعادة بناء صورة البلد على نحو يتعمّق ويتكرّس فيه دور العلم (والعالم والمتعلّم) فيجعل هذه النخبة العالمة في المستوى المطلوب، وفي الرواق المناسِب وفي البيئة المناسِبة، وفي السياق المناسب، وفي الظرف المناسب زمانا ومكانا لتحقيق الإقلاع الذي طال وقت انتظاره واتسع أفق استيعابه في بلدنا، بسبب العُصب الناهبة اللاهية التي أهلكت الحرثَ والنسل… وأجدبت بساتين الوطن وأفرغته أو كادت من علمائه وعالماته.

وهذا حديث آخر عن “هروب ” الأدمغة…

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى