الطغاة والركوب على أمجاد الماضي
بقلم رشاد الشواشي
توقع أن أغلب السادة القراء إما قد اطلعوا أو شاهدوا أو سمعوا خبرًا عن الموكب الذي نظم في قلب العاصمة المصرية القاهرة يوم السبت الماضي، وذلك لنقل رفات 22 مومياء من ملكات وملوك الفراعنة من المتحف المصري في القاهرة إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط. بعيدًا عن زاوية التحليل السياسي لهدا الحدث، لا يمكن أن ننكر أن العرض كان رائعًا وأن مجهودات فنية وتسويقية كبيرة وضعت في العمل، وهذا الجانب الإبداعي وجب أن يتناول بمعزل عن الجانب السياسي لهذا الاحتفال والذي سيكون موضوع هذا المقال.
نعم، للاحتفال مرامي سياسية من قبل النظام مهما حاول البعض إنكارها، وعلى رأس قائمة هذه المرامي هي تجميل صورة النظام في الداخل والخارج، وهي الصورة التي تلوثت كثيرًا من جراء انتهاكات حقوق الإنسان وفساد النظام الذي تجسد في الأسبوع الأخير الذي سبق العرض، عندما رأينا إحدى أكبر سفن الشحن العالمية عالقة في قناة السويس لمدة أيام، وحوادث القطارات الدموية تتكرر من جديد والعمارات القديمة تنهار مثل البسكويت.
بعيدًا عن الجانب السياسي الربحي، اهتمام النظام بإحياء البعد الفرعوني للهوية المصرية كان قد بدأ منذ سنوات، وقد تجسد ذلك في الطراز المعماري الذي جرى اختياره لبعض الأبنية الحكومية في العاصمة الإدارية الجديدة، وقد مثلت المناسبة الأخيرة فرصة لدعاة القومية المصرية (التي ترى في الهوية الفرعونية أساسًا للهوية القومية المصرية) لرفع نبرة خطابهم من جديد والدعوة إلى القطع مع الهوية القومية العربية وبناء شخصية مصرية مستقلة بنفسها، وقد رأينا بعضهم يدعو حتى إلى تمصير التعليم بعد أن قررت وزارة التعليم تدريس الكتابة الهيروغليفية في بعض المناهج الدراسية للعام القادم.
الشاه والحفل الأعظم في التاريخ
قبل السيسي بنصف قرن وبالتحديد في أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1971، كان شاه إيران محمد رضا بهلوي بصدد وضع اللمسات الأخيرة على حفله الذي كان يراد له أن يكون «حفل القرن» وذلك لإحياء الذكرى 2500 لقيام الإمبراطورية الأخمينية الفارسية على أيدي الملك قورش الأكبر. وسط الصحراء الإيرانية وبالتحديد بين أنقاض مدينة برسيبوليس التي كانت عاصمة الدولة الوليدة آنذاك، جلس قادة العالم ليشاهدوا العرض العظيم الذي كان يراد له أن يجسد عهد حكم آل بهلوي بصفته «إعادة إحياء للحضارة الإيرانية من جديد» كما دونت ذلك زوجة الشاه فرح ديبا في مذكراتها.
تحضيرات هذا الحفل كانت قد بدأت قبل أكثر من عام، حيث كلفت بها فرق عالمية متخصصة في مجال تنظيم الحفلات، وقد كان كل شيء من أعلى طراز سواء على مستوى المأكل أو الديكور أو العروض الفنية. على مرمى حجر من آثار مدينة برسيبوليس، تم نصب مدينة الخيام لتكون مقر إقامة الضيوف الذين سيمكثون فيها لأكثر من يوم، وهي ليست من الخيام التي نرى اليوم اللاجئين يحتمون بها من قسوة الشتاء وحر الصيف، بل كانت عبارة عن بيوت فاخرة من الداخل تتوفر فيها كل وسائل الراحة والاستجمام للمقيم فيها.
في شهادات بعض المشاركين في تنظيم الحفل، ذكرت بعض الحقائق والأرقام التي تبدو كافية للتدليل على حجم الأموال التي أنفقت عليه. فإلى جانب مدينة الخيام التي احتاجت إلى 37 كم من قماش الحرير، بني مطار ميداني لكي ترسو فيها طائرات الزوار. وحتى تمتزج الصحراء بالمناطق الخضراء، تم زرع غابة كاملة إلى جانب المدينة الأثرية ووقع استجلاب 50 ألف طائر من أوروبا لكي تستوطنها لكن جميعهم مات بعد 3 أيام لعدم تحملهم مناخ المنطقة. أما على مستوى المأكل والشراب، فقد تم التعاقد مع أفضل المطاعم في العالم آنذاك وهو مطعم فرنسي باريسي، قدم ما يقدر بـ18 طنًّا من مختلف المأكولات، بالإضافة إلى 4500 قارورة من مختلف أنواع المشروبات الكحولية الفاخرة.
انتهى الحفل وعاد الضيوف إلى بلدانهم، فبدأت التساؤلات عما قدمه الحفل للمواطن الإيراني المفقر، وعن جدوى تعظيم الماضي في حين أن الحاضر بائس، وقد كان اقتداء الشاه بقورش الأكبر كالسحر الذي انقلب على الساحر؛ إذ اشتهر قورش بإصداره أقدم إعلان لحقوق الإنسان في العالم، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، في حين أن حكم الشاه كان أبعد ما يكون عن احترام الحريات وحقوق الإنسان بالرغم من أن الأول سبقه بـ25 قرنًا في حين أن الثاني لم يؤمن بهذه القيم وهو يحكم دولة في القرن العشرين.
من جانب آخر، تحليلات بعض المتخصصين في تاريخ الثورة الإيرانية تذهب إلى حد اعتبار أن الحفل كان من الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى إطاحة نظام الشاه، حيث كان الإنفاق الكبير على مثل هذه المناسبات مقابل إهمال الاهتمامات الحقيقية للمواطن سببًا أساسيًّا في تزايد النقمة الشعبية عليه، وقد قدم الحفل لمعارضي الشاه هديتين لا تقدران بثمن، الأولى عندما وفر لمعارضيه خاصة من رجال الدين مادة دسمة لتأليب الشارع عليه والثانية عندما وحد مختلف أطياف المعارضة من إسلاميين ويساريين وطلبة ضد نظامه.
نبوخذ نصر الأمس.. صدام حسين اليوم
غير بعيد عن بلد الشاه، وبالتحديد في العراق الجار، كان هناك ديكتاتور آخر مفتون هو الآخر بشخصية من التاريخ القديم ويحلم أن يكون نسخة عنها في القرن العشرين وهذا القائد لم يكن غير صدام حسين. كغيره من طغاة عصره الذين يستمدون أفكارهم من القاموس نفسه، اتخذ صدام لنفسه شخصية من تاريخ بلده القديم لتكون مصدر إلهامه محاولًا محاكاتها وإعادة تجسيدها في زمنه الحاضر سواء من خلال الإنجازات المعمارية، أو الأعمال الفنية، أو حتى انتصاراته العسكرية، وذلك حتى يرسخ عن نفسه صورة الرجل القوي والقائد المجدد.
منذ وصوله الفعلي إلى السلطة في العام 1968 أمر صدام بإطلاق مشروعات لترميم المدن الأثرية التي كانت لها مكانة وإسهامات كبيرة في الحضارة الإسلامية والإنسانية، وقد كان على رأس هذه المدن التي أولاها صدام الاهتمام الأكبر واعتبرها درة التاج بينها هي مدينة بابل التاريخية التي اكتمل إعادة بناء أسوارها سنة 1987 ومن ثم نقش اسم صدام على بعض حجارتها، كما فعل ذلك من قبله الملك نبوخذ نصر الذي شهدت المدينة في عهده أعظم فترات ازدهارها. ما أقدم عليه صدام مثل جريمة في حق رمزية الموقع التاريخية وهي لا تقل عن جريمة من يحطمها، وقد تم التنديد بما أقدمت عليه الحكومة العراقية آنذاك من قبل مجتمع علماء الآثار حول العالم، ووقع إزالة المدينة من قائمة اليونسكو للتراث العالمي قبل أن يعاد إدراجها في سنة 2019.
في الواقع، صدام لم يكتف بتلك الجريمة فحسب، بل إنه بنى قصرًا فسيحًا يطل على المدينة الأثرية وكأنه أحد ملوك بابل في الزمن الحاضر، ولا أدل على ذلك الهوس بعظمتهم من المقولات التي كانت ترددها آلته الدعائية «نبوخذ نصر الأمس، صدام حسين اليوم»، و«من نبوخذ نصر إلى صدام حسين، بابل تنهض من جديد». في المحصلة، كانت هذه الأوهام هي التي قادت صدام ذات ليلة لغزو الكويت ومن ثم قصف إسرائيل بصواريخ السكود أثناء الحرب مع قوات التحالف الثلاثيني معتقدٕا أن أبواب القدس سوف تفتح أمامه كما فتحت يوما لجيوش نبوخذ نصر، لكن النهاية كانت كما يعلمها الجميع.
موسوليني.. أغسطس الجديد
من الشرق ننتقل إلى الغرب، وبالتحديد إلى حقبة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حيث كان القائد الفاشي الإيطالي موسوليني مهووسًا بكل ما يمت بصلة للحضارة الرومانية، والذي كان يرى في نفسه أغسطس الجديد الذي سيحيي إمبراطورية روما من تحت الركام ويعيد إليها مجدها، وقد عملت آلة نظامه الدعائية خلال فترة حكمه على ترسيخ سردية مفادها أن إيطاليا الفاشية هي وريثة الإمبراطورية الرومانية بكل ما يعنيه ذلك من استعادة لنفوذ تلك الإمبراطورية التي هيمنت في يوم ما على كل سواحل المتوسط وقهرت أعداءها في عقر دارهم.
من أجل إرساء هذا المشروع على أرض الواقع، أطلق موسوليني في مرحلة أولى مشروعات ضخمة للتنقيب عن آثار روما القديمة وإعادة ترميمها بعد أن طمست بين أبنيتها الحديثة، وقد تم في هذا الإطار حفر ضريح الإمبراطور أغسطس، وأقيم حوله ميدان يجسد الأفكار الفاشية، وأزيلت كذلك المباني التي كانت تحيط بمسرح مارسيليوس الروماني وأعيد حفر أرض المسرح للكشف عن الأنفاق الموجودة تحتها. من جهة أخرى، تبنى الفاشيون الطراز المعماري الروماني على مستوى إنشاء الهياكل الهندسية الجديدة والتي كان أهمها قصر الحضارة الإيطالية في العاصمة روما، ومبنى مكتب البريد في مدينة باليرمو وقصر العدالة في مدينة ميلان.
في المرحلة التالية من مشروعهم، انطلق الفاشيون في حروبهم بالخارج لإعادة السيطرة على الحيز الجغرافي الذي شغلته الإمبراطورية الرومانية في يوم ما، وقد كانت حروبهم الأولى في ليبيا، والصومال، وإثيوبيا، وألبانيا قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن ثم في اليونان، ويوغوسلافيا، وتونس ومصر خلال فترة الحرب، وقد إنتهى الأمر بالإمبراطورية الإيطالية الفاشية وموسوليني إلى ما تعلمونه جميعًا.
في هذه الأثناء، يبدو أن السيسي ما زال تقوده أوهام وجنون العظمة ولم يتعلم الدرس من كل من سبقوه في مضمار تعظيم الماضي ومحاولة إسقاطه على الحاضر، وها نحن نرى أن جل الطغاة المذكورين إما انتهى بهم الأمر قتلى أو هاربين في الخارج، ولم يقودوا شعوبهم إلى المجد الذي وعدوهم به. فمحمد رضا بهلوي انتهى به الأمر هاربًا تحت جنح الظلام صحبة عائلته بعد أن خرج ملايين الإيرانيين ضد نظامه في الشوارع، وموسوليني إنتهى به الأمر قتيلًا معلق الجثة على أيدي شعبه، وصدام حسين انتهى به الأمر على حبل المشنقة بعد أن وقع أسيرًا في أيدي الغزاة، فهل تكون نهاية السيسي كنهاية العظماء أو كنهاية التعساء؟ هذا ما سوف يجيبنا عنه المستقبل.
(المصدر: ساسة بوست)