الضياع الاستراتيجي أو إدمان حكام الإقليم ونخبه على التبعية | د. أبو يعرب المرزوقي
كنت في شبابي وقبل حرب 67 أصدق صوت العرب وهيكل. صدقت أن مصر حليفة للسوفيات دفاعا عن العروبة. وصدقت بالمقابل أن السعودية حليفة لأمريكا ضد السوفيات دفاعا عن الإسلام. كنت أشعر بتناقض ما في الصفين العربيين فالماركسية ضد الدولة القومية. والليبرالية ضد الدولة الدينية.
كنت أتساءل عن الغاية من الحلفين في هذه الحالة. ولم أع بدقة أنه في الحقيقة حلف لحسم الصراع بين الصفين العربيين الذي كان لصالح السوفيات والأمريكان وخاصة لصالح حليفتهما الوحيدة أي إسرائيل لأن دورها في الدولتين الكبريين كان أكبر مما كنت قادرا على فهمه في شبابي وهو يزداد نموا الآن وأصبح بينا للجميع.
ذكرت بهذا الأمر. لكنه ليس هو موضوع كلامي اليوم. موضوعي هو دلالة نزول درجة توظيف الأنظمة والنخب العربية إلى ما دون ذلك بكثير. كانت قيادات العرب تدعي التحالف مباشرة مع قطبي العالم. وصار الآن تتحالف مع ذيليهما وتطلب بتوسطهما رضا القطبين. والأسئلة الحارقة أصبحت ما فائدة من يدعي محالفة إيران ومن يدعي محالفة إسرائيل وضد من يحالفانهما؟
هل يوجد عاقل واحد حتى من ذوي العقال يعتقد أن إسرائيل تحالف العرب لأمر قد يفيدهم؟ وهل يوجد عاقل واحد حتى من أصحاب يا حسين يعتقد أن إيران تحالف العرب لأمر قد يفيدهم؟ وهل يوجد من يعتقد أن إسرائيل تحالف من تحالفه منهم ضد غير العرب الآخرين؟ وأن إيران تحالف من تحالفه منهم ضد غير العرب الآخرين؟ من يخدع من ؟ وإلام وصلنا ؟
ولأنس الآن حلف بعض العرب مع الذيل الإيراني وحلف بعضهم الآخر مع الذيل الإسرائيلي لأن هذين كلاهما يستند إلى القطبين اللذين كانت الأنظمة العربية تدعي في القرن الماضي الحلف معهما مباشرة ولأمر إلى ما هو أدهى وأمر. فكما أن الحليف نزل إلى درجة الذيل فإن الحلف نزل إلى ما دون ما يظن دولا لأنه صار فيها مع أقوام أو طوائف من الشعب.
ففي كل دولة عربية -وهي محمية وليست دولة- تجد من جماعات إما اثنية أو دينية متحالفة إما مع إسرائيل أو مع إيران ضد بقية الشعب وضد “الدولة” وغالبا ما تكون الجماعات الاثنية حليفة لإسرائيل أو موظفة منها ضد بقية الشعب والجماعات الدينية أو الطائفية متحالفة مع إيران أو موظفة منها ضد بقية الشعب. وإذن فنحن أمام مستويين من الحرب الأهلية:
- بين الأقطار بحسب الحلف المزعوم مع الذيلين ومن وراءهما أي القطبين.
- داخل كل قطر مع الذيلين ومن وراءهما.
فيكون لكل من إيران وإسرئيل وجودان في كل قطر من أقطار الإقليم في هذه المحاولة فيها جميعا شعبيا مع تقاسم الأنظمة كما هو بين للبصر والبصيرة. ولما كان المستوى الثاني لا يخفى على الأنظمة وكان هذا المستوى أخطر من المستوى الأول فإن معركة الأنظمة التي تدعي الحلف مع إسرائيل ليست معركة مع إيران ومعركة الأنظمة التي تدعي الحلف مع إيران ليست معركة مع إسرائيل بل المعركتان داخليتان وكلا النوعين من الأنظمة يستعين على شعبه بمن يسميه حليفا.
ومن ثم فالمستفيد مما يسمى حلفا هو من مصلحته أن يؤجج الحرب الأهلية في كل قطر حتى يبتلع ما يريد ابتلاعه منه ومن الإقليم الذي يصبح أوهن من بيت العنكبوت لأنه مخترق مرتين قوميا وطائفيا.
ولذلك فاستراتيجية إيران واسرائيل واحدة وهي استغلال القوميات (إسرائيل) والطائفية (إيران) لحسم المعركة مع كل شعوب الأقليم واسترداد ما يعتبرانه حقهما أخذه منهم الإسلام سابقا. وبهذا المعنى أفهم علة وحدة الاستراتيجية بين إيران وإسرائيل ومن وراءهما. فإسرائيل وأمريكا تخوفان العرب بإيران وروسيا. وإيران وروسيا تخوفان العرب بإسرائيل وأمريكا. وهذا بين للعيان وهو ما به يعلل أحد الصفين تبعيته العمياء لإيران والثاني تبعيته العمياء لإسرائيل. والعلة الحقيقية مخفية.
ولم تفضح هذه الاستراتيجية إلا حركة الشعوب التي بدأت بما يسمى الربيع العربي ومعها محاولات تركيا استرجاع ذاتها ودورها في الأقليم. فما هو مهدد أو ما صار رهان الحرب الأهلية هو حركة التحرر الشعبية وحركة الاستئناف الإسلامية أو ما يسمونه الإسلام السياسي الذي يكفره كلا الصفين وحماتهما ويحاربانه.
وطبعا لا ينبغي أن نكون سذجا فنصدق أن مشكلهم هو مع الإسلام من حيث هو عبادات وإلا لما كانوا يسعون إلى إغراق الشعوب فيها وفي الوثنية الشيعية والصوفية وفي استسلام الجامية الدينية والجامية العلمانية للاستبداد القبلي والعكسري في الإقليم بل هو مع السياسي من الإسلام أي الحرية والعزة والدور. وقد أفهم الأنظمة بسبب همهم أي كراسيهم واستبدادهم وفسادهم. لكني لم أستطع إلى الآن فهم مسألتين:
- كيف للنخب التي تدعي القومية العربية سواء كانت بعثية أو ناصرية ألا تفهم خطة إيران التي هي أكثر ضررا بالعروبة من إسرائيل لأنها تنزع روحهم ولا تكتفي بأرضهم؟
- وأكثر من ذلك تحييرا موقف اسلاميي غزة وخاصة حماس لأن الجهاد أعلم أن هواها إيراني وشيعي. كيف يمكن أن تجعل قضية فلسطين مجرد ورقة في استراتيجية إيران وإسرائيل.
وهب أن إيران خدعتهم بالشعارات ألا يفهمون أن إسرائيل هي صاحبة المصلحة الأكبر في بقاء الانقسام الفلسطيني وما تسميه إرهابا. هل يوجد من له ذرة من عقل يعتقد أن القضاء على مقاومة غزة يعجز إسرائيل لو كانت استراتيجيتها تقتضي ذلك ورأت فيه أكثر منفعة لمشروعها واستراتيجية ابتلاع كامل فلسطين لأن ما حققته بعد أوسلو يتجاوز مئات المرات ما حققته قبلها مثلما أن ما حققته بعد 67 يبين أن عنتريات عبد الناصر كانت لفائدتها.
ذلك أن السوفيات كانوا في الظاهر حلفاءه لكنهم في الحقيقة من جنس ما تبدو عليه إيران الآن مع المقاومة الفلسطينية وحتى الممانعة الإيرانية. الروس أكثر حرصا على مناعة إسرائيل حتى من أمريكا لكن العرب حمقى ولا يفهمون أن قوة بوتين علتها مافيات روسيا والكل يعلم بيد من هي.
ولهذا كتبت التغريدة التي نشرها الصديق الشنقيطي والتي حركت سواكن الكثير من شباب الأمة ومفكريها الذين بدأوا يدركون أن الإسلام ليس عربيا كما يزعم أكبر خونته حاليا أي العرب بل هو يدين بوجوده بعد الله لخمس أمم تدين هي بدورها للإسلام من حيث منزلتها التاريخية العالمية وهم ركائز الإقليم.
صحيح أن حمل رسالة الإسلام بدأ عربيا. لكن الرسالة لو بقيت عربية فحسب لما استطاع العرب أن يحرروا الأقليم من الاستعمارين الفارسي والبيزنطي. من حرر الأقليم هو أبناؤه بعد أن فهموا أن الرسالة الخاتمة تتخلص في ما قاله رسول الفتح للفرس: جئنا لنحرركم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وطبعا لا يمكن لمن يقول للشعوب التي يخاطبها بهذا المنطق أن يكون مستعمرا وإلا لكان مصحوبا بـ”يكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا” إن آمنتم بالتحرر من عبادة العباد بعبادة رب العباد. فشتان بين هجوم المغول على العالم وفتح الإسلام. فلتقارن الإسلام في البلقان والغزو الأوروبي لأمريكا.
لهذا خاطبت العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ والأفارقة. لا تتخيلوا الغرب الذي يحيي فيكم النعرات العرقية والطائفية يفعل ذلك محبة فيكم أو في الأعراق والطوائف وإلا لبدأ بنفسه إذ إن الطوائف والأعراق قضى عليها عنده ويريد نكوصنا إليها ليس بمعناها آيات كما نراها بل مشاريع حرب أهلية.
جملة واحدة لشرح ما قلته عن شعوب الإقليم الخمسة الذين تستهدفهم سايكس بيكو الثانية والذين دخلوا التاريخ الكوني بوصفهم شعوبا فاعلة ومستقلة -العرب والأكراد والأتراك والأمازيغ والأفارقة- كانوا خاضعين لروما وفارس ثم فارس وبيزنطة والإسلام حررهم فصاروا قادة للعالم لمدة عشرة قرون. هذا قصدي.
والرهان الحالي هو منعهم من أن يستأنفوا دورهم ويراد لهم أن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام شعوبا تتناحر وتتقاتل حتى لا تكون أمة حرة متعالية على صراع العرقيات والثقافات وساعية لدور في النظام العالمي الجديد. ذلك هو الهدف من الحرب على الإسلام: حرب على حرية هذه الشعوب وسيادتها.
(المصدر: موقع تدوينات)