مقالاتمقالات مختارة

الطليان وطرابلس الغرب.. احتلال همجي ومقاومة باسلة

الطليان وطرابلس الغرب.. احتلال همجي ومقاومة باسلة

بقلم أحمد الظرافي

بعد إتمام إيطاليا لوحدتها عام 1870م، وبروزها دولةً أوروبيةً كبيرةً، رأى الإيطاليون أن لهم حقّاً ونصيباً في المستعمرات وراء البحار، يكون وسيلة لتحقيق (إيطاليا الكبرى) التي يحلمون بها، والتي ستأخذ مكانها اللائق تحت الشمس وسط الدول العظمى في العالم، التي كانت آنذاك تتكالب على المستعمرات، وبخاصة في إفريقيا. وقد بعث فيهم تحقيقُ الوحدة الإيطالية بأسنَّة الحراب، وهزيمتُهم للنمسا، وتملُّقُ فرنسا لهم شعوراً كاذباً بالعظمة، لدرجةٍ جعلتهم يتداعون لإعادة الإمبراطورية الرومانية، وذلك على الرغم من الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، الحادة التي كانت تمر بها إيطاليا، حينذاك.

أولاً: أبعاد الغزو الإيطالي لطرابلس الغرب:

لذلك فقد تطلعت إيطاليا إلى السيطرة على الشاطئ الشمالي لإفريقيا المتمثل في تونس وطرابلس الغرب[1]. وكانت تونس هي الأقرب إليها، وكان فيها جالية إيطالية ضخمة، وصل بعض أفرادها إلى درجة من الثراء، كما كان القنصل الإيطالي ينافس القنصلَين الفرنسي والبريطاني في المكانة لدى الباي[2] ، ولكن فرنسا سبقتها على تونس، فاحتلتها عام 1881م. فتطلعت إيطاليا من ثَمَّ للسيطرة على أجزاء أخرى من إفريقيا، التي كانت وقتذاك نهباً مستباحاً للقوى الاستعمارية الأوروبية، ووجدت المجال متاحاً في شرقي القارة، فاحتلت إريتريا والصومال بعد مؤتمر برلين سنة 1884 – 1885م، دون أن تغضَّ الطرف عن أحلامها التوسعية في طرابلس الغرب، التي اعتبرتها نصيبها من الولايات العثمانية في شمال إفريقيا، وخاصة أنها لم تستطع أن تحقق من وراء غزوها لإريتريا والصومال ما كانت تريده وتتطلع إليه؛ من توسُّع استعماري كانت تراه ضرورياً لمعالجة المشاكل التي تواجهها في الداخل؛ فلم تجد في هذه المستعمرات متنفساً لسوء الحال الذي كانت تعيشه الطبقات الدنيا في إيطاليا، والتي سببت كثيراً من الإزعاج للحكومة، ولم تبنَ فيها مستوطنات لإعادة توطين الأعداد الكبيرة من المجرمين، الذين ضاقت السجون عن إيوائهم، وعجزت الحكومة عن إطعامهم، وذلك نتيجة لثورة القبائل الصومالية المسلمة العنيفة ضدها، بقيادة الشيخ محمد عبد الله حسن (1856 – 1920م). وكانت طرابلس الغرب وقتذاك جزءاً من الدولة العثمانية، وكانت تسمى ولاية طرابلس، وكانت مؤلَّفة من خمس وحدات: طرابلس، وبنغازي، والخمس، والجبل، وفزان، ولكنها كانت ولاية مهملة، لبعدها عن مركز الخلافة في إسطنبول، وأيضاً لضعف وتدهور الخلافة ذاتها وتكالب القوى الأوروبية عليها وقتذاك، وهو ما أدى إلى تقوية مطامع إيطاليا في هذه الولاية. وقد بدأت روما تمهد لاحتلالها، بغزوها ثقافياً، واقتصادياً، وسياسياً، مستفيدة من الامتيازات التي منحها لها الباب العالي، وبخاصة منذ عام 1904م، بعد وعد فرنسا لها بعدم مدِّ نفوذها إليها، في مقابل وعدها لفرنسا بعدم التعرض لاحتلالها للمغرب. وأيضاً بعد أن ضمنت موافقة بريطانيا على احتلالها، باعتبارها القوة العالمية الكبرى، فأنشأت إيطاليا المدارس في طرابلس وبنغازي، وجعلت الدراسة فيها مجانية، وأوفدت إليها البعثات التبشيرية، والعلمية، والجغرافية، لجمع المعلومات عن البلد، وشجعت مواطنيها في إيطاليا على الهجرة إليها للعمل بها، وامتلاك الأراضي، ونشر الثقافة الإيطالية والعادات الإيطالية، والأهم من ذلك، هو افتتاح فرعين لبنك دي رومة، في طرابلس وبنغازي، لتمويل عمليات التجارة والاستثمار، ولعب هذا البنك دوراً مهمّاً في مساعدة الرعايا الإيطاليين المقيمين في طرابلس على شراء الأراضي والمحلات التجارية، وكان في الوقت ذاته مركزاً لجمع المعلومات عن الأسر الثرية وذات النفوذ في البلاد، والتي اعتقد المخططون الإيطاليون بأن نسج العلاقات معها من شأنه أن يمهد لهم الطريق للدخول إلى البلاد. وأخذ ذلك البنك في إقراض المزارعين مقابل رهن أراضيهم، وكان التأخر في السداد يترتب عليه مصادرة تلك الأراضي لصالح البنك؛ فكان البنك يقوم بعد ذلك ببيع هذه الأراضي للمستوطنين الإيطاليين بأبخس الأثمان، وكانت القنصلية الإيطالية، في كلٍّ من طرابلس وبنغازي مركزاً للنشاط السياسي، والدعاية الإيطالية، والتجسس على أهل البلاد ومراكز الدفاع عنها. كما قام الباب العالي بإبعاد الولاة المخلصين الذين يقفون في وجه الطموحات والمصالح الإيطالية المشبوهة استجابة لضغوط الحكومة الإيطالية، الأمر الذي يعكس ما وصلت إليه الدولة العثمانية من الاستخذاء والضعف، آنذاك. وقد انتظرت إيطاليا حتى ساء وضع الدولة العثمانية، وغرقت في مشاكلها الداخلية، وسحبت معظم قواتها من طرابلس، ونقلتها إلى البلقان وشمال اليمن، لمواجهة الثورات المشتعلة ضدها فيهما، والتي لم تكن أصابع إيطاليا بعيدة عنهما.

ثانياً: الاحتلال الإيطالي والموقف الجهادي

وعند ذلك أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، فحركت بارجاتها الحربية تجاه طرابلس الغرب في أكتوبر 1911م، وعلى متنها 35 ألف جندي مدججين بمختلف أنواع الأسلحة، تساندهم الطائرات التي استعملت في العمليات الحربية لأول مرة في تاريخ الحروب، وذلك بدعوى حماية مصالحها الحيوية، هناك. وبعد أن فرضت سيطرتها على الساحل الشمالي، أخذت تلك البارجات تصبُّ حممها على مدن: طرابلس، ودرنة، وطبرق، وبنغازي، والخمس، وكانت إيطاليا تعتقد أن احتلالها لهذه المدن سيتم خلال ساعات، وهو ما سيجبر الباب العالي على الاعتراف بالأمر الواقع، ومن ثَمَّ الموافقة على الصلح وهو صاغر ذليل، ولكن المجاهدين العرب والأتراك الذين رأوا في هذا الغزو ملامح الحروب الصليبية تنبعث من جديد، وقفوا لجيوشها بالمرصاد، وألحقوا بها هزائم نكراء في العديد من المعارك التي احتدمت في ضواحي طرابلس، وبنغازي، ودرنة، في الأشهر الأولى من الغزو، وبصورة ذكَّرتها بهزيمتها المخزية في الحبشة عام 1896م، وهو ما اضطر القوات الغازية إلى التخلي عن مواقعها المتقدمة، والتراجع إلى الساحل، والاحتماء بمدافع الأسطول. وكان الجيش الإيطالي، على إثر كل معركة من هذه المعارك، يقوم بأعمال انتقامية ضد الأهالي، فيقتل عدداً منهم شنقاً في الساحات العامة، ويفتك بالنساء والأطفال، ويملأ السجون بالمعتقلين ظلماً وعدواناً، ولما ضاقت بهم هذه السجون، تم نقلهم إلى إيطاليا. وكل هذه الجرائم البشعة كانت تتم بمباركة كهنة الكنيسة الكاثوليكية، الذين كانوا يسيرون خلف الجيش في كل معركة لمباركة أفراده، وتشجيهم على قتل المسلمين دون هوادة أو رحمة، ومنحهم صكوك الغفران التي تضمن لهم دخول الجنة (بزعمهم). وأبدى هؤلاء الكهنة من قسوة القلوب وغلظة الأكباد ما تتفطر منه الصخور. وقد أصيب الغزاة بخيبة أمل كبيرة حين واجههم العرب والأتراك بجبهة واحدة متماسكة، تكسرت عليها موجة غزوهم الصليبي الغاشم، وقد ساءهم أكثر استمرار تدفق المجاهدين على طرابلس وبرقة من جهة تونس، ومن جهة مصر. ولمواجهة هذا الموقف، قامت إيطاليا بإبرام اتفاقيتين سريتين، إحداهما مع فرنسا والأخرى مع بريطانيا، لمنع تدفق المجاهدين العرب والأسلحة على طرابلس وبرقة من جهة كلٍّ من تونس  ومصر، كلٌّ من جهته، وظلت قواتها متمركزة في خنادقها على الساحل تحت حماية مدافع الأسطول، حتى التوقيع على معاهدة الصلح (التركية – الإيطالية) في لوزان في 18/10/1912م، ومن ثَمَّ انسحاب القوات العثمانية من طرابلس الغرب، وإعلان طرابلس وبرقة مستعمَرتَين إيطاليتين، وذلك بعد قلاقل عنيفة خلقتها إيطاليا للدولة العثمانية في الداخل، وبعد ضغوط مارستها القوى الأوروبية الكبرى عليها – وخاصة بريطانيا وفرنسا – انتصاراً لإيطاليا، ولأنها اعتبرت الوجود الإيطالي في شمال إفريقيا تعزيزاً للوجود البريطاني والفرنسي في المنطقة، وأنه سيجعل هذه الدول الثلاث (سيدة الشمال الإفريقي الإسلامي). وترافق ذلك مع استمرار المقاومة الضارية من قبل المجاهدين العرب وبقايا الضباط العثمانيين الذين رفضوا الانسحاب، هذه المقاومة التي قادها أحمد الشريف السنوسي (1873 – 1933م) في برقة، وسليمان الباروني (1870 – 1940م)، ورمضان السويحلي (1879 – 1920م) في طرابلس، ولذلك فقد ظلت القوات الإيطالية شبه محاصرة في الشريط الساحلي الشمالي، وظل احتلالها لطرابلس وبرقة ضعيف الأثر، وازداد ضعفاً بعد معركة القرضابية في 29/4/1915م، والتي هُزِم فيها الجيش الإيطالي شر هزيمة في سرت، واستمر الوضع كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1917م، ولم يتغير هذا الموقف إلا بعد قيام الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني (1883 – 1945م) عام 1922م. ففي مطلع هذا العهد شنَّ الإيطاليون حرباً لا هوادة فيها على موانئ ومدن طرابلس الغرب، براً وبحراً وجواً، وأعادت احتلالها الواحدة تلو الأخرى، وهو ما اضطر الأمير السنوسي للانسحاب إلى مصر، تاركاً أمر قيادة المجاهدين في برقة لمساعده عمر المختار.

ثالثاً: عمـر المختار أسد الجبل الأخضر:

وكان عمر المختار قد ولد في عام 1858م شرقي برقة، وتلقى تعليمه في كتاتيب وزوايا الحركة السنوسية، فحفظ القرآن، ودرس العربية، والفقه، ونشأ في بادية برقة التي خرج منها المجاهد الكبير عقبة بن نافع، وفيها تعلم ركوب الخيل وفنون القتال، والرمي بالبندقية، وصار فارساً لا يشقُّ له غبار، وامتاز عمر المختار بالنباهة، والذكاء، والبساطة، وكان متوسط القامة، صحيح الجسم، ذا قوة بدنية كبيرة، وشجاعة نادرة، وكان له هيبة ووجاهة بين الناس، وكانت تربطه صلات شخصية مع زعماء القبائل في برقة، وكان موضع ثقة زعماء الحركة السنوسية، وأحد مريديها المخلصين، تلك الحركة الإصلاحية التي ظهرت في القرن التاسع عشر على إثر الجمود الذي أصاب الدول العثمانية، وحملت على عاتقها دعوة الناس إلى العودة إلى الدين الحق، وإلى الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وامتازت عن غيرها من الطرق الصوفية بدعوتها للعلم، وإقامة مؤسساته، وبجعل العلم مقترناً بالعمل والإنتاج. «ويبدو هذا واضحاً في الزوايا التي كانت تحوي المساجد والمدارس والمزارع والمتاجر» معاً، وبصورة جعلت منها «مراكز نهوض ديني، واقتصادي، واجتماعي». وكان عمر المختار في شبابه قد شارك إلى جانب الحركة السنوسية في الجهاد ضد الفرنسيين في بلاد السودان الغربي، وأثناء غزوهم لتشاد عام 1900م، وقام بعمليات جريئة ضدهم هناك، فذاع صيته، وأخذ يتنقل بين القبائل الإفريقية يدعوها إلى الإسلام قبل أن يعود إلى برقة ويصبح شيخاً لزاوية القصور سنة 1902م. وفي عام 1908م شارك في القتال، ضد القوات البريطانية على حدود مصر، وهو القتال الذي انتهى باحتلال البريطانيين لبلدة السلوم الواقعة على الحدود المصرية. وعندما غزت إيطاليا بلاده، كان عمر المختار أول من نهض وحمل السلاح لقتالها، ولعب دوراً هامّاً في التعبئة وفي تنظيم حركة الجهاد لمواجهة الغزو الإيطالي لبرقة، وشارك على رأس ألف مقاتل «في معركة السلاوي التي وقعت في جنوب بنغازي في 19/10/1911م، والتي ألقى الإيطاليون فيها بقرابة عشرة آلاف جندي. كما شارك برجاله في المعارك التي حدثت بين الغزاة، والمجاهدين العرب والأتراك، بصورة حازت على «إعجاب الضباط الأتراك به وبشجاعته، وبالآراء السديدة التي تصدر عنه، فكأنما هي تصدر عن قائد ممتاز تخرج من كلية حربية عسكرية». كما شارك بعد ذلك في جميع المعارك التي دارت في نواحي برقة خلال فترة الحرب العالمية الأولى، وهي الفترة التي شهدت أعظم انتصارات المجاهدين، وأكثر هزائم الإيطاليين، وكان خلال هذه الفترة اليد اليمنى للزعيم السنوسي أحمد الشريف حتى رحيل هذا الأخير إلى مصر عام 1922م كما ذكرنا، فحينئذٍ تصدى عمر المختار لقيادة حركة الجهاد في برقة بكفاءة واقتدار، واتخذ الجبل الأخضر مركزاً لقيادته، وذلك في وقت وصلت فيه غطرسة الإيطاليين ذروتها، بعد أن ألغى موسوليني كل الاتفاقات مع الطرابلسيين والسنوسيين، وأمر باستعمال أقسى الأساليب لسرعة وأد الحركة الجهادية، وفعلاً تم خنق الجبهة الغربية، وجبهة جنوب طرابلس، وبقي عمر المختار هو القائد الوحيد للمجاهدين في الساحة. ومع قلة إمكانياته، والفارق الهائل في ميزان القوة، فقد ظل يقاوم القوات الفاشية لمدة سبع سنوات متواصلة دون توقف، وظلت حرب العصابات التي كان يشنها هو ورجاله ضدها، كابوساً يقضُّ مضاجعها، ويقلق راحة حكومتها، حتى اضطر النظام الفاشستي لتغيير خطته عام 1929م، فانتهج أسلوب المفاوضات لعله يحقق من خلالها ما لم يستطع تحقيقه بالحديد والنار، ولكن المفاوضات مع عمر المختار فشلت لأنها كانت مفاوضات عبثية، لكسب الوقت، ولاشتراء عمر المختار ورجاله بالمال، مقابل وقف القتال، والدخول في طاعة السلطات الاستعمارية.

رابعاً: غراتسياني الجزار يتولى القيادة:

هكذا، ونتيجة لفشل المفاوضات، أسند الزعيم الفاشستي الطاغية موسوليني إلى الجنرال غراتسياني (1882 – 1955م) مهمة سحق المجاهدين في برقة وشيخهم عمر المختار، وكان غراتسياني قد اكتسب شهرة خلال حربه ضد المجاهدين في جبهة طرابلس، تلك الحرب الطويلة التي انتهت بإخضاع هذه الجبهة، بعد فظائع مروعة، وجرائم حرب ارتكبها هذا الجزار، ضد المدنيين العزل. وصل غراتسياني إلى بنغازي في أواخر مارس 1930م، وهو يختال كالطاووس في زيه العسكري الذي تتدلى منه الرتب والنياشين؛ فقد كان مصاباً بداء التفوق والعظمة، وكان يطفح بالعنصرية والتعصب للقومية الرومانية، وكان كسيده موسوليني ونظامه الفاشستي، يكنُّ عداءً شديداً للغة العربية والدين الإسلامي، ولذلك فقد وقف غراتسياني لدى وصوله إلى بنغازي خطيباً في جنوده وفي المستوطنين الإيطاليين، في هذه المدينة العربية المسلمة، وكان مما قاله لهم في نهاية هذه الخطبة:

«تذكروا أنكم رومان… هذا البلد ملك لنا، أرض أجدادنا، قبل أن يحتله البرابرة… تذكروا أنكم رومان وتحاربون برابرة… تذكروا أن تتصرفوا معهم تصرف الأسياد مع العبيد».

وبعد ذلك باشر غراتسياني في تنفيذ خطته الجنهمية للقضاء على عمر المختار ورجاله، والتي ارتكزت في بداية الأمر على نزع السلاح من السكان، وتجريدهم من وسائل الدفاع، ثم قام بإنشاء معسكر اعتقال جماعي في الصحراء المحرقة، ونقل إليه سكان الجبل الأخضر، وحشرهم فيه مع إبلهم ومواشيهم لكي يعزلهم عن المجاهدين عزلاً تامّاً، ويجعلهم تحت الرقابة الدائمة والحراسة المشددة، وأمر بسكب الإسمنت في الآبار، ليحول بين المجاهدين وبين التزود بالمياه. ونتيجة لهذا العقاب الجماعي، فقد مات المئـات جوعاً وعطشاً ونتيجة الإصابة بالأمراض الفتاكة، وبخاصة الأطفال والشيوخ، كما نفقت الحيوانات.

وفي غضون ذلك أنشأ غراتسياني المحكمة العسكرية الطائرة، لتنتقل جواً من مكان إلى آخر لمحاكمة المشتبه فيهم بالعمل ضد السلطات الإيطالية المحتلة، وإعدامهم في الحال، وقد حكمت هذه المحكمة، بالإعدام على العشرات، ونُفِّذ فيهم الحكم فوراً وعلناً لإرهاب الناس، وأحياناً كان يتم إلغاء حكم الإعدام للمتهمين، ويتم إرسالهم إلى معسكرات السخرة في (المرج) ليعملوا في استخراج الملح من باطن الصحراء الملتهبة، فكان معظمهم يموت بعد وقت قصير لتشقق جلودهم من الملح، والحرارة الشديدة، وقلة العناية الصحية، وسوء التغذية. ثم قام غراتسياني بالزحف على رأس قواته، لاحتلال واحة الكفرة، المركز الرئيسي الثاني للسنوسيين، والتي تقع على بعد ألف كيلو متر جنوب بنغازي، وذلك لأجل قطع الإمدادات والذخيرة عن المجاهدين، فعبرَت إليها دباباته ومجنزراته الحاملة لشعار الصليب، على جثث وجماجم أهلها، الذين قاتلوا حتى آخر نَفَس، وآخر طلقة، ثم أباحها غراتسياني لجنوده عدة أيام، فاغتصبوا النساء، وقتلوا الشيوخ والأطفال، ومثَّلوا بالجثث، وقاموا برمي الأسرى من الطائرات من ارتفاعات شاهقة، على صخور الجبال، وفعلوا الأفاعيل. وبعد ذلك مُدَّت الأسلاك الشائكة العادية والمكهربة على طول الحدود المصرية البالغة (270 كيلو متراً)، وأقيمت حصون لمراقبة هذه الحدود. وبذلك تم إحكام الحصار على عمر المختار ورجاله، وعزلهم في الجبل الأخضر، وتحويله إلى ساحة للمعارك المتواصلة بين القوات الإيطالية، المزودة بالأسلحة الحديثة والطائرات، وبين بضعة مئات من الرجال الذين لا يملكون غير بنادقهم، والذين تتناقص مؤنهم وذخيرتهم وأعدادهم يوماً بعد يوم. ونتيجة لذلك فقد أخذ حالهم يسوء باستمرار، حتى نفدت أقواتهم، ولم يتبقَّ لديهم ما يسد الرمق، وحتى صار يتعذر عليهم البقاء في مكان واحد أكثر من بضع ساعات لالتقاط الأنفاس، فلم يكن يمر يوم دون اشتباكٍ مسلح، وصدام دموي، مع قوات العدو. ومع كل ذلك، لم ييأس عمر المختار، ولم يَهَب، ولم يجبن، ولم يفقد إيمانه بعدالة قضيته، وثقته بنصر ربه.

خامساً: الموقف الحرج وأسر البطل وإعدامه:

«في تاريخ 25/8/1931م اعترضت القوات الإيطالية رسالة موجهة من عمر المختار إلى أمراء مصريين وشخصيات عربية ومصرية، يطلب منهم المساعدة والعون لمواصلة الكفاح»، فأدركت قيادة تلك القوات مدى ما وصل إليه المجاهدون من جَهد، ومشقة، وفاقة، وموقف حرج، وأدركت أن خطتها في طريقها إلى النجاح، فكثفت طائراتُها من ضرباتها لهم، وقصفتهم بالغازات السامة، فصاروا يتنقلون من كهف إلى كهف، ومن دغل إلى دغل، والجواسيس يترصدونهم أينما حلُّوا، حتى استطاعت إحدى الطائرات تحديد المكان الذي يوجد فيه عمر المختار، فحشدت القوات الإيطالية للمعركة النهائية أعداداً كثيرةً، وأطبقت على ذلك المكان تتقدمها كتيبة الصواري المكونة من البدو الخونة، الذين يعرفون تضاريس المنطقة ومسالكها، ثم باشرت هجومها على المجاهدين الذين لم يكن قد تبقى منهم حول عمر المختار سوى العشرات، فأسرع هؤلاء المجاهدون بالتفرق هرباً من القذائف التي راحت تنهال عليهم كالمطر، وفي تلك الأثناء أصيب جواد عمر المختار بطلق ناري فانقلب وهو على ظهره، فأصيب بجروح، وحاول الاختباء خلف شجرة، ولكن أحد الخونة دلَّ عليه الإيطاليين، فسارع هؤلاء بتطويقه والقبض عليه، وكان ذلك في 11/9/1931م.

ويومئذٍ كان غراتسياني في روما، وكان يتعرض للنقد والتوبيخ من قبل الصحافة الإيطالية لعجزه عن القضاء على عمر المختار، رغم مرور سنة ونصف على تعيينه، فلما أعلموه بأسر عمر المختار شعر بالبهجة، وعاد إلى بنغازي في اليوم التالي على متن طائرة خاصة، فالتقى بعمر المختار وهو مكبلٌ بالسلاسل، ويتحرك بصعوبة شديدة، لذلك أولاً، ولكبر سنه ثانياً. وحاول أن يبتزه وهو في هذا الوضع لكي يدعو المجاهدين، للاستسلام، مقابل الإبقاء على حياته، ولكنه أبى، فسارع غراتسياني بإحالته إلى المحكمة العسكرية الطائرة، التي قضت بإعدامه شنقاً، بعد محاكمة هزلية صورية، وتم شنقه في بلدة سلوق بجنوب بنغازي صباح يوم 16/9/1931م، فعمت إيطاليا موجة من الفرح نتيجة لذلك. وكان عمره حينذاك 75 عاماً، أمضى منها 20 عاماً في جهاد الإيطاليين الغزاة؛ إذ خاض ضدهم إلى جانب إخوانه عشرات المعارك، وألحق بهم هزائم كثيرة، وسدد لهم ضربات موجعة، وظل كابوساً يقض مضاجعهم حتى آخر لحظة، وتغير خلال فترة مقاومته خمسة ولاة إيطاليين في برقة. وفي النهاية خسر روحه وربح الشهادة، وتلك هي الصفقة الرابحة. ونجح عمر المختار، في تأخير مشاريع إيطاليا الاستيطانية في إقليمي طرابلس وبرقة، وفي عرقلة جميع مخططاتها في هذا الخصوص؛ إذ إن عدد المهاجرين الإيطاليين إلى هذه المستوطنات لم يتعدَّ 36 ألفاً من العاطلين الذين ظلوا عالة على الخزينة الإيطالية، وكانوا يكلفونها مبالغ طائلة، لأنهم ظلوا في وضع قلق وغير مستقر، نتيجة لضربات عمر المختار ورفاقه، وظلوا يعتمدون على بلادهم الأصلية، في كل ما يحتاجون إليه، ولم يحدث الاستقرار إلا بعد سنة 1932م؛ أي بعد استشهاد عمر المختار، فأدخلت حينئذٍ الإصلاحات على المدن طرابلس وبنغازي وغيرهما لجعلها شبيهة بالمدن الإيطالية، وتم تعميم استعمال اللغة الإيطالية، وبدأ التنفيذ الفعلي الممنهج لمشروع (الطلينة). إلا أن الاحتلال الإيطالي لإقليمَي طرابلس وبرقة لم يطل، إذ لم تلبث الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) أن اندلعت فدخلتها إيطاليا إلى جانب ألمانيا، فحلت بها الهزيمة، وأعدم موسوليني وسقط نظامه الفاشستي، واستسلم غراتسياني للحلفاء على رأس 100 ألف من جنوده بصورة مخزية، وحوكم على أنه مجرم حرب، وأهين شر إهانة. ولذلك لم يتسنَّ لإيطاليا تطبيق مشروعها الثقافي و (طلينة) البلاد، وخرجت منها خائبة مدحورة، قبل أن يتأصل هذا المشروع، ولذلك فقد ظل أهلها بشكل عام، محتفظين بهويتهم، ولم يلحقهم المسخ، الذي لحق بإخوانهم في الجزائر، وتونس، والمغرب.

 

[1] استخدمت هذا الاسم لأنه هو الاسم الذي كان متداولاً، آنذاك، أما اسم (ليبيا) فقد اخترعه الإيطاليون لهذا البلد القارة، ولم يتداول رسمياً إلا منذ عام 1932م، وهذا مثلما اخترع الفرنسيون اسم (موريتانيا) لبلاد شنقيط، واسم (سوريا) لبلاد الشام، وهذه الأسماء لا تمتُّ لإسلامنا ولغتنا، بأي صلة، ولا تعكس هوية هذه البلدان، وهي مثقلة بمخلفات الماضي الاستعماري البغيض.

[2] لقب يطلق على الحاكم العام في تونس والجزائر.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى