مقالاتمقالات مختارة

الطريق الثابت إلى التغلب على الأعداء

الطريق الثابت إلى التغلب على الأعداء

بقلم نور عالم خليل الأميني

إلقاءُ نظرةٍ واحدةٍ على واقع الأمّة المسلمة اليومَ يكفي لتَبَيُّنِ أنّ الأمم كلَّها — الكافرة والمشركة بكلّ فئاتها وأنواعها وأعراقها وأجناسها — قد تَدَاعَتْ عليها تَدَاعِيَ الأَكَلَةِ على قَصْعَتِها. وكلٌّ منها تريد أن تَبْتَلِعَها كيانًا وعقيدةً وثقافةً وتقاليدَ ومنهجَ حياة، وكلَّ شيءٍ تمتاز به عن غيرها؛ فلا يبقى لها عينٌ ولا أثرٌ.

     ومحاولةُ الابتلاعِ هذه لاتقتصر على شكل واحد، وإنما تَشْمَلُ كلَّ الأشكال والأنماط. والمحاولةُ لا تفتر ولا تتوقّف مهما كانت الأحوال، وإنما هي جاريةٌ بشدّة وحماس؛ غيرَ أنّ تنوَّعَها وظهورَها بألوان كثيرة قد يُوهِم الأمّةَ أحيانًا أنّها – المحاولة – فَتَرَتْ أو تَوَقَّفَتْ، والأحوالَ قد تَغَيَّرَتْ، والخَطَرَ لم يَعُدْ قائمًا، أو على الأقل لم يَعُدْ مُهَدِّدًا كالسابق؛ فالفرصةُ مُتَاحَةٌ لتَلْتَقِطَ الأنفاسَ، وتَسْتَجِمَّ لحَظَاتٍ، وتَنْتَزِعَ بعضَ الأشواك التي شَاكَتْ أخْمصَ قَدَمَيْها.

     ويبدو كأنَّ الشيطانَ هَمَسَ في أُذُنَيْ تَلاَمِيذِه كلِّهم أنَّ الفرصةَ اليومَ مُتَاحَة بشكل لا تُتَاح به فيما يأتي للانقضاض على أمّة الرسول الهاشميّ القرشيّ صلى الله عليه وسلم – التي تمتاز عن غيرها في كلّ عناصرها التي تُشَكِّل كيانَها – بكل حيلة أَلْهَمَهُم أُستاذُهم و وَلِيُّهم الشيطانُ؛ فعادوا يُجَرِّبُونَها في الأمّة المسلمة، عَلَّهم يصيبون منها المقتلَ.

*  *  *

     الحربُ التي مُنِيَتْ بها الأمَّةُ في الماضي ظلَّتْ في الأغلب مُسْتَهْدِفةً ناحيةً أو ناحيتين من نواحي حياتها الماديّة والمعنويّة؛ ولكنَّ الحربَ التي يَشُنُّها عليها الأعداءُ اليومَ، شاملةٌ من شتّى الوجوه؛ فالأمم كلُّها مُشَارِكةٌ فيها بشكل من الأشكال تحت قيادة الصهيونيّة العالمية والصليبية المُتَصَهْيِنَة. وهي لاتَسْتَهْدِف كيانَ الأمّة المادِّيَّ وحدَه، وإنما تَسْتَهْدِف كذلك كيانَها المعنويّ: دينَها وجميعَ موروثاتِها النابعةَ منه، الراجعةَ إليه، القائمةَ به، من الثقافة والحضارة، والمُثُل والقِيَم، والتاريخ والتُّرَاث، والتقاليد والطُّقُوس، والعادات والأعراف.

     فالأمّةُ تُقَتَّل هنا وهناك دونما رحمة و دونما هوادة، حتى في بلادها هي وفي عُقْرِدارها، بأيدي الأعداء مُبَاشَرَةً وبأيدي أبنائها الذين اصْطَنَعَهم الأعداءُ بحيل عديدة أَتْقَنُوها، فلا تَفْشَل أبدًا، وإنما تُصيبُ الصيدَ دائمًا، بشكل يجعل الحليمَ الحكيمَ الخبيرَ حيرانَ. وهِيَ تُنْفَى وتُشَرَّدُ، وتُنْتَهَك أعراضُها، وتُغْمَطُ حقوقُها، وتُغْصَبُ أراضيها، وتُسْلَب مُمْتَلَكَاتُها، وتُنْهبَ خيراتُها، وتُسْرَق مقدراتُها، وتُحْتَلُّ بلادُها، ويُسْبَىٰ شبابُها، ويُسَخَّر رجالُها، ويُذَلُّ أبطالُها، ويُعَذَّب فِتْيَانُها، وتُغْتَصَب فتَيَاتُها، ويُجَوَّع ويُعَطَّش شيوخُها وعجائزُها، وتُحَارَبُ نساؤها المُحْتَجِبَات العفيفات المُحْصَنَات، ويُشَوَّهُ تأريخُها، وتُغَيَّرُ مَنَاهِجُ تعليمها، ويُفْرَضَ الْحَظَرُ على كتاب ربّها، ويُسْخَر من نبيّها الخاتم – صلى الله عليه وسلم – ويُشْتَمُ آلُه وأصحابُه وزوجاتُه – صلى الله عليه وسلم – ويُحَرَّشُ بين أبنائها، وتُفَرَّقُ كلمتُها، وتُضْرَبُ وحدتُها، ويُوْصَفُ دينُها بأنّه جِمَاعُ البلايا على البشر، وأنّه رأسُ الشرّ، وأنه منبعُ الخطر، وأنّه لا أمنَ ولا سلامَ، ولا تقدّمَ ولا نماءَ، ولا أملَ في كل ما يصبو إليه الإنسان المُعَاصِر إلاّ بالقضاء عليه – الدين الإسلاميّ– وعلى أبنائه «الأُصُولِيِّين» «المُتَصَلِّبِين» «المُتَشَدِّدِين» «الإرهابيين». ويعني بهم الأعداءُ كلَّ الثابتين على الدين والعاملين به أو المحاولين للعمل به كاملاً غيرَ منقوص؛ فكلُّ القائم على الدين كليًّا عند الأعداء أُصُولِيٌّ مُتَصَلِّبٌ مُتَشَدِّدٌ إرهابي!!. ومن ثم تُبْذَل المَسَاعِي حثيثةً لتحويل الأرض على أبناء الأمة – ولا سيّما الأَوْفِيَاء البررة – ضَيِّقَةً بما رَحُبَتْ؛ حتى يُضْطَرُّوا أن يخْلَعُوا رِبْقَتَه – الدين – من أعناقهم؛ ليَنْعَمُوا براحة وسلام!. كما تُبْذَلُ الجهودُ باستمرار أن يعود أبناءُ الأمة نسخةً من أبناء الغرب في الانسلاخ من كل القيم والمبادئ الإنسانية، فيصيروا مُحَاكِين لهم في العري والعار، والفجور والاستهتار، والإثارة الجنسية وأنواع أعمال الفحشاء والشنار.

*  *  *

     والتخلُّصُ من هذه الحالة المُرْدِيَة إنّما يتحقّق بالأخذ بثلاثة أسباب رئيسة:

     (الف) بالعودة إلى الدين بمعنى الكلمة؛ لأنّ الفرقَ بيننا وبين غيرنا هو كونُنا على الدين – الإسلام – وكونُهم على غير الدين. وكونُنا على الدين لا يعني أن نكون مُسْلِمِين بالاسم والرسم، وإنما يعني أن نأخذ بأوامر الله ونواهيه ونتّقيَ اللهَ في السرّ والعلن؛ ونطيعه بالتمسّك بأحكامه، وباتّباع رسوله ﷺ فيما أَمَرَنَا به ونهانا عنه. وإذا تَحَقَّقَ ذلك – تَمَسُّكُنا بالدين ما استطعنا – كان النصرُ حليفَنا، وتوفيقُ الله قرينَنا، وكان هزيمةُ غيرنا من جميع الأعداء مُحَتَّمَةً، مهما كانوا مُدجَّجِين بالأسلحة، مُزْدِحمين بالعَدَد والعُدَد، مُتْخَمِين بصنوف الوسائل ومُعْطَيَات التقدم، ومُنْتَجَات الحضارة، والتكنولوجيا الحديثة التي يتَبَحَّجون بها؛ لأنّنا إذًا – إذا تَمَسَّكْنَا بالدين، واتَّقَيْنا الله، وأَصْلَحْنَا ما بيننا وبينه وجَعَلْنا الآخرةَ نُصْبَ أعيننا، ومَا تَلَهَّيْنا بالدنيا وبنعمها الزائلة وزينتها الخادعة – سنُنْصَر بالرعب، ونُعَزَّزُ بحبّ الله ورسوله.

     وذلك ما أجلاه حكيمُ هذه الأمة أميرُ المؤمنين عُمَرُ بنُ الخطّاب رضي الله عنه في خطابه الشهير إلى سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ إذ قال:

     «أما بعدُ: فإني آمُرُك ومن مَعَك من الأجناد بتقوى الله على كلّ حال؛ فإنّ تقوى الله أفضلُ العُدَّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمُرُك ومن معك أن تكونوا أَشَدَّ احتراسًا من المعاصي منكم من عدوّكم؛ فإنّ ذنوب الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم. وإنّما يُنْصَرُ المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأنّ عددَنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتُنا كعدّتهم؛ فإن اسْتَوَيْنا في المعصية، كان لهم الفضلُ علينا في القوة، وإلاّ نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوّتنا؛ فاعلموا أنّ عليكم في سَيْركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون؛ فاَسْتَحْيُوْا منهم، ولا تَعْمَلوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا: إنّ عدوَّنا شرٌّ منّا؛ فلن يُسَلَّط علينا؛ فرُبَّ قوم سُلِّطَ عليهم شرٌّ منهم، كما سُلِّطَ على بني إسرائيل – لمّا عَمِلوا بمَسَاخِط الله – كُفَّارُ المجوس، فجاسوا خلالَ الدِّيار، وكان وعدُ الله مفعولاً. واسْأَلو اللهَ العونَ على أنفسكم كما تَسْأَلونَه النّصرَ على عدوّكم. أَسْأَلُ اللهَ تعالَىٰ ذلك لنا ولكم».

             (العقد الفريد لابن عبد ربّه الأندلسي، ج1، ص40. نقلاً عن كتاب «جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة» ط: المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، ج1، ص210)

*  *  *

     (ب) والاهتمامُ بإعداد القوة المُرْهِبةِ لأعدائِنا: أعداءِ الله ورسوله. وذلك واجبٌ علينا بنصّ القرآن الكريم؛ إذ قال الله تعالى:

     «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» (الأنفال/60)

     والقوةُ المُرْهِبَةُ لأعداء الله ورسوله: الكَفَرَة والمشركين بأنواعهم تَشْمَلُ جميعَ أنواع آلات وأدوات الحرب والضرب والجهاد التي كانت موجودةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي وُجِدَتْ فيما بعده صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، والتي ستُوْجَدُ إلى يوم القيامة؛ فكلمة «قُوَّةٍ» الواردةُ في كتاب الله عَزَّ وجَلَّ المعجزِ كلمةٌ مُعْجِزَةٌ شاملةٌ لم تغادر أيَّ نوع من القوة الموجودة على عهد النزول وبعده إلى يوم الساعة إلاّ أَحْصَتْه. وكذلك كلمةُ “ما استطعتم” كلمةٌ إلهيَّةٌ بليغةٌ مُسْتَوْفِيَةٌ لما يريده اللهُ منّا نحن المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم من مُبَالَغَةِ بذلِ الجهدِ والحيلةِ والوقتِ والمالِ والذكاءِ والهمةِ والتفكير والبحثِ عن الجديدِ المزيدِ والحديث الأحدثِ من أَدَوَات الحرب وعُدَد الضرب، حتى يَرْهَبَنا الأعداءُ. ومعنى «الإرهاب» لا يتحقّق إلاّ إذا فُقْنَا الأعداءَ في القوة العسكريّة المصحوبة بتقوى الله التي هم يَفْقِدُونَها.

     وموقفُ «الإرهاب» الذي نَفْقِده حالاً لابدَّ أن يجعلنا ندرك مدى التقصير الذي، ظِلْنَا نرتكبُه منذ زمن طويل، تَرَاجَعْنَا فيه عن دور القيادة والريادة والوصاية، وَتَركْنَا الزمامَ إلى الأعداء الذين أصبحوا يَقِفُونَ منَّا موقفَ «الإرهاب» ؛ لأنّهم فَاقُونَا في إعداد القُوَّة. وكِدْنا – سَامَحَنَا اللهُ بمنّه وكرمه – نُساوِيهم في ارتكاب المعاصي، وعدم مخافة الله، وفقد صفة التقوى. اللّهم إلاّ الإيمان الذي اللهُ وحدَه يعلم مدى تمكّنه منّا وموقفنا منه وتَمَسُّكِنا به.

     أمّا الخيلُ، فقد قال ابنُ كثير رحمه الله في معرض تفسير الآية الكريمة: “الأحاديثُ الواردةُ في فضل ارتباط الخيل كثيرةٌ” ثم ساقَ الحديثَ الذي رواه الإمام البخاريُّ – رحمه الله – عن عُرْوَةَ بنِ أبي الجعد البارقي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة: الأجرُ والمغنمُ».

     والحقُّ أنّنا مُقَصِّرون جدًّا في العمل بما أَمَرَنا اللهُ تعالى في هذه الآية الكريمة، ولو عَمِلْنَا به لما كنّا نحن أَضْيَعَ من الأيتام على مأدبة اللئام، كما هو حالنا اليوم. إنّ حالة الضعف والهوان التي صرنا إليه رغم كثرتنا في العَدَد، إنما هي ناتجةٌ عن تقصيرنا في إعداد القوة المُرْهِبَة لأعدائنا: أعداء الله ورسوله، كما هي ناتجة عن ذنوبنا ومعاصينا وعن سِبَاقِنا المحموم مع الغرب الصهيوني الصليبي المتكبر على الله ورسوله وعلى المؤمنين، والشرق المتنكّر لدين الله ونعمه، لأن نكون نسخة منهم جميعًا في الثقافة والحضارة ومنهج عيش الحياة.

     فلابدّ أن نغيّر سلوكنا، ونُصَحِّح مسارنا، وأن نتمسّك بهدي الله ورسوله وأن نجتهد أن نكون – وُسْعَنا – كما أراد الله منا أن نكون، وأن نعود إلى المحجّة البيضاء التي تَرَكَنا عليها رسولنا المصطفىصلى الله عليه وسلم، والتي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك.

*  *  *

     (ج) الوحدة القائمة على الأخوة الإسلاميّة. وهي التي أَصْبَحتْ مفقودة لدى المسلمين بشكل يكاد الأصدقاءُ والأعداءُ كلُّهم يقولون: كلُّ شيءٍ ممكنٌ ويسيرٌ في عالم اليوم إلاّ وحدةَ المسلمين، وانتهاءَهم من الاختلاف والشتات. من عجيب الأمر أنّ الأعداء اليوم اتّحدوا على القاسم المشترك، وهو محاربةُ الإسلام والمسلمين على كل جبهة، وبكل أسلوب؛ ولكن المسلمين متصارعون متناحرون، ولا تكاد القضايا المصيريّة هي الأخرى تُوَحِّدهم، على حين إنّ دَوَاعِيَهم إلى ذلك كثيرةٌ لاتُحْصَىٰ؛ فاللهُ تعالى أَمَرَنَا بذلك أمرًا مُؤَكَّدًا، ونهانا عن الفرقة والشتات، فقال:

     « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»(آل عمران/103)

     وقال: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (آل عمران/105)

     وقال: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (الأنفال/46).

     وقال: «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(الأنفال/62-63)

     وأكّد جميعُ العلماء المتعمقين الراسخين في العلم أن دعوةَ القرآن الكريم بالاتحادِ والاتفاقِ وعدمِ التفرّق والتشتّت، وبالاعتصام بحبل اللهِ المتينِ دعوةٌ مستمرةٌ إلى يوم يَرِث اللهُ الأرضَ ومن عليها؛ فهي لم ولن تنقضيَ بالدخول في الإسلام، ولم تَنْتَهِ بانتهاءِ عهد الخروج من الجاهليّة إلى الإسلام.

     كما أَمَرَنَا الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالتوحّد والتمسّك بالجماعة، مُؤَكِّدًا على أنّها رحمة وأنّ الافتراقَ والشقاق عذابٌ؛ فعن ابن عمر رضي اللهُ عنهما، قال: خَطَبَنَا عُمَرُ بالجابية، فقال: يا أيّها الناسُ! إنّي قمتُ فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: “عليكم بالجماعة، وإيّاكم والفرقةَ؛ فإنّ الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعدُ. من أرادَ بحبوحةَ – وَسَطَ – الجنّة، فَلْيَلْزَمِ الجماعةَ”. (الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 4/465-466؛ مسند الشهاب 1/277).

     وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنّه قال على المنبر: “الجماعةُ رحمةٌ والفرقةُ عذابٌ” (مسند أحمد 4/278؛ مسند الشهاب 1/44).

     وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “يدُ اللهِ على الجماعة” (مسند الشهاب 1/168).

     وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من فَارَقَ الجماعةَ شبرًا خَلَعَ رِبْقَةَ الإسلام من عنقِه” (مسند أحمد 5/180؛ مسند الشهاب 1/276).

     والإسلامُ بجميع أحكامه وعباداته وشعاراته وشاراته، يحضّ على تجمّع المسلمين وتوحّدهم وتراصّهم، ويدعوهم إلى نبذ كل ما من شأنه أن يُؤَدِّيهم إلى التفرّق وتشتّت الشمل. وكلُّ ذلك لحد أنّه أصبح سمةَ الإسلام البارزة وعلامتَه الشاخصة؛ فالعقيدةُ الإسلاميةُ من إيمان بالله ورسوله وملائكته وكتبه ورُسُله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه تُوَحِّد المسلمين، ويدعوهم أن يَتَّحدِوا مشاعِرَ وأحاسيسَ، وتفكيرًا ورؤيةً، وتصوّرًا وتخطيطاً. والعباداتُ من الصلاة والصيام والزكاة والحج، تُوَحِّدُهم صورةً وسيرةً، وتجعلهم مُتَّجِهِيْنَ إلى غاية واحدة، وهي ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته، كما أن تَمَسُّكَهم بالحلال، وتجنُّبَهم الحرامَ، وخضوعهم للأوامر، وانتهاءَهم عن النواهي يُوَحِّدهم قلبًا وقالبًا.

*  *  *

     وإذا كان الأمر كذلك فأحرى بالمسلمين أن ينهضوا جميعًا ويقوموا صفًّا واحدًا مُتَرَاصًّا لمجابهة هذه القوى الكافرة المشركة المنافقة الوثنية العلمانية الصليبية الصهيونية التي جاءت اليوم بقَضِّها وقضيضها؛ لتحارب الإسلامَ والمسلمين في كل مكان، وبكل أسلوب، وبكل سلاح، وعلى كل جبهة. وكأنّها قرَّرت أن لا تَدَعَ هذه الفرصةَ الحاليّةَ تضيع دون أن يضربوا الإسلامَ والمسلمين ضربةً قاضيةً.

     إنّ هذه القوى – بما فيها القوتان الكبريان: الصهيونية العالمية التي ظلّت تفتخر بأنها قتلت المسيح عيسى ابن مريمَ؛ والصليبية التي تَصَهْيَنَت اليوم والتي تُدَار من قبل الصهيونيّة بشكل عادت تقول: إن اليهود ما قتلوا المسيحَ، أو قَتَلُوهُ؛ ولكننا نحن أبناءَ الصليبية قد عفوناهم عن ذلك – على اختلافها الشديد، وتصارعها على كل غرض من أغراض الدنيا والدين حتى على الآلهة؛ حيث إن إلهَ بعضها من حجــر، وبعضِها مـن شجر أو نهر أو بحر أو ذكر أو فرج، أو ماء أو هواء، أو جبل أو سهل، وإلهَ بعضِها لا يُعَدُّ ولا يُحْصَىٰ؛ فكلُّ شيء في الكون إلهٌ عندها.. إنّها على اختلافها هذا الاختلافَ الشديد، قد اتّحدت على نقطة واحدة، وهي محاربةُ الإسلام والمسلمين؛ فأَوْلَى بالمسلمين أن يتحدّوا على عقيدتهم وعباداتهم وعلى أساس إلههم الواحد الأحد الصمد: الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحد.

     وعندئذ: عندما تتحق الأمور الثلاثة، لن تقهرهم القوى: قوى الكون كله، ولوكانت بعضُها لبعض ظيهرًا.

(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى