مقالات

الضوابط الفقهية للنظر في المستجدات والنوازل المعاصرة

الضوابط الفقهية للنظر في المستجدات والنوازل المعاصرة

مقالات شرعية – أحمد خالد الطحان

إن معرفة أحكام النوازل أو القضايا المعاصرة ضرورة شرعية، تستلزم بحثًا علميًّا منهجيًّا، ذلك لأن أفعال المكلفين تختلف باختلاف الزمان والمكان والعرف المُتَّبع، وتدور عليها الأحكام الشرعية من حِل وحُرمة، وندب وكراهة واستحباب. واختلاف أفعال المكلفين يستجد أفعالاً لم يكن للناس بها عهد قبل ذلك في كثير من نواحي الحياة، من مسائل العبادات والمعاملات…إلخ، وهي ما تعرف بالنوازل أو القضايا المعاصرة. ويمكن أن نلخص أهم ضوابط النظر في القضايا المستجدة والنوازل المعاصرة فيما يلي:

1-  تحديد القضية:

بمعنى أن تكون من القضايا الاجتهادية التي تتبع الأحكام المتغيرة، ولم يرد فيها نص شرعي، ولأنه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص [1]، إذ إن الحكم الشرعي حاصل بالنص فلا حاجة لبذل الوسع في تحصيله، ولأن الاجتهاد ظني والحاصل به حاصل بظني، بخلاف الحاصل بالنص فإنه يقيني ولا يترك اليقيني للظني، فلا يجوز بحال الإعراض عن الأحكام الثابتة واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير فإذا وجد النص بطل الاجتهاد كالتيمم في حضور الماء[2]، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ﴾ [الأحزاب: 36].

أما إذا عُدم النص فيمكن حينئذٍ الاعتماد على أقوال أهل العلم من كتب الفقه المعتمدة في المذاهب الفقهية؛ والتي تؤصل المسائل الفرعية وترجعها إلى أصولها، لأن محل الاجتهاد الفروع وليس الأصول، فيأخذ الفرع حكم الأصل. لأن الأصول إنما هي قواعد الدين وأركان الإسلام التي تعلم من الدين بالضرورة. فالاجتهاد يعتبر مرحلة متأخرة لا يصار إليه إلا عند تخلف الحكم الشرعي واستقراء نصوص الشريعة.

كما أنه يُجتهد في الأحكام لا العقائد، والمتشابه لا المحكم، والمتغير لا الثابت، ذلك أن قواعد الدين وأركان الإسلام التي علمت من الدين بالاضطرار لا سبيل إلى الاجتهاد فيها، فأما ما تفرع عنها من مسائل أو لحقها من نوازل فهي مواطن الاجتهاد، ولو كان الاجتهاد موضوعًا لكل أبواب الدين أصوله وفروعه قواطعه وظنونه لما كان إسلام ولا كفر وحسنة وسيئة، فالكل مجتهد.

قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: “والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن، وإن صح النص من الكتاب والأثر بطل القياس والنظر” [3].

كما يجتهد في القضايا الواقعة بالفعل، فمنهج العلماء وأهل النظر هو الإمساك عن الكلام والخوض فيما لم يقع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره المسائل وعابها [4].

قال الإمام القرطبي رحمه الله: “قال كثير من العلماء: التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعًا وتكلفًا فيما لم ينزل. وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف ويقولون: إذا نزلت النازلة وفق المسئول لها” [5].

فإذا توفرت هذه الأمور في المسألة أو القضية النازلة فيمكن حينئذ للمفتي أو المجتهد بذل وسعه، واستفراغ جهده في الجمع والتوفيق، والبحث والتدليل لاستخراج الحكم الصحيح فيها، بالنظر والإمعان في مصادر الأحكام [6].

2- الإحاطة بالقضية:

إن معظم القضايا المستجدة دخيلة ووافدة على بلاد الإسلام من البلاد والحضارات المختلفة؛ فمثلاً المعاملات المصرفية معظمها وافد إلينا من بلاد الغرب، وكثير من الأدوات والوسائل الحديثة التي يستخدمها المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم؛ كاستخدام البوصلة لتحديد القِبْلة، واستخدام أدوات الفلك في رؤية الهلال لمعرفة أوائل الشهور العربية، واستخدام الأسهم والسندات وحكم الزكاة فيها… وغيرها كثير.

ومن ثم يلزم لدارس هذه القضايا أن يحيط بجوانبها إحاطة شاملة ووافية، فيعرف ظروف نشأتها وتطورها، وجذورها التاريخية والفقهية، والقضايا المشابهة لها في العصور المتقدمة، وآراء أهل العلم فيها، ليفهم المسألة من كل جوانبها، وكما قيل: صحة الفهم نصف الصواب. لذا قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطابه إليه: “… فافهم إذا أدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له… ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق” [7].

