بقلم د. نايف بن جمعان الجريدان.
وضع الإسلام جملة من الضوابط لضمان جعل السوق ميدانا للتنافس الحر الشريف، تزدهر فيه التجارة، ويجد الناس فيه ما يحتاجون إليه بعيدا عن التلاعب في السلع من حيث الجودة والرداءة والسعر العالي، وبعيدا عن الربا والاحتكار[1].
ومن هذه الضوابط[2]:
الضابط الأول: تحريم تلقي السلع خارج السوق
وفي ذلك تقليل للوساطة بين المنتج والمستهلك، حتى لا تتحمل السلعة زيادة في النفقات بزيادة الأيدي التي تتداولها. وقد ورد النهي عن ذلك في أحاديث كثيرة، منها:
1. حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد. قال: فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لباد قال لا يكن له سمسارا”[3].
2. وعنه –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد”[4].
3. وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تلقوا الركبان، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا، ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين، بعد أن يحتلبها إن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر”[5].
الضابط الثاني: تحريم النجش
والنجش هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها، ليقع غيره عليها، وسمