بقلم السعيد صبحي العيسوي
للْعلم طغيان كما للغِنى … والْعلم بالطغيان لا ينفع[1].
بعد أن تمكنت جذورُ الخيلاء والاغترار الخفية من قلب ذلك الطالب وسقيت بماء الفخر، تطوّر أمرها بعد ذلك إلى ولاء وبراء على الأقوال والمواقف ليوالي ويعادي على أقواله ومواقفه، ثم تكون ثالثة الأثافي: انتكاسة مُردية عن مقصد العلم الشريف..
حينها يتردى علمه من جليل المقصد إلى أحط الأغراض وآسفها؛ ليشهر العلم سلاحاً طاغياً في الأندية؛ لينتقل من عالم الفكر والسلوك السوي إلى حلبات احتراب وتراشق.
استعمل بعض العلماء هذا المصطلح قديماً، فها هو يوسف بن الحسين الرازي، رحمه الله، يقول: (ينجيك من طغيان العلم العبادة)[2].
ومن عبارة الرازي رحمه الله آنفة الذكر تلمس أن المصروف عن تغيي المقصد التعبدي للعلم قد يحل بوادي الطغيان.. وصدق.
فأي وئام وسلام أو أي تحقيق أو أدب يُرتجى ممن نصب مسائل العلم حرباً بينه وبين مخالفيه؟!
كأنه يرى سيف الاحتراب أقرب إلى يده وقلبه من قلم العلم والبحث!
أو أن سلاطة اللسان على المخالف آكد من اعتمال الفكر في مباحث العلم وصولاً إلى الحق!
ومن تأمل أمر قارون علم أن العلم قد يقود إلى البغي والطغيان.
قال ابن عطية: (وهو بإجماع رجل من بني إسرائيل كان ممن آمن بموسى وحفظ التوراة وكان من أقرأ الناس لها، وكان عند موسى من عباد المؤمنين ثم إنه لحقه الزهو والإعجاب فبغى على قومه بأنواع من البغي)[3].
إنّ مكمن الخطرِ على من طغى وسلَّ سيف الاحتراب مِن المنتسبين إلى الطلبِ: كونُه يُقدِّمُ أُنموذجًا سيِّئًا عن العلمِ وطلابِه, وكفى بهذا جُرْمًا وألمًا! وكونُه كذلك مصروف عن العلم وهدايته، وعن جُنة التحقيق والنظر الهادئ، والالتذاذ بسير السلف والعيش في كنفهم، والاقتداء بهم، والتعطر بجميل عَرفهم.
يا طالب الرقي والمدارج..!
بعد أن أراك الله علوم السلف وخضت البحر الخضم، وعاينت لذة العلم، هل تترك كل ذلك للحن القول وزوره؟! وهل تترك غاية العلم ومقاصده التعبدية والدعوية والأخلاقية لتجعله سوطاً لإثبات الكينونة والتمكن؟!
أذكرك بقول الله تعالى: {وعَصيتُم منْ بعدِ ما أراكم ما تُحبون}.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه،،
—————————————-
[1] خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (4/ 194).
[2] حلية الأولياء (10/ 239).
[3] المحرر الوجيز (4/ 298).
(المصدر: صيد الفوائد)