الطابور السادس.. قوة الاستبداد الناعمة
بقلم حسام شاكر
استغرقوا حياتهم طولا وعرضا في التنظير للديمقراطية والحريات والمجتمع المدني والدولة الحديثة والاستنارة الدينية، ثم اختتموا مسيرتهم باصطفاف مشين مع سطوة الاستبداد والقهر السلطوي وفنون الفتك بالبشر. إنها نهاية متوقعة في لعبة تقليدية؛ يمتطي فيها الاستبداد نخبا سياسية وإعلامية وثقافية وفنية وأدبية ووعظية ومجتمعية، حتى تصير وجوهٌ بزغت وأسماء لمعت أعباءً ثقيلة على أمّتها التي ستتجرّع خيبة الرجاء ومرارة الخذلان منها في ساعة الحقيقة.
تعمل منظومة الاستبداد بلا هوادة على إنتاج النخب واستمالة بعضها وتطويع غيرها، بالتلازم مع ممارسة الحجب والعزل والإقصاء وإنزال العقوبة الرادعة بحق المخالفين أو الذين يُخشَى تمرّدهم أو لا ينخرطون في الجوقة كما ينبغي. ولا تعني معاقبة النخبة الحرّة إنزالَ السجن أو الغرامة بحقها فقط؛ بل تتحقّق ابتداءً بحجب الامتيازات عنها وممارسة الغُبْن والإجحاف معها في لعبة الاعتراف العلني بكل اسم منها، بما يُفضي إلى إخراجها من الأروقة أو الإلقاء بها من النوافذ العلوية، ومن تعبيراتها عزل أحدهم عن المنابر والشاشات والجوائز لأنها ما كانت لتتأتّى له أساساً إلا بموجب استعماله في معادلة الاستبداد. يكرِّس الاستبداد إمكاناتِ الدولة ومقدّرات النظام ودوائر النفوذ ومنصّات رأس المال الإعلامي من أجل تغييب الوعي وغسيل الأدمغة ونحت الأجيال بمواصفاتها المرغوبة.
وتتوالى مبادرات متعددة الأشكال والألوان عبر العالم العربي لخدمة الاستبداد، وهي تعمل على تسخير وسائط التواصل ومنصّات الثقافة لتضليل جماهير العرب برسائل محبوكة بعناية. وتتزاحم الأعمال الدرامية والفنية والثقافية المموّلة بسخاء لتحشو رؤوس أمّتها بوجبات فاقدة الصلاحية تُنعِش ثقافة الإذعان وتكبت أشواق الحرية. أمّا فضاءات العالم الشبكي ومواقع التواصل الاجتماعي فيجري غزوُها بفيالق من مدفوعي الأجر، بعد أن وجدت الشعوب في العالم الافتراضي متنفّسا في لحظات الانعتاق. ويتفاقم شراء الذمم في الإعلام والثقافة والفكر والوعظ، وتستحيل فضائياتٌ ومنابر ومنصّات متزاحمة أبواقا دعائية متجرّدة من أقنعة المبادئ.
قد ترى النخبة الثقافية المعزولة عن الشعب، أساسا، في الاستبداد حاجة أساسية لها أو ضرورة وجودية لها، فتقوم بتبريره وتلميعه بشعارات جميلة حتى تصبح بوقاً له |
من ملابسات الحالة أنّ أنظمةً من هذا اللون تحجب الامتيازات عن بعض النخب وتقوم بإخراجها من الأروقة ونزعها من المنصّات وعزلها عن المنابر والشاشات وحرمانها من الجوائز والامتيازات؛ إن لم ترضخ هذه النخب لبرنامج الاستبداد وتنخرط فيه.
وقد ترى النخبة الثقافية المعزولة عن الشعب، أساسا، في الاستبداد حاجة أساسية لها أو ضرورة وجودية لها، فتقوم بتبريره وتلميعه بشعارات جميلة حتى تصبح بوقاً له، وقد يصحّ وصفها بالطابور السادس. يتعزّز هذا الانخراط بحالة الالتصاق التي قد تكون قائمة بين مراكز سلطة الاستبداد ومراكز النخبة الثقافية المتواطئة معه، فهما يتقاسمان قلب العاصمة والمدن الكبرى، ويشتركان في المنابر والمنصّات والفضائيات ذاتها تقريبا، ويتعاونان في غايات مشتركة تلتقي في إرادة تغيير المجتمع أو تطويعه أو إخضاعه.
مِن دعاة “التنوير” مَن يعجزون عن العيش خارج ظلام الاستبداد، بما يحرِّضهم على أن يسيروا في ركابه وأن يقتاتوا من موائده وأن ينصاعوا لحالة اعتمادية على المستبدّ الذي يمسك برقابها. ومن بواعث الحالة أن تخشى بعض النخب مجتمعَها لاغترابها عن ثقافته إلى حد الخصومة أحيانا؛ فتجد نفسها في خندق واحد مع استبداد يخشى الشعبَ ويُهيْمن عليه. وقد تتعزّز آواصر تحالفية بين النخبة الثقافية المعزولة عن المجتمع والكارهة لثقافته؛ والاستبداد الذي يحاصر الشعب ويسهر على تغيير ثقافته أو تحويرها بأساليب حرب الأفكار مثلا.
إن أعلن نظام الاستبداد النفيرَ العام في وجه شعبه؛ فلن يحشد قوّاته ومخابراته وقوانينه وحسب، بل سيباشر أيضا التعبئة العامة في صفوف فنّانيه وكاتبيه ومثقفيه وعمائمه وصلبانه واستدعاء طابور الوجوه والأسماء التي اشتغل طويلا على إبرازها في المجتمع على حساب غيرها.
وإنْ اهتزّت الأرض من تحت أقدام الاستبداد بتأثير غضبة شعبية؛ فلن يتقاعس عن استدعاء هذا الطابور السادس من نخبة الثقافة والأدب والفن والوعظ لخوض معركتهما المصيرية المشتركة، وبعضها نخب معزولة أساسا عن المجتمع في رؤاها أو مفترقة عنه في نمط حياتها. ستتعرّف جماهير الشعب على وجوه جديدة صادمة لممثل ظريف أمتعها طويلا، ولفنانة وديعة لعبت أدوار الفتاة الحالمة، ولمثقّف اشتُهر بنقده سلوكيات محسوبة على السلطة ومارس التنفيس تحت عيون الاستبداد وآذانه، ولداعية “مستنير” أكثر الجدال من قبل عن القيم والمبادئ والأخلاق، ولكاتب ارتبط اسمه بعمود رأي ناقد ساعد الشعب على تفريغ حنقه، ولقارئ القرآن الكريم الذي ظهر من قبل باكيا في المحاريب فإذ به يُباشِر مع من سابقيه القصفَ اللفظي اللاذع من خنادق الاستبداد. سيظهر هؤلاء وغيرهم بوجوه جديدة، أو سيزهدون بالأقنعة التي عُرفوا بها.
يمتطي الاستبداد نخَبَ السياسة والإعلام والثقافة والفنّ والمناصب الدينية ويتخذ منها قوة ناعمة؛ فتهوي نجوم بزغت وأسماء لمعت بعد سقوطها في اختبار المواقف
لا يزهد الاستبداد بتوظيف المال والأعمال والصناعة والإعلام لمصالحه، مع تشغيل نخبة من المحسوبين على الفكر والثقافة والفن ومحاولة تطويع أعمالهم لمقاصده. ولتسويغ مسالك الاستبداد والسياسات المنحرفة والانقلابات العسكرية وسحق البشر في الميادين؛ يجري استحضار هذه النخبة الاعتمادية على الاستبداد لتبرير الموبقات وخوض الاستدعاءات الذرائعية المتحيِّزة للقهر.
يمتطي الاستبداد نخَبَ السياسة والإعلام والثقافة والفنّ والمناصب الدينية ويتخذ منها قوة ناعمة؛ فتهوي نجوم بزغت وأسماء لمعت بعد سقوطها في اختبار المواقف. وفي طوابير المصفِّقين للاستبداد وجوه قضت حياتها في التنظير للديمقراطية والحريات والمجتمع المدني، ثم انتحرت أخلاقياً وخرجت من التاريخ. قد يكتشف الشعب أبطاله الجدد من وحي شجاعتهم وصمودهم تحت الطغيان والاستبداد، وستنهار في اختبار المواقف قاماتٌ وهامات خذلت شعبها في لحظة الحقيقة، فيتجلّى التمايُز بين “مثقف الأمير ومثقف الجماهير”، وفنان السطوة والاستبداد وفنّان العباد والبلاد.
اشتهرت بعض الوجوه في أقوامها بحراسة القيَم وصارت أعلاما على مناهضة الاستبداد حتى حازت تقديرا واسعا لنضالها ضد الطغيان. لكنّ الحكاية لا تؤول مع بعض هؤلاء إلى نهاية مشرِّفة. فالاستبداد لا يتورّع عن محاولة استمالة هذه الوجوه تحديدا واستدراجها إلى خنادقه، وقد ينجح في هذا مثلاً عبر لعبة الجوائز الممنوحة والشاشات المفتوحة والأموال المُغدَقة والحفاوة بالأعمال والجولات الخارجية.
وقد يأتي الانخراط في برنامج الاستبداد بدافع تحيّزات أيديولوجية أو مواقف نفسية جارفة ضد خصوم أو منافسين في ساحة السياسة أو الفكر، حتى أتقن بعض المستبدِّين استعمال تيّار في وجه آخر، وتوظيف نخَب في حملة المستبدّ على خصومه وخصومها.
ومع كل جولة إفصاح تنكشف وثائق وتسريبات عن اتصالات مباشرة من الغرف المعتمة مع طائفة من وجوه التمثيل والغناء وكاتبي الأعمدة ومعلِّقي البرامج، يحصلون فيها على وجبة من التعليمات المتذرعة بمصالح البلاد العليا وأمنها القومي، ولا تتوانى الجوقة عن الامتثال لمقتضياتها بحذافيرها، فتتشابه أقوالها على نحو مذهل فجأة أو تنقلب على عقبيها بين عشية وضحاها بتأثير ناظم الإيقاع المتواري عن الأنظار.
والمفارقة التي لا تخطئها العين أنّ بعض مَن ناهضوا الاستبداد طويلا وقاسوا وَيْلاته في الحصار والتضييق والسجون والمنافي؛ ينزلقون أخيرا إلى مداهنته أو التماهي مع أشكال أخرى منه، وقد يمارسونه بأنفسهم ويسعِّرون نيرانه دون وخز في المشاعر أو تأنيب في الضمير. ومن يفحص خبرة العرب وغيرهم مع نخب أدبية ومسرحية وفنية اشتهرت بنضالها ضد الاستبداد وبتعبيرها الحيّ عن نبض شعبها؛ سيجد أنّ بعضها صار بعد ردح من الزمن تِرسا في آلة عسكرية تسحق الحرية أو جنديا في جيش مكرّس لتقويض ديمقراطية هشّة قبل أن يشتدّ عودها وتستوي على سوقها.
لا يستغني المستبدّ عن عمائم تصادر الدين لاختياراته أو تغضّ الطرف عن مآربه وأفعاله، أو تصعد بمرتبته إلى مصافّ الأولياء الصالحين
لا يتهاون المستبدّ مع أصحاب المواقف الحرّة والأصوات المستقلة ورافضي الانخراط في جوقته، فيحرص على حجبهم عن المشهد وإقصائهم عن الساحة وإماتة ذكرهم في الشعب وإن حازوا ملايين المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يبتزّهم في أرزاقهم وأقوات عيالهم، أو يسومهم سوء العذاب، مع التشهير بهم والتحريض عليهم، حتى يتنصب صنيعُه معهم رهبةً رادعةً لغيرهم.
لم ينفكّ تاريخ البشر عن هذا المنحى. فما إن آمَن سحرة فرعون بربِّ هارون وموسى لمّا رأوْا الآية واستيقنت قلوبُهم الحقّ؛ حتى باشر فرعون استدعاء سطوته بحقِّهم وتكثيف قسوته عليهم. لم يتردّد فرعون لمّا انهارت حجّته على الملأ وتَهاوت مراهنته على السحرة؛ بتحرير عريضة إدانة جماعية لهم كان هو فيها الخصمَ والحكم معا، فنسَج تفسيرا تآمريا لِما انتهى إليه مشهدُ العِصيّ والحبال، فعدّ سحرتَه الذين حشدهم؛ متواطئين ابتداءً مع النبي موسى، وادّعى أنهم عقدوا حيلةً ماكرة معه، عليه السلام، حتى اعتبر موسى كبيرَهم الذي علّمهم السحر. ثم أعلن فرعون في موقف طغيانٍ جارف عن إنزال عقوبة بشعة بحقهم (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) سورة الأعراف:123-124. لقد اختار هذه العقوبة تحديدا تماديا في نزعة الانتقام، وكي تكون رسالة ردعٍ للمجتمع وإشعارَ ترهيبٍ لعموم النخب، كي يشهد الناس سوء عاقبة الموقف الإيماني الحرّ، ولاحتواء التداعيات المعنوية لمشهد يوم الزينة الذي يحرِّض على تشغيل الحسّ النقدي إزاء فرعون وعمَلِه بعد انقشاع سطوته الرمزية، بما من شأنه إطلاق شحنة الإيمان من محبسها وتحرير الوجدان من قفصه.
إنهم يستعملون الدين والقيَم النبيلة في خدمة سلطة القهر، ويجعلون الانقياد للظلم والرضوخ لسطوته أصلاً في الدين وتأسِّيا بالنبيِّين |
لا يستغني المستبدّ عن عمائم تصادر الدين لاختياراته أو تغضّ الطرف عن مآربه وأفعاله، أو تصعد بمرتبته إلى مصافّ الأولياء الصالحين، أو الأنبياء المخلَصين، فتشهَد له بالصلاح والتقوى والإخلاص والاستقامة.
يحاول بعضُهم إخضاعَ الدين لحِيَل التأويل وتلاعبات الاجتزاء، ليقتفي مقاصد السلطة المستبدّة أو مآرب المحيطين بها من أصحاب النفوذ والمال. وقد يكفي من بعضهم أن يتجاهل شواغل مجتمعه وأمّته ليصرف النظر عنها إلى شواغل أخرى في غير موسمها وإن كانت في أصلها المجرّد حميدة، كأن يتحدث عن أهمية الامتثال لعلامات المرور في زمن تُزهَق فيه الأرواح وتُسحَق فيه المدن وتُستباح فيه المقدسات. وقد يلجأ بعضهم إلى تلاعُب ماكر بميزان القيم، فيحدِّث الناس عن فضائل الصبر واحتمال الأذى على المكاره في وقت هو أدعى لتذكير الناس بالإقدام لا الإحجام، وقول الحق ونصرة العدل لا السكوت عن الباطل وممالأة الظلم.
إنهم يستعملون الدين والقيَم النبيلة في خدمة سلطة القهر، ويجعلون الانقياد للظلم والرضوخ لسطوته أصلاً في الدين وتأسِّيا بالنبيِّين، ويعدّون السكوت عن قول الحقّ لازمةَ التقوى وقرينة الورَع. وللمرء أن يعجب من زعم بعضهم الإعراض عن الخوض في السياسة وتركها لطبقة “ولاة الأمر”، وما يبدو ماثلا للعيان أنّ السياسة تخوض بهم معاركها ضد الشعوب وفي مواجهة بعض خصومها في الداخل والخارج، وتطلب عمائمَهم ولِحاهم أو ربطاتِ عنقهم ووجوهَهم النضرة؛ للانخراط في أدوار وظيفية مرسومة لهم في خدمة الاستبداد والهيمنة والتثاقل إلى الأرض.
يُتقِن بعض المعمّمين و”نجوم الوعظ” و”مشايخ التنوير” و”متحدِّثي التجديد” فنّ المسايرة السياسية، ويتوقّعون من الجمهور أن يصدِّقهم إن تذاكوْا بتأكيد حسن نيّتهم وبراءة ذمّتهم، فيزعمون أنهم لا يبتغون فيما يقولون على شاشات القهر والاستبداد والممالك الإعلامية “إلا وجه الله”. يظهرون بعمائم أو ربطات عنق، ويُغرِقون الجماهير بحديث المبادئ والشعارات الجميلة، وهذا عبر فضائيات تكره الحرية ومنصّات تهدر كرامة الإنسان.
لا عجب، إذن، من بعض متصدِّري المشهد “العلمائي” و”الوعظي” و”الفكري” الذين يمنحون الانطباع بأنّ طاعة “ولاة الأمر” واجبة ولو بمخالفة طاعة الله ورسوله، وكأنّ ما يأتي به “وليّ الأمر” المزعوم يوافق الشرع دوما ولا يقتضي الفحص والنظر. ومن عادة هؤلاء أن يتحاشَوْا التفوّه بمُفرَدات قيمية تؤذي مشاعر المستبدّ وتُزاحِم سطوته المعنوية؛ مثل الحقوق والمساواة والعدل والقسطاس المستقيم، رغم أنهم قد يضطرون إلى تلاوة ما يشير إليها من الآي الكريم على الملأ في إمامتهم الصلاة؛ إن عجزوا عن تجاوُز مواضعها الوفيرة في كتاب الله تعالى.
وفيما يصدر عن بعضهم في شاشات الاستبداد وشبكاته ومنصّاته تحريفٌ للنصوص عن مواضعها وتدليسٌ في التأويلات التي تستعمل الدين لأهواء الحكم والحاكم. وإن نادى بعضهم بمراجعة الدين وتجديده، فإنهم لا يرون في الأحوال العامة للبلاد والعباد ما يستحقّ التجديد والمراجعة أو التصويب والإصلاح إلا بما يوافق هوى المستبدّ أو مصالح الهيمنة الخارجية أو لا يتعارض معهما، وقد يلحظ المرء أنّ فحص المقدّسات ونبش النصوص المرجعية أهْوَن عليهم من مناقشة الاستبداد ومساءلته ونقد قوى الهيمنة والاحتلال.
يمنح الاستبداد فرص التصدّر للطابور السادس، فيجود على المنخرطين فيه بهالات النجومية وقد يجعل أحدهم شيخاً لطريقة البث المباشر
يحرص الاستبداد على احتواء الحالة الدينية، بأن يرسم هالة التمجيد حول وجوه مُنتقاة بعناية أو باستدراج رموز التوجيه الديني إلى منظومته بطرق شتى في غفلة من الجماهير غالبا التي يُراد الإمساك بخطام وعيها وتطويع وجدانها والهيمنة على أذهانها.
تتفاعل حِيَل الاستدراج لأجل احتواء الحالة الدينية واستعمال مضامين الإرشاد والوعظ الجماهيري في خدمة الاستبداد؛ الذي يستدرج الواعظ ويجتذب الشيخ ويحتوي العالِم تدريجيا، لإلحاقهم بجوقة المنخرطين في ترويض الجمهور. فمن عادة الاستبداد استعمال الدين والقيم والثقافة والتقاليد في خدمة السلطة والنظام والحاكم بتلاعبات التلفيق والتدليس، على نحو يتضافر مع استغلال التعليم والآداب والفنون وتوظيفها جميعا في خدمة السلطة المستبدة بأشكال وكيفيات متعددة.
يمنح الاستبداد فرص التصدّر للطابور السادس، فيجود على المنخرطين فيه بهالات النجومية وقد يجعل أحدهم شيخاً لطريقة البث المباشر، ويُعين آخرين على حصد الإعجابات بأجور سخية وامتيازات وفيرة؛ مقابل الدين وشهادة الحق. وينهمك متحدِّثون في محاولات دؤوبة لإخضاع الدين لحيل التأويل وتلاعبات الاجتزاء ليقتفي مقاصد الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية، أو مآرب المحيطين بالسلطة من أصحاب النفوذ والمال وهم الذين يتحكّمون أساسا بأهمّ المنصات والشاشات.
استدرج الاستبداد بعضا من الوجوه والأسماء بمساعٍ وأحابيل حيكت لها ولغيرها، أو استفردت ببعضها غوايةُ المال والجاه والسلطة والشاشات، فصعدت منصّاته وسقطت مبدئيا وأخلاقيا |
لقد آمَن سحرة فرعون بربِّ هارون وموسى ودفعوا ثمن الموقف ونالوا شرفه في لحظة الامتحان القاسية؛ لكنّ بعضاً من سحرة الاستبداد في زمن البثّ والشاشات يريدون إسلاماً بلا أشواك تُعيق الظلم ولا أسنان تتشبّث بالعدالة، وينسجون على الملأ وَعياً دينيا انسحابيا يقود إلى طأطأة الرؤوس والتزام البيوت. أمّا مَن يقاومون بريق الظهور على الشاشات المضلِّلة وإغراء مقايضة البروز بالدين، التزاما بمبادئهم وامتثالا لضمائرهم؛ فإنّ عليهم أن يواجهوا العزل والحصار وأن يدفعوا الثمن غاليا، لكنهم سيربحون شرف الموقف في الدنيا ويأملون أن يلقَوْا الكرامة في الآخرة.
استدرج الاستبداد بعضا من الوجوه والأسماء بمساعٍ وأحابيل حيكت لها ولغيرها، أو استفردت ببعضها غوايةُ المال والجاه والسلطة والشاشات، فصعدت منصّاته وسقطت مبدئيا وأخلاقيا. ومن أمارات بعضهم أنهم يغشون أهل القصور ويخالطون مَن بِيَدهم الأمر، فيحصل بذلك انغماسهم في شواغل مستجدة ومروقهم مما كانوا عليه، وإن بعضهم ليَحسَب أنه يهمّ باستئناس الأسد في عرينه، وإذ به يُستدرَج إلى انزلاقات لا يقوى على درئها.
ومن عادة الناس أنهم لا يفزعون من تحوّلات بطيئة، فهي تملي عليهم أن يتكيّفوا معها خطوة خطوة، وتراجعاً تراجعا، حتى شبّه بعضهم تكيُّف الإنسان برضوخ الضفدع، الذي قيل إنه يهبّ فزِعاً إن ولغ في ماء يغلي، ويطيب له المكوث في ماء اعتيادي تتصاعد حرارته بهدوء؛ إلى أن يهلك فيه.
(المصدر: مدونات الجزيرة)