ولتمام الإحاطة بالنازلة لابد من مشاورة أهل الاختصاص في توضيح مفهومها ومعرفة خباياها، ومن ثم شرع الله تعالى الشورى وجعلها منهجًا شرعيًّا وهديًا نبويًّا، قال تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران:159]، وقال سبحانه: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى:38].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه رضي الله عنهم كما فعل يوم بدر في الذهاب إلى العير، وشاورهم في أحد أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة [8].

وكانت المشاورة في النوازل سنة الخلفاء الراشدين كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال المرتدين، وكما فعل عمر لما وقع طاعون عمواس… إلخ.

فلابد للمجتهد أن يحيط بالنازلة إحاطة تامة من شتى النواحي ليتمكن من فهمها فهمًا دقيقًا، ومن ثم يحكم عليها حكمًا سليمًا يشمل جوانبها المختلفة دون خلل أو خطأ. أو مخالفة لأصول الكتاب والسنة وما اتفق عليه علماء الأمة.

3- التصور الفقهي للقضية:

التصور الفقهي هو حصول صورة الشيء في العقل، وإدراك الماهية من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات [9].

وعرفه الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله: “هو العلم بالموضوع على ما هو عليه” [10].

فالمقصود بالتصور الفقهي: إدراك القضية وفهمها فهمًا شاملاً، ومعرفة الأصل الذي تنتمي إليه لإثبات الحكم الشرعي.

فالحكم على الشيء فرع عن تصوره[11] وعلى ضوء هذا التصور يخرج الحكم فإن كان تصورًا صحيحًا صح معه الحكم وإلا كان فاسدًا.

لذا يمكن أن يقال: إن التصور الفقهي هو الإدراك التام للنازلة وإلحاقها بأصلها المعتبر. ومن ثم فالتصور الفقهي يتضمن مرحلتين أساسيتين:

الأولى: الفهم الكامل والإحاطة التامة بالنازلة من جميع جهاتها.

الثانية: إدراجها تحت أصلها الشرعي الذي تنتمي إليه [12].

ويطلق بعض العلماء على التصور الفقهي اسم التكييف الفقهي ويقصدون به: التصور الكامل للنازلة وتحرير الأصل الذي تنتمي إليه [13].

ولهذا التكييف أو التصور الفقهي بعض الضوابط التي يجب مراعاتها، وخاصة أن النوازل المعاصرة متميزة بحداثتها وعدم وجود سوابق فقهية لها كما تمتاز بالتعقيد والتشابك، ومن أهم هذه الضوابط:

أ) أن يكون التصور الفقهي مبنياً على نظر صحيح معتبر لأصول التشريع:

فالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح وما أخذ منهما من أصول عامة أو قواعد فقهية أو مقاصد شرعية، كل ذلك أساس وبنية متينة للتصور الصحيح، وتحديد الأصل الذي تنتمي إليه النازلة والقضية. وليست خصائص الشريعة كالشمولية والسهولة والمرونة أصلاً ترد إليه أحكام النوازل، وليست المعاني السامية والصفات الجليلة التي تمتاز بها هذه الشريعة أساسًا تحكم بها القضايا وتوجه بها الأحكام [14].

يقول الإمام ابن عبد البر رحمه الله : إن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى أصل، وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثًا فتدبره [15].

ب) بذل الوسع في تصور الواقعة التصور الصحيح والكامل:

فلا بد من فهم المسألة وتصورها التصور الصحيح ومعرفة أصولها وفروعها.

وقد نبه القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله على بعض هذه الثغرات في النظر في الوقائع والتي مرجعها يعود إلى نقص في التصور والنظر، فقال رحمه الله : “اعلموا أن الخطأ يدخل على الناظر من وجهين: أحدهما: أن ينظر في شبهة ليست بدليل فلا يصل إلى العلم، والآخر: أن ينظر نظرًا فاسدًا، وفساد النظر يكون بوجوه منها: أن لا يستوفيه، ولا يستكمله، وإن كان نظرًا في دليل.

ومنها: أن يعدل عن الترتيب الصحيح في نظره فيقدم ما حقه أن يؤخره، ويؤخر ما حقه أن يقدمه”..[16].

ومما يدخل في التصور الكامل للنازلة الرجوع إلى أهل الاستشارة والاختصاص العلمي وخاصة إذا كانت النازلة لها علاقة ببعض العلوم الطبيعية أو التجريبية فلابد من معرفة مصطلحات هذه العلوم وما كان على شاكلتها من النوازل الطبية والاقتصادية وغيرها من العلوم الحديثة.

ج) أن يكون التصور صادرًا من أهله:

فمجرد العلم والحفظ للمسائل وإتقانها بأدلتها ومواطن الخلاف فيها ليست كافية للنظر في النوازل والمستجدات وإن كانت شرطًا مهمًا في الاجتهاد. لكن لا بد من تحصيل القدرة على القياس والإلحاق والربط بين الفرع وأصله، والنظير بنظيره. وهي مرتبة لا تتسنى لكل عالم ولا يبلغها كل طالب فالحفظ للمسائل لا يعني القدرة على الاجتهاد والنظر.

يقول الإمام السيوطي رحمه الله : “قال الغزالي في كتابه “حقيقة القولين”: وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه بل الذكي ربما قدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه ولم تخطر بقلبه تلك الصور أصلاً وإنما ذلك شأن المجتهدين” [17].

لذا كان تحصيل المجتهد للملكة الفقهية التي تعينه في استحضار المسائل وإلحاقها بأصولها وعدم خلط بعضها ببعض ضابط مهم ينبغي للفقيه النوازلي الذي ينظر في المستجدات المعاصرة أن يراعيه ويسعى جاهدًا لتحصيله [18].

فالتصور يساعد الباحث على استيعاب القضية بما تتضمنه من إشكالات، فيعرف أوجهها الصحيحة، ونظائرها القريبة، فيلحق الفرع بالأصل، ويبني تطبيقاته على أسس علمية، فيأتي حكمه فيها صحيحًا ونظره سليمًا.

د) النظر في مقاصد الشريعة:

إن معرفة الحِكم والغايات، والأسرار التشريعية التي وضعت الشريعة من أجلها هي حقيقة علم مقاصد الشريعة، فالمقاصد تعبر عن روح الأحكام، وتبين الغايات والمآلات التي من أجلها شرعت هذه الأحكام.

وللمقاصد ضوابط مهمة هي “بمثابة الحدود التي لا يصح للمجتهد تجاوزها وتخطيها، ومعرفتها والقدرة على إنزالها منازلها يقي المجتهد من الوقوع في الإفراط أو التفريط في فهم النصوص الشرعية، والتمييز بين ما تتأتى فيه المصلحة، وما هو موافق للكليات والقواعد الشرعية وبين ما هو مخالف لها” [19].

فمقاصد الشريعة ليست دليلاً مستقلاًّ بذاته، بل هي مستفادة من النصوص الشرعية. هذه النصوص التي مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. لذا فالنظر في المقاصد أمر ضروري، ومطلب حيوي في معرفة النوازل والمستجدات. فهي تمكن المفتي أو المجتهد من وضع القضايا في مواضعها الصحيحة، مراعيًّا جلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبار مآلات الأفعال وقصودها في الواقع العملي؛ ومن ثم التعامل معها بالفهم الواعي، والإدراك الصحيح دون ضرر أو إفساد.

كانت هذه أهم ضوابط النظر في القضايا المستجدة (النوازل) ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر: موقع شبكة الألوكة.

—————————————————————————————————-

[1] ينظر: شرح القواعد الفقهية للزرقا (ص147)، الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو (ص330).

[2] ينظر: المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص207).

[3] ينظر: جامع البيان (2/894).

[4] أخرجه: البخاري في كتاب الطلاق، باب من جوَّز الطلاق الثلاث رقم (5259)، ومسلم في كتاب اللعان رقم (1492).

[5] الجامع لأحكام القرآن (6 /214)، المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص211).

[6] ينظر: المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص206 وما بعدها).

[7] ينظر: إعلام الموقعين) 1 /85-86(.

[8] ينظر: تفسير القرآن العظيم (2 /128(.

[9] ينظر: التعريفات (ص83).

[10] ينظر: الموافقات (5 /128).

[11] ينظر: شرح الكوكب المنير (1 /50).

[12] ينظر: المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص268).

[13] ينظر: منهج استنباط أحكام النوازل (ص354).

[14] ينظر: المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص277).

[15] ينظر: جامع بيان العلم وفضله (2 /848).

[16] ينظر: التقريب والإرشاد (الصغير) (1 /219) مؤسسة الرسالة، منهج استنباط أحكام النوازل (ص366).

[17] ينظر: الرد إلى من أخلد إلى الأرض (ص181).

[18] ينظر: منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة (ص369).

[19] ينظر: المنهج في استنباط أحكام النوازل (ص275).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى