العابد الذي أقنع السلطان عبد الحميد بإنشاء سكة حديد الحجاز
بقلم د. محمد الجوادي
كان أحمد عزت العابد (1855 ـ 1924) واحدا من رجال الدولة العثمانية في عهد نهايتها وكان نموذجاً لمن يوصفون بأنهم رجال الإصلاح في عهود الانهيار، وعلى المستوى الرسمي فإنه كان نموذجاً بارزاً للعربي الذي وصل إلى مواقع متقدمة في نظام الحكم العثماني. ومع أنه متهم (بحكم مناصبه) بالاشتراك فيما نسبه العرب إلى عهد السلطان عبد الحميد من الاستبداد، فقد كان رجل دولة مصلحاً ومتزنا، وقد مكن الدولة من ضبط الاقتصاد وإنجاز كثير من الإصلاحات المدنية العصرية وعلى رأسها سكة حديد الحجاز، وخطوط البرق.
وفي الآفاق السياسية فإنه ساعد السلطان عبد الحميد في انتهاج سياسة تقلل من تكتل الدول الأوروبية ضد بلاده، وعلى مستوي الصحافة عرف بأنه منشئ جريدة «دمشق»، وأحد المحررين في جريدة «سورية» الرسمية. ذكر طرازي (في كتاب تاريخ الصحافة) وتبعه الزركلي (في كتاب الأعلام) نسبه: ابن محيي الدين أبي الهول (المشهور بهولو باشا) ابن عمر أغا ابن عبد القادر أغا ابن محمد أغا ابن الأمير قانص العابد من أمراء المشارفة، ينتمي إلى عشيرة عربية تعرف بقبيلة «الموالي» وتسكن الخيام في بادية الشام بين الزور وتدمر، وتنتسب إلى قبيلة «بكر بن وائل» الحجازية القرشية.
ولد أحمد عزت العابد في دمشق، كان والده هولو باشا من كبار موظفي الحكومة العثمانية، وتلقي الابن تعليماً جمع بين العنصرين الديني والمدني، وقد هيأ له والده فرص تعليم متميزة، وقرأ في صباه على المشايخ عبد الرحمن الإسنوي، وأحمد الشطي، وأحمد عابدين، وتعلم مبادئ اللغات التركية والفرنسية والإنجليزية في إحدى الإرساليات وعلى أيدي أساتذة مخصوصين في بيت أبيه، ثم ألحق بالمدرسة البطريركية في بيروت فأتقن الفرنسية، كما درس على الشيخ ناصيف اليازجي، الذي كان أستاذاً متميزاً. بدأ أحمد عزت العابد حياته الوظيفية في وظيفة إدارية بمركز ولاية سوريا في قلم المخابرات التركية وترقى (1873) رئيسا لذلك القلم ولقلم المخابرات العربية، وتوالى تحرير القسمين العربي والتركي في جريدة «سوريا» الرسمية ثم أصدر (1878) جريدة «دمشق» التي دافع بها عن الدولة العثمانية.
عين كاتبا لمجلس إدارة ولاية سوريا (1876)، وفي 1979 اختير رئيسا لمحكمة الحقوق، ثم مشرفا عاما على المحاكم في ولايتي سوريا وبيروت ولواء القدس، وعهد إليه بإصلاح شئون محاكم جبل لبنان فأتم المهمة بنجاح، وفي 1884 اختير لتولي مثل وظيفته القضائية الكبرى في ولاية قونية لكنه اعتذر عن قبولها، وقبل أن يعمل مفتشا عاما لمحاكم ولاية سلونيك، وفي 1885عين رئيسا لمحكمة الجزاء البدائية في العاصمة، ثم رئيسا لمحكمتها الاستئنافية، ويعد شهرين عين رئيسا عاما لمحاكم التجارة الأهلية والمختلطة، وهو المنصب الذي شغله طيلة ستة أعوام، فظهرت موهبته في حل القضايا التي كان الأجانب أطرافاً فيها، ثم اختير عضوا لدائرة التنظيمات في مجلس شوري الدولة (1891)، ثم انتدبه السلطان عبد الحميد (1895) فعهد إليه بعضوية جميع اللجان المالية وعينه رئيسا للجنة المهاجرين إلى الدولة العثمانية، طيلة 13 سنة حتى الانقلاب العثماني (1908)، فخرج إلى لندن أولا، ثم إلى مصر وسويسرا وفرنسا ثم إنجلترا.
كان أحمد عزت العابد من أقدر رجال الدولة العثمانية على إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والعمرانية، وكان يتمتع بالصبر والحنكة والقدرة على تصريف الأمور بكفاءة وبأقل التكاليف، حتى كادت الدولة العثمانية بفضله تستغني عن اقتراض الأموال من الخارج. وفي مجال الإصلاحات الحضارية الإنشائية بدأ العابد خطواته بإنشاء التلغراف من بنغازي إلى طرابلس الغرب، ثم أنشأ خطا لاسلكيا للتلغراف بين «كله مش» التابعة لولاية أزمير وبين بنغازي في طرابلس الغرب، فسهل لعاصمة الدولة العثمانية الاتصال بأقاليمها في شمال أفريقيا، ثم مد خطا تلغرافيا بين دمشق والمدينة المنورة وقد تبرع هو نفسه بأكثر أعمدة الخط، واستعان بما تبرع به أهل الخير في دمشق.
ولما طلبت الشركة التلغرافية الهندية رخصة بمد خط مستقل للمخابرات التلغرافية بين أوروبا والشرق الأقصى مع حق السيطرة عليه، رفض منحها هذا الامتياز وأنجز العمل بموارد الدولة في أقل من شهر. ولما تولي رئاسة لجنة المهاجرين (مدة لا تتجاوز ثمانية عشر شهرا) أنشأ أكثر من أربعين قرية وأسكن فيها نحو خمسين ألف مهاجر أكثرهم في ولايتي سوريا وحلب. وفي سنة 1900 طلب بعض وزراء الدولة عقد قرض لأداء جانب من الديون، فعارض واعتمد على إجراءات تقشفية دبر بها ما يفي بتلك الديون، فرقاه السلطان لرتبة الوزارة، وقد ساعده نفوذه لدي السلطان عبد الحميد على التمكين للعرب في الوظائف.
كان أحمد عزت العابد معنياً بالخير وبالإصلاح الاجتماعي، وقد شيد من ماله الخاص في المدينة المنورة مستشفى يتسع لخمسين مريضا، وملجأ يتسع لخمسين عائلة، كما أنشأ مدرسة في المدينة المنورة لمائتين من الأطفال
كان أحمد عزت العابد صاحب فكرة مد السكك الحديدية في الأقطار العربية، وقد أجري دراسات الجدوى وشرح حجم الأخطار والأضرار السياسية والاقتصادية، من التأخر في إنجازها، فأذن له السلطان بمباشرة العمل بينما لم تكتمل في يده اعتمادات مالية أو خبرات فنية أو مصادر تمويل، فافتتح أحمد عزت باب التبرع حاثا الشعوب الإسلامية أن يشتركوا في المساعدة، فلبي جميعهم نداءه من مشارق الأرض ومغاربها وتبرعوا بالأموال التي تكفلت ب85% من نفقات المشروع، وكان يخطط لمد خطين من المدينة المنورة، إلى مكة وجدة وصنعاء واليمن، وإلى البصرة، لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب وقوع الانقلاب العثماني الأول (1908)، ولما تم خط المدينة أدخل الإضاءة بالكهرباء إلى المدينة المنورة.
كان أحمد عزت العابد يجيد العربية والتركية والفرنسية والإنجليزية. وقد نقل من التركية إلى العربية كتاب «حقوق الدول» لحسن فهمي باشا، والمجلد الأول من «تاريخ جودت باشا» كما ترجم كتاب «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية» من العربية إلى التركية. كان أحمد عزت العابد معنياً بالخير وبالإصلاح الاجتماعي، وقد شيد من ماله الخاص في المدينة المنورة مستشفى يتسع لخمسين مريضا، وملجأ يتسع لخمسين عائلة، كما أنشأ مدرسة في المدينة المنورة لمائتين من الأطفال، وجعل لهذه المباني أوقافا مسجلة في الآستانة وفي المحكمة الشرعية بالقاهرة.
نال أحمد عزت العابد كثيراً من التكريم والتقدير المتوالي، فقد أحرز الرتبة الرابعة في عهد راشد باشا والي سوريا، ثم منحه السلطان (1894) رتبة «بالا» مع «الوسام المجيدي الأول»، ثم نال «الوسام العثماني المرصع» مكافأة له على إنشاء الخطوط البرقية في طرابلس الغرب، و«الوسام المجيدي المرصع» عند إتمامه خطوط البرق الكويت وأوروبا ودمشق فالمدينة المنورة، ووسام «الافتخار المرصع» بعد نجاحه في إنشاء القري لإسكان المهاجرين، ولما انتهت السكك الحديدية الحجازية إلى عمان أنعم عليه السلطان العثماني بوسام «الامتياز المرصع» مع الميداليتين الذهبية والفضية، وهكذا حاز أحمد عزت العابد جميع أوسمة الشرف العثمانية. ذكر الزركلي أنه توفي في القاهرة، وأن جثته نقلت إلى دمشق.
(المصدر: مدونات الجزيرة)