الطريق إلى “دينِ المِثليّة”.. والطريق المضادّ
بقلم محمد خير موسى
لم تكن ردّة الفعل العالميّة الشّرسة على تصريحات محمد أبو تريكة إلّا كوّةً نطلّ منها على تعاظم لوبي المثليّة في العالم اليوم وتمدّده وتأثيره، وسيره بخطىً متسارعةٍ إلى حيثُ لا يتخيّلُ أسوياء الفطرة الحادبون على أبنائهم والأجيال الوالجة إلى المستقبل المجهول.
بداية الطريق.. عندما كان الشذوذ خطيئة وجريمة
في الوعي الغربيّ إبّان خضوعه للكنيسة، كان يُنظر إلى الشّذوذ الجنسيّ على أنّه ممارسة سلوكيّة شائنة تتنافى مع الفطرة ويستحقّ فاعلها القتل جزاءً لفعلته هذه، وقد نصّ على ذلك قانون جستنيان الصّادر عام 529م، الذي كان يحكم أوربا الخاضعة للكنيسة آنذاك، وهنا لا بدّ من استحضار أنّ عهد الكنيسة كان قاتمًا في أوربّا، فالموقف الصّحيح من الكنيسة في هذه القضيّة مع ما كانت تمارسه من بشاعةٍ في العقوبات النّازلة على مخالفيها عمومًا يتمّ استحضاره اليوم لنقض الموقف الذي كانت تتبنّاه تجاه الشّذوذ.
وعندما جاء الإسلام أكّد أنّ الشّذوذ الجنسيّ جريمة أخلاقيّة وسلوكيّة ومجتمعيّة، من خلال الحديث القرآنيّ عن قوم لوط الذين استحقّوا عقابًا إلهيًّا قاسيًا ذكره القرآن الكريم في سورة هود، إذ يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وبقيت الكلمة الدّالّة على الشّذوذ الجنسي في عموم اللّغات الأوربيّة (sodomy) أو ما يقاربها في اللّفظ، وهي مأخوذة من كلمة “سدوم” اسم قرية قوم لوط، وتدلّ على “خطيئة سدوم” كما يُسمّيها الكتاب المقدّس أي الشّذوذ الجنسي الذي يستحقّ فاعله العقوبة.
في منتصف الطريق.. التحوّل من الشذوذ إلى المثليّة الجنسيّة
في أواخر القرن التّاسع عشر، وضع العالم المَجريّ “كارولاي بنكريت” مصطلح المثليّة الجنسيّة (Homosexuality)، للدّلالة على ممارسة الجنس الشّاذّ بين رجلٍ ورجل، وامرأة وامرأة، وليحلّ تدريجيًّا محلّ لفظ (sodomy) الذي حُظِر استخدامه بوصفه مصطلحًا موصومًا وغير محايد.
وغدَتْ “المِثليّة الجنسيّة” هي المصطلح المُعتمَد الذي يُوظَّف في مجالات معرفية عديدة، مثل علم النّفس والطّبّ والأنثروبولوجيا.
مع عصر النّهضة الصّناعيّة، بدأت هيمنة الكنيسة تذوي، فأُلغِيَت القوانين الكنسيّة التي تَعُدُّ المِثليّة الجنسيّة خطيئةً وإثمًا كبيرًا، كما أُلغِيَت العقوبات التي تفرضها هذه القوانين، وغدَتْ المِثليّة محلَّ نقاشٍ في الأوساط الطبّيّة والنّفسيّة نتيجة انتشار الظّاهرة بسبب الالتحاق بالمدارس الدّاخليّة والمكوث فيها لأوقات طويلة في ظلّ غياب الرّقابة التربويّة والأسريّة.
كما تذكر “موسوعة ستانفورد الفلسفية” أن الأطباء النفسيّين قاموا بفحص الظّاهرة فتوصّلوا إلى أن المِثليّة الجنسيّة توجّه ومَيل كامن لدى الإنسان قد يمارسه أو يكبحه، وأنّه يعبّر عن حالة عقليّة مَرَضيّة.
وهنا بدأت التّوصيفات تخفّ من كون الشّذوذ خطيئة وجريمة يجب معاقبة فاعلها، إلى رفض لفظ الشّذوذ واعتماد المِثليّة الجنسيّة، وعَدّها مجرّد مرض يستحقّ فاعله التّعاطف والتّضامن كونه لا يدَ له في المرض الذي يصيبه.
في مراحل الطريق الأخيرة.. المثليّة من ممارسة إلى هُويّة
في النّصف الثاني من القرن العشرين -مع دخول العالم مرحلة ما بعد الحداثة- شهدت الرّؤية الغربيّة انقلابًا جذريًّا تجاه المِثليّة الجنسيّة، فمع بداية سبعينيات القرن بدأت تتبلور حالة إجماع بين العاملين في مجال العلوم السلوكيّة والاجتماعيّة والمهن الصحيّة والنفسيّة على صعيد عالمي، بأنّ المِثليّة الجنسيّة هي شكل صحيّ للتوجّه الجنسيّ عند البشر.
في عام 1973م، ألغت الجمعيّة الأمريكيّة للأطبّاء النّفسيين تصنيف المِثليّة الجنسيّة بوصفها اضطرابًا نفسيًّا، ثمّ تبعها في الخطوة ذاتها مجلس مُمثّلي جمعية علم النّفس الأمريكيّة بقرارٍ أصدره عام 1975م، وبعد ذلك أزالت مؤسّسات الصحّة النّفسيّة الكبرى حول العالم تصنيف المِثليّة بوصفها اضطرابًا نفسيًّا، بما فيها منظمة الصحة العالمية التّابعة للأمم المتحدة التي أصدرت قرارًا بذلك عام 1990م.
وقد تحوّلت المِثليّةَ الجنسيّة في مرحلة ما بعد الحداثة التي تتكرّس فيها مركزيّة حريّة الفرد، من مجرّد ممارسةٍ سلوكيّةٍ إلى هُويّة ملتصقة بالإنسان، تعبّرُ عنه وينتمي إليها كانتمائه إلى أيّ هُويّة ثقافيّة أو قوميّة أو عِرقيّة.
أصبحت المِثليّة الجنسيّة هُويّة تعبّر عن الشّخص وفرديّته وحريّته وانتمائه، وتحوّلت من هُويّة فرديّة إلى هُويّة جماعيّة يتمايز فيها مجتمع من الأفراد عن غيرهم، وأصبحت رابطًا متينًا بين أفراد هذا المجتمع، ليتحوّل بعد ذلك من مجرّد مجتمعٍ متجانسٍ هويّاتيًّا إلى مجتمع ضاغطٍ مُؤثّر، وليشهد الانتماء الهويّاتي تحوّلًا في طبيعته أيضًا.
إنه “دين المِثليّة”!
غدا لوبي المِثليّة من أقوى اللّوبيات الضّاغطة في العالم، إن لم نقل هو الأقوى، واستطاع تحقيق انتصاراتٍ لا تخطئها العين في المجالات السّياسيّة والقانونيّة على مستوى العالم، بل أيضًا على المستوى الدّيني. ولك أن تتخيّل أن هذا اللّوبي استطاع تحقيق انتصار على رأس الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم بإجبار الباباويّة على الخضوع لإرادته، ففي يوم 22 تشرين الأوّل (أكتوبر) من عام 2020م صرّح بابا الفاتيكان فرنسيس قائلًا: “يحقّ للمِثليّين أن يكونوا ضمن العائلة، إنّهم أبناء الله، ولديهم الحق أن ينتموا لعائلاتهم، لا يمكن طرد أحد من العائلة أو جعل حياته بائسة لسبب مماثل، يجب أن تكون هناك تشريعات لشراكات مدنيّة، وبذلك يحظون بتغطية القانون”.
ويمكننا القول: إنّ المثليّة التي استطاعت اليوم انتزاع قوانين تجرّم مَن ينكر حقّ المثليين، بل تجرّم مَن يتعاطف مع أحدٍ مِن المنكرين لحقّ المثليين، قد أخذت في التحوّل من هُويّة مدعومة من أديان وأيديولوجيّات إلى أيديولوجيا قائمة بذاتها ينتمي إليها أفرادها ويخضعون لها وترسم ملامح هويّتهم الفرديّة والجماعيّة، وتنال من التّحصين القانونيّ ما لا يناله معتقدٌ آخر، إنّ هذه الإيديولوجيا هي “دين المِثليّة”.
إنّ المِثليّة الجنسيّة بتطورّها الحالي ينطبق عليها مفهوم الدّين في السّياق الغربيّ، ففي مقاربة أنثربولوجية يُعرّف الأمريكي كليفورد غيرتز -رائد المدرسة التّأويليّة والرّمزيّة في الأنثروبولوجيا المعاصرة- الدّين بأنّه “نسق من الرّموز يُثير لدى النّاس حوافز قويّة وعميقة ومستمرّة، من خلال صوغ مفاهيم حول الوجود وإعطائها مظهرًا واقعيًّا، لتبرز هذه الحوافز وكأنّها حقيقيّة”.
وكذلك عرّف عالم الاجتماع الدّيني الأمريكي “جون ميلتون ينجر” الدّين بأنه “نسق من المعتقدات والممارسات يُخوَّل بواسطتها لمجموعة من الناس مواجهة المشكلات الأساسية للحياة الإنسانية”.
بينما عرّف الخبير في علم الاجتماع الدّينيّ -الأستاذ بالمدرسة العليا للخدمات الاجتماعية والصحيّة في لوزان- “كلود بوفاي” الدّين بأنّه “مجموعة من المُعتقدات والممارسات المُنظّمة إلى حدّ ما، ترتبط بحقيقة ارتقائيّة تفوق التّجربة، تمارس في مجتمع معيّن وظيفة أو أكثر مثل: الدّمج، التعرّف، تفسير التّجربة الجماعية، الإجابة على الطّابع غير الواثق بنيويًا في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة”.
ومن خلال هذه التّعريفات للدّين التي قدّمها مجموعة من علماء الأنثربولوجيا وعلماء الاجتماع الدّيني في الغرب، نجد أنّ مجتمع المِثليّة الجنسيّة بما يحمله من أيديولوجيا وترابط هُويّاتيّ وانتماء جماعيّ ونسق مشترك من الرّموز والطّقوس الفرديّة والجماعيّة، والممارسات المنظّمة إلى حدّ كبير، يُكرّس المِثليّة الجنسيّة بوصفها دينًا لِما تحمله من تمظهرات الدّين الواردة في التّعريفات. ويمكننا القول: إنّنا في زمنٍ كالحٍ وسنواتٍ خدّاعات غدَتْ فيه المِثليّة دينًا بكل ما للدّين من تمظهرات وإن لم يعلن الغرب عنها دينًا مستقلًّا، وسيكون لهذا الدّين تأثيرٌ بالغ عبر لوبيّاته القويّة وسطوته البالغة في التّمدّد والتأثير.
وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّ دين المِثليّة اليوم يختلف بشكلٍ كبيرٍ عن الممارسة السلوكيّة للشّذوذ التي وردت عن أقوام سابقين كقوم لوط، أو حتّى ما ذُكر عن انتشار هذه الظّاهرة في المجتمعات اليونانيّة القديمة، فدين المثليّة المعاصر أخطر بكثير لأنّه تجاوز حالة السّلوك الشّائن وتسويغه وتقبّله إلى حالة الفلسفة التي تنتج الأيديولوجيا وتتفرّع عنها القوانين التي تتجاوز فكرة تشريع المِثليّة إلى السطوة على المخالف وتجريمه.
كما أنّ دين المِثليّة اليوم لا يسعى إلى تشريع السّلوك الشّاذّ لمجتمع خاصّ بعينه ومنح “حقّ خاصّ” له، بل يمارس نفي الحقّ والصّفة عن الشّرائح المجتمعيّة الأخرى، ويعمد إلى إهالة التّراب على مفاهيم مجتمعيّة رئيسة كالزّواج والأسرة والإنجاب، ويعيد صياغة مفاهيم تأسيسيّة في المجتمع كلّه.
هذا طريقهم إلى دين المِثليّة.. فماذا عن طريقنا؟
إنّ هذا العرض الموجز يضعنا أمام مسؤوليّات تاريخيّة مصيريّة وكبيرة، فمِن خلاله يمكن التأكيد أن معركةً من أشرس معارك هذا القرن ستكون مع الشّذوذ الذي تمثّله أيديولوجيا المِثليّة الجنسيّة ولوبياتها، وتدعمه دوائر قرار غربيّة ومؤسّسات سياسيّة وقانونيّة.
نحن بين يدَيْ معركة بدأت نيرانُها لكنّ رحاها ستكون طاحنةً في العقد الحاليّ وما بعده من عقود، وستكون المعركة على الأجيال التي تنتظر مستقبلًا قد يُفرَض عليها فيه مناهج تعليميّة تُسوّق للمِثليّة وتُروّج لها مع تجريمٍ في المقابل لكلّ مَن يحاول الاعتراض أو رفض المِثليّة الجنسيّة مُعلنًا ذلك.
إنّنا بحاجةٍ ماسّة وعاجلة إلى خطوات إصلاحيّة راشدةٍ تتعلّق ببناء مناهج تعليميّة وفكريّة وتربويّة للمراحل العمريّة المختلفة، تحصينيّة وبنائيّة ووقائيّة تراعي المطروح في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ في هذه القضيّة، وتناقش وتنقض بطريقة منهجيّة طروحات الترويج للمِثليّة الجنسيّة بوصفها أيديولوجيا تنطوي على هُويّة وسلوك.
كما أنّنا بحاجةٍ إلى خطابٍ دعويّ بعيدٍ عن النّمطيّة يدرك حجم الخطر الدّاهم، ويكون قادرًا على استيعاب الأجيال والتأثير فيها وإقناعها إقناعًا ناعمًا بعيدًا عن التشنّج وخبط العشواء.
وكم نحن بحاجةٍ إلى صناعة مُؤثّرين يكون همّهم مناهضة طروحات المِثليّة، كما فعل محمد أبو تريكة، وأن يكون عندهم جرأة المواجهة وتحمّل التبعات لأجل دينهم وفطرتهم وسلامة الجيل القادم من التشوّه الفكري والهُويّاتيّ والسّلوكيّ.
كما أنّنا بحاجةٍ إلى تشكيل لوبيات ضاغطة داخل البلدان الإسلاميّة، لمنع تمرير التشريعات والقوانين التي تبيح المِثليّة وتقرّها أو تطبّع معها، فالمعركة شرسة والخطب كبير والواجب المفروض يستوجب النّهوض العاجل والتّفكير العميق والتحرّك الرّاشد والمعالجات الحكيمة، بعيدًا عن ردّات الفعل غير المتوازنة.