مقالاتمقالات مختارة

الظاهرة العلمانية بأعين خلدونية

بقلم عصام أوعماري
يمكن النظر إلى الظاهرة العلمانية في المجتمعات الإسلامية بأعين خلدونية، وذلك في ضوء رباعيته الدولية الشهيرة، فالفيلسوف ابن خلدون قسم في كتابه “المقدمة” نظام الدولة إلى أربعة أنماط: (دولة الشرع، دولة العقل، دولة الهوى، دولة المدينة) وهذه الأخيرة لا تهمنا كثيرا لكونها دولة مثالية صعبة المنال وبعيدة المرام كالدولة الفاضلة الأفلاطونية وغيرها ..

ولكن ما يهمنا في هذا -المقال- هو بيات تجليات البعد النفسي والاجتماعي للدول الثلاث الباقية، التي تتركه في مجتمعاتنا المعاصرة، فدولة الشرع يطالب بها الإسلامي و”دولة العقل” (الدولة العلمانية في عصرنا!) يطالب بها العلماني، وميدان الحوار والنقاش هي دولة الهوى! -كما أشار د. محمد بن المختار الشنقيطي- فكل من الإسلامي والعلماني في الظاهر يسعى إلى تحقيق أفق أفضل ومستقبل أزهر وأنور، ويروم إلى تغيير دولة الهوى وتبديلها إما بدولة الشرع أو دولة العقل.

وهنا يمكننا طرح السؤال الآتي: ما الدافع لجعل العلماني يطالب بدولة العقل؟
إذا تأملنا مليا ودققنا النظر في الباعث الحقيقي الذي دفع الشخص “المسلم” بالعدول عن المطالبة بدولة الشرع إلى المطالبة بدولة “العقل” لوجدنا أن الدافع دافع نفسي بالأساس قبل أن يصطنع له تبرير فكري! وهذا الدافع يمكن إجماله في تجليات ثلاثة للنفس الإنسانية:

التجلي الأول: النفس مولعة بتقليد الغالب
المتأمل في بعض النفوس البشرية يجدها مجبولة على تقليد القوي، وهذا الاجبال يجعلها تبحث عن عوامل التقدم وعلل الازدهار وأسباب التغلب، وأول عامل ظاهري تصطدم به النفس أثناء البحث، هو نمط الحكم الذي اتخذته الدولة القوية نظاما لحكمها، فعندما تدرك النفس هذه العلة، مباشرة ما تندفع بوعي أو بدون وعي لتبني العلة التي تتمثل في المذهب أو النظام، التي تظنه سببا نتج عن تحقيقه العملي تقوي القوي، وتغلب الغالب عن المتغلب..

 ابن خلدون ينص بكل وضوح بأن النفس قد تقلد الغالب لا لكونه تغلب بعصبية ولا قوة وإنما بما انتحلته من مذاهب

وهذا ما يقره ابن خلدون جليا في سياق كلامه عن الأسباب التي تجعل المغلوب مولع بتقليد الغالب فيقول: “والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به و ذلك هو الاقتداء أو لما تراه و الله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب و هذا راجع للأول”.

فابن خلدون ينص بكل وضوح بأن النفس قد تقلد الغالب لا لكونه تغلب بعصبية ولا قوة وإنما بما انتحلته من مذاهب، وكي تحقق هذه النفس الغلبة والقوة في دولتها تقوم بانتحال هذه المذاهب لتغيير دولة الهوى وتحقيق دولة العقل، لاعتقادها أن التقدم والازدهار منوط بتبني المذهب ومعلول بانتحال المنهج، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن العلل الحقيقية للتقدم، ولا أن تتجشم وعثاء التنقيب عن دواعي التخلف وأسباب التسفل والخمود والهمود ومعرفة السنن الكونية في السقوط والنهوض لاستئناف السير الحضاري التليد والخروج من دولة الهوى البليد..

التجلي الثاني: النفس مجبولة على نوع من البرغماتية
بعض النفوس البشرية تؤمن بمبدئ البرغماتية، أي ما هو نظري ذهني تاريخي لا يكون له كبير إقناع إذا ما قورن بما هو عملي تطبيقي معاش واقعي متكلل بنتائج ملموسة محسوسة في نظره.. وكثير من العلمانيين العرب من هذا الصنف البراغماتي، ينادي بدولة محسوسة لها تفعيل عملي في الواقع، دولة استطاعت أن تحقق أرقى أنواع الازدهار والتقدم -في نظره-، فالعلماني يقوم بمقارنة ذهنية بين دولة تاريخية نظرية، ودولة واقعية عملية، النظري يقول دولة الشرع والعملي يقول دولة العقل، التي يفرضها عليه الواقع فرضا، فيقع له انفصام بين الواقع والمبدأ، فيسقط في فقدان التوازن الاجتماعي بتعبير جودت سعيد، فيقرر ترجيح الواقع العملي عن المبدئ التاريخي النظري.. سيما وأنمن طبيعة البرغماتية جعل الواقع معيارا للنجاح وتهميش التاريخ والتراث.

ويمكن توضيح التجلي بضرب المثال الآتي:
فلو افترضنا وجود دولة الشرع في الواقع متحققا فيها العدالة الاجتماعية، والتطبيب، والتمرس، واقتصاد متطور وهلم جرا، لما كان أحد ليطالب بدولة العقل، ولو وجد المطالب لكان طلبه لحاجة في نفس أبي جهل؛ أي سيكون طلبه غير بريء.

التجلي الثالث: النفس المتخلفة يعتريها مركب النقص
إضافة إلى عامل التقليد والبرغماتية نجد بعض النفوس الممتدة على محور طنجة جاكرتا يعتريها مركب النقص والقابلية للاستعمار المادي والرمزي، بتعبير مالك بن نبي، والشعور بالمنبوذية بتعبير جودت سعيد، والإحساس بالابتذال وفقدان الشعور بالأناقة بتعبير توينبي، وفقدان الاستعلاء الإيماني بتعبير سيد قطب، والجهل بالحقيقة العلمانية بتعبير عبد الوهاب المسيري، وفقدان المكنة العلمية والنظرة الكلية الشمولية مع الشعور بالاستغراب.. كل هذا وذاك كون ملاذا آمنا وملجآ غنيا لتعشيش الفكرة ونموها وتكريسها في أحضان أنصاف المثقفين..

لما يعلم هؤلاء أن أسيادهم تنصلوا من العلمانية بعد إدراك أزمتها وعدم مواكبتها وانتقلوا لابتكار مذاهب وبدائل من مثيل “ما بعد العلمانية” حينها ستجدهم يتسارعون لانتحال هذه المذاهب والمنظومات.

يول عالم النفس بول فيتز وهو يتحدث عن أسباب الإلحاد منها: رغبة الشخص في الاندماج السريع في المجتمع العلماني المتحضر لإخفاء خلفيته الثقافية الريفيّة المُحرجة، ومنها أيضًا الرغبة المُلحّة في أن يكون الشخص مقبولًا وسط المجتمع الجديد الذي يعيش فيه، هذا المجتمع الذي يرفض وجود الدين، وأخيرًا الراحة الشخصية فمن غير المريح في المجتمع العلماني الحديث أن تكون مؤمنًا.

ويمكن توضيح هذا التجلي بضرب مثال وهو كالآتي:
حدث وناقشت علمانيا فقال: أنتم الإسلاميون تؤمنون بالمؤامرة ولم تتخرعوا شيئا! قلت: وماذا قدمتم أنتم من اختراعات يا علماني؟ فقال: نحن في فرنسا صنعنا واخترعنا..؟! والشاهد في هذا المثال هو الجواب الأخير فالأخ العلماني مع كامل الأسف ينتمي إلى العالم المتخلف، المغرب، وفي المغرب يسكن في مدينة متخلفة، وفي المدينة يعيش في منطقة متخلفة مغمورة ويقول نحن في فرنسا!!

السؤال الذي ينتصب أمام هذه القصة هو ما الدافع الذي جعله يجيب بهذا الجواب الذي يحمل في طياته تنكرا للأصل وتبرأ لانتمائه ولو ضمنا؟ هذا السؤال لن يجيب عنه إلا البعد النفسي الكامن في مركب النقص والشعور بالمنبوذية.. لما يعلم هؤلاء أن أسيادهم تنصلوا من العلمانية بعد إدراك أزمتها وعدم مواكبتها وانتقلوا لابتكار مذاهب وبدائل من مثيل “ما بعد العلمانية” بتعبير جون كين و”ما بعد الحداثة” أو “الحدلثة السائلة” بتعبير زيغموند باومان.. حينها ستجدهم يتهافتون للوك المصطلحات ويتسارعون لانتحال هذه المذاهب والمنظومات..

وفي الأخير، يمكن القول أن الدافع الحقيقي لكثير من العلمانيين إلى تبني هذا النمط العقلي له بعد نفسي اجتماعي بالأساس ولا يعبر عن موقف فكري، وإنما هذا الأخير يأتي كمبرر ومصوغ للدولة العقلية من بعد التبني، ولا نصرف الفكرة على جميع العلمانيين فهم أضراب. والله أعلم.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى