مقالاتمقالات مختارة

الظاهرة القرآنية بعيون “بن نبي” و”بيغوفيتش”

بقلم سامح عودة

لم يكن الصوت وهمًا وهو يتردد داخل الغار الذي رافقه لأعوام من التأمّل، ولم تكن رؤيته للـمَلَك “جبريل” حينها إلا إشارة لبداية جديدة، من حياته التي ستكون حافلة، ليخرج بعدها الصادق الأمين، كما يلقّبه قومه[1]، من الغار خائفا، تنتفض به الرعشة، حاملا في ذهنه التنزيل الأول بأول كلمات “جبريل” -عليه السلام- إليه: “اقرأ باسم ربك الذي خلق”[2].

هكذا يبتدئ “محمد بن عبد الله” الذي كان قبل ساعات رجلا من قريش رحلته النبوية كرسول عالمي يُوحى إليه بكتاب تفرّقت آياته على ثلاثة وعشرين عاما، وظاهرة قرآنية تخرج من خلالها التفسيرات وتُصاغ حولها التأملات التي يصل إليها المفكر الجزائري “مالك بن نبي“، وبعد أربعة عشر قرنا من حادثة الغار، بثنائيات تحليلية، و”منهج يستمد أصوله من تأمل طويل في طبيعة النفس الإنسانية، وفي غريزة التدين في فطرة البشر وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي تُوسم بالتناقض أحيانا، ولكنها تكشف عن مستور التدين في كل إنسان”[3].

ثم هو “بيغوفيتش” بعد ذاك يوافيه من الشرق بثنائيته الفريدة حول القرآن، والتي تحلل التوازن القرآني بين عوالم الفكر والتطبيق، لكن الجديد فيما أنبته المفكر البوسني أنه كان “يكتب من واقع تجربته الشخصية وتأملاته الخاصة”[4] وتفكّره في الكيفية التي ينبغي أن يُقرأ بها القرآن، “ومن ثم رأى أنه يكتب ليشرك الآخرين فيما توصّل إليه من أفكار وخواطر حول هذا الموضوع”[4]، فبين “مالك” و”بيغوفيتش” نقف على لفتات فريدة حول هذا الكتاب السماوي الخاتم، ونلحظ تأمّلات خاصة لفكرين جمعتهما ظاهرة واحدة.

الذات والموضوع.. كيف عرف الرسول رسالته؟

في بحث عن المفهومين يضع “المسيري” دلالته حولهما[5] قائلا إن الذات هي جوهر الشيء وشخصيته التي تُعبّر عمّا به من شعور وتفكير، بينما الموضوع هو الشيء المُستقلّ عن الإرادة والوعي الإنساني، أو هو كل ما يُدرك بالحسّ في العالم الخارجي.

 

في السياق نفسه، يدخل “مالك بن نبي”[6] إلى الظاهرة القرآنية (الموضوع) من باب الظاهرة المحمدية (الذات)، وهو ما يتوافق معه “بيغوفيتش”[7] بكلمات أخرى، إذ يرى أننا لو اعتبرنا القرآن هو المنهج الموضوعي للإسلام فإن الذات/السُنّة النبوية ستعتبر الممارسة الفعلية لهذا المنهج على الأرض.

من هنا ينطلق “مالك”، خروجا من الظاهرة المحمدية إلى الظاهرة القرآنية -على حد اصطلاحه- ليضع الرباط بين الظاهرتين، قائلا إن: “مبدأ النبوة يعرض نفسه بفضل شاهده الوحيد -النبي صلى الله عليه وسلم- بوصفه ظاهرة موضوعية مستقلة عن الذات الإنسانية التي تعبر عنه”[6]، فلو كانت الإبرة الممغنطة تكشف لنا عن توفر المجال المغناطيسي بالجوار فإن النبوة -كظاهرة- لا تكشفها إلا شهادة النبي، أي إن الرسول هو الشاهد الوحيد على رسالته، ولتتحقق الشهادة فإن هناك براهين لا بد أن تتجلى له ليثق في حقيقة ما يراه ويسمعه.

ذلك التمهيد الذي يشرع “مالك” من خلاله للانتقال إلى الظاهرة القرآنية، كما رآها، إذ يقول إن النبي، بوصفه حاملا للرسالة، كان في حاجة إلى مقياسين ليقيس عليهما مدى حقيقة هذه الرسالة، وإنه لم يكن واهما فيما رآه في “حراء”[أ] وما سمعه بعدها، فيبدأ التحقق بالمقياس الظاهري/الذاتي الذي تطرأ من خلاله تغيرات ظاهرية على شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- عند تنزّل الوحي، إذ تعتريه حالة من الألم والشحوب أو صلصلة كصلصلة الجرس كما كان يصف[ج]، فيقتنع من خلال تلك الملاحظة بحقيقة ما يراه وخروجه عن إرادته.

وينتهي بالمقياس العقلي/الموضوعي الذي يخبره من خلاله القرآن عن حقائق متجاوزة لثقافة العرب، لأن “في هذا الوسط “الفروسي الوثني البدوي” لا مجال مطلقا للمشكلات الاجتماعية والغيبية (الميتافزيقية)”، حيث كانت “معارف العرب عن الحياة الاجتماعية والفكرية لدى الشعوب الأخرى غير ذات قيمة”، وهو ما نتثبّت منه “إذا ما رجعنا إلى الشعر الجاهلي الذي يُعد مصدرا قيّمًا للمعلومات في هذا الموضوع”[6]. ومن ثم، فإن برهانا أدبيا/عقليا ينضم الآن إلى المعادلة ليشرح لذات الرسول أن ما يتلقاه لا يصدر عن ذاته أو تهيؤاته، لأنه، وبخلاف تميّزه عن ثقافة قومه، سيتطابق مع تفاصيل محددة في الكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل اللذين سيفترق عنها في طبيعة تنزّله من السماء إلى الأرض.

 

التنجيم والوحدة.. لأن المنهج يتناسب مع الواقع

حين تسأل عن المكاشفة يجيبك “أبو حامد الغزالي” بأنها علم الباطن من الأمور[8]، وحين يُعلِّق عليها “بن نبي”، كتعريف يُنسب إلى الوحي، تراه يصفها بأنها “معرفة مباشرة لموضوع قابل للتفكير، أو خاض فيه التفكير بالفعل”[6]، وهو ما لا يعتبره شرحا مناسبا لمعنى الوحي كما رأى البعض، لأن الوحي -كظاهرة- يجب أن يُعرّف على أنه “المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، وأيضا غير قابل للتفكير”[6]، لأن المكاشفة -وفقا لمالك- لا تنتج يقينا كاملا، وهو ما لا ينطبق على الوحي الذي يطرح موضوعات تفصيلية تفوق الخيال البشري، كما هو الحال مع الحقائق الغيبية والسِيَر السابقة التي لم يُحِط بها النبي -صلى الله عليه وسلم- من فكره الخاص.

المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973م) (مواقع التواصل)

أما الوحي كحقيقة ومنهج يُقوّم الواقع فكان يتجلّى من جهتي “التنجيم” و”الوحدة الموضوعية للآيات”، فالأولى تحدث بتفرّق التنزيل على ثلاثة وعشرين عاما، لا ينقطع خلالها حتى يستمر من جديد، والثانية تظهر في التماسك التشريعي والكمي للآيات التي تنزل متفرقة على النحو المذكور. لكن، كيف يشرح “مالك” الأمر؟

ليفترق القرآن عن غيره من الرسالات سيكون التنجيم هو الأداة الأولى و”الطريقة التربوية الوحيدة الممكنة في حقبة تتسم بميلاد دين وبزوغ حضارة”[6]، فينهى عن تكرار الأمر حين حدوثه، أو ينثر التشجيع والحماس قبل المعركة، ليتزامن التنزيل مع الوقائع والأحداث والتوجيهات الأخلاقية في كل منها. ثم تأتي الوحدة الموضوعية بعد ذاك، كوسيلة تدعيمية، لهذا التنجيم، حيث إن “الوحي في أساسه متفاصل كشأن مجموعة عددية، أي إنه متكوّن من وحدات متتالية هي الآيات”[6]، تلك الوحدات -حسب “مالك”- تمثّل وحدة الظاهرة القرآنية وترابطها، حيث تظهر في مجموعة من الآيات المتنزلة في وقت واحد لتعبّر عن فكرة واحدة، أو مجموعة من الأفكار المنتظمة في أسلوب منطقي، أو حتى لتنص على تشريع معين في ظرف ما.

هنا يلتقي “بيغوفيتش” مع أفكار “مالك” حول وحدة القرآن، والتي تُثبت أنه، ورغم تفرّق نزوله على أعوام البعثة المحمدية، كلٌّ لا يتجزأ، وأن “كل آية فيه أُخِذت منفردة أو منتزعة من السياق العام لا تقدّم حقا كاملا، بل تقدّم جزءا من الحق، فنحن لا يمكن أن نعرف الحق كاملا إلا إذا أخذنا القرآن كاملا، أما سرد بعض الآيات منفردة (وهو أمر لا مفرّ منه في الدرس أو الاستشهاد أو في أي تعامل آخر مع القرآن) فلا بد أن يُفهم على خلفية فهمنا الكامل لمجمل القرآن، فالأمر هنا شبيه بلوحة الفسيفساء، كل قطعة فيها يتوقف معناها وقيمتها الجمالية على ما تعنيه في انساجمها مع بقية قطع اللوحة الكاملة”[4].

فلو كان التنجيم يخدم ضرورة ما، وهي التربية الأخلاقية والفكرية للمجتمع المحمدي بوصفه حاملا للرسالة، فإن الوحدة الموضوعية لهذه الظاهرة تصنع تناغما يخدم هذه الثنائية البنائية من جهة أخرى، حيث يرى “المسيري” أن البعض قد يحسب القرآن “من الناحية الموضوعية لا يتبّع نظاما محددا، ويبدو وكأنه مركب من عناصر متناثرة. ولكن، لا بد أن يكون مفهوما -بادئ ذي بدء- أن القرآن ليس كتابا أدبيا، وإنما هو منهج حياة، والإسلام نفسه طريقة حياة أكثر من كونه طريقة في التفكير”[9].

بين فضاءين.. رأسية الوحي وأفقية الحياة

في شرحه لدلالة العقل يرى الباحث “عبد السلام الطويل”[10] أن المنظومة الغربية/الديكارتية[ب]، والتي اكتسب فيها العقل تعريفا ماديا يحصر وظيفته في جانب المعرفة الملموسة فقط، يقابلها في المعنى العربي دلالة أكثر اتساعا لهذا العقل تعرّفه على أنه تمظهر للقلب الذي “يعقل صاحبه من التورط في المهالك، أي يحبسه، وهو ما يميز الإنسان عن الحيوان”[11]. من هنا يرى “بيغوفيتش”[7]، ومن قبله “مالك”[6]، أن ثمة مذهبين يحكمان تصورات الإنسان: أحدهما عقلي (ديكارتي/مادي)، والآخر عاطفي (قلبي/معنوي)، لكن الظاهرة القرآنية أتت بما حقق الموازنة بين الشقّين.

وعلى ذلك، فإن “موازنة مذهبين، أحدهما مادي في جوهره، يرى كل شيء متوقفا على المادة، والثاني غيبي (ميتافيزيقي) يعد المادة في ذاتها محددة محكومة، لا تكون قاطعة مقنعة إلا إذا اعتبرنا عناصرهما المتجانسة المتقابلة التي تكمن في فكرتهما عن الكون والتكوين”[6]، أي إن ثمة ثنائية متفاعلة -بتعبير “المسيري”[12]– أو وحدة ثنائية القطب -بتعريف “بيغوفيتش”[7]– يمزجان عالمي المادة والروح، ومن هنا نفهم القرآن الذي “برهن على أنه وحدة طبيعية من الحب والقوة، المتسامي والواقعي، الروحي والبشري. هذا المركب المتفجر حيوية من الدين والسياسة يبث قوة هائلة في حياة الشعوب التي احتضنته”، لأنه “يتطابق في لحظة واحدة مع جوهر الحياة”[9].

ففي الآية التي تشرع القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، يقف “بيغوفيتش” ليربطها مع الأخرى التي تدعو -في موضع آخر- إلى العفو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40]، قائلا إن “من يقرأ القرآن قراءة عابرة قد يخيل إليه وجود تناقض فيه، بينما الأمر ليس كذلك قطعا.. فحقيقة الأمر أن المسألة تتعلق بأبدع وأرفع ميزة يمتاز بها القرآن.. وهي التجانس التام بين الأمور التي تبدو متناقضة للناظر إليها لأول وهلة.. إذ يجب أن نلاحظ ونفهم أن القرآن لا يطالبنا هنا بأمر واحد.. بل يطالبنا بأمرين معا، فهو لا يريد منا القصاص فقط، لأنه يطالبنا أيضا بالعفو.. والعكس بالعكس. كما لا يفرض علينا السعي للآخرة وحدها لأنه يريد منا السعي لهذه الدنيا أيضا، أي لا يطالبنا أبدا بالسعي لحياة دون أخرى”[4].

بل، وحسب تعبيره أيضا، إن القرآن يدعو -بصورة أو بأخرى- إلى الطبيعة عن طريق ربط التأمّل بالملاحظة، فيلتقي الدين مع العلم والتقدم المادي بخطاب إيماني معنوي، لكن، وفي الوقت ذاته، “لا يحتوي القرآن على حقائق علمية جاهزة، ولكنه يتضمن موقفا علميا جوهريا، واهتماما بالعالم الخارجي، وهو أمر غير مألوف في الأديان”[7]. ففي أول الآيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، يرى “بيغوفيتش” أن الإنسان -بمقتضى هذا الأمر- لا يلاحظ ويبحث ويفهم طبيعة خلقت نفسها، “ولكن الكون الذي أبدعه الله، ولذلك فإن الملاحظة ليست بلا هدف أو لا مبالية أو خالية من الشوق، وإنما هي مزيج من العلم وحب الاستطلاع”[7].

هذه الملاحظة، حسب “جان فوراستيه”[13]، هي الشرط المسبق لكل تقدم اقتصادي واجتماعي، حيث تتغير وجهة التفكير وتتحول من العقلي إلى التجريبي ومن الركود إلى الإبداع. وعلى ذلك يكمل “بيغوفيتش” أنه “من المستحيل تطبيق الإسلام في الممارسة العملية انطلاقا من مستوى بدائي، فالصلاة لا يمكن أداؤها أداء صحيحا إلا بضبط الوقت والاتجاه”[7]، ومن ثم كان التحرك الأفقي/التعميري في الأرض نابعا من توجيه رأسي/قرآني قد أتى من السماء.

ففي حديث الثنائيات الذي بدأ بين الرسول ورسالته، وكيف أن الأول كان يحتاج إلى مقياس مادي/ظاهري وآخر معنوي/عقلي ليتحقق من صدق ما يُنزّل عليه من هذه الرسالة، تظهر الثنائية الثانية لتحليل بنية هذا الوحي الذي يربط تفصيلات الواقع بالتشريعات التي توجّه من حضروها ومن سيتلونهم عملا بالقاعدة الأصولية التي ترى أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”[14] في كثير من الأحيان.

ثم هي الثنائية الثالثة تظهر لتبني نتاجها على كل ذلك، فتربط ما أتى من السماء بما ينبغي كونه على الأرض، أو كما عبّر “بيغوفيتش” من قبل[7] بأننا لو اعتبرنا الثقافة تأثيرا سماويا على الإنسان فإن تأثير هذا الإنسان على طبيعته هو النتاج الحضاري لكل ذاك.

فمن “مالك” إلى “بيغوفيتش” كانت النظرة إلى القرآن أشمل من مجرد نظرة تفسيرية للكلمات، وإنما تعدّت النصّ إلى الظاهرة، ليعلّق “مالك” في ختام رحلته بأن الدين في ضوء القرآن “يبدو كظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته كما تحكم الجاذبية المادة وتتحكم في تطورها”، لذا، وبناء على كل ذلك، يبدو الدين “وكأنه مطبوع في النظام الكوني كقانون خاص بالفكر يستمر بالطواف في مدارات مختلفة”[6].

===================================================

الهوامش:

أ: اسم الغار الذي بدأ فيه الوحي.

ب: تنسب الديكارتية إلى “ديكارت” الفيلسوف الذي اعتمد على العقل في تأسيس فلسفته.

ج: عن عائشة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ. [رواه البخاري].

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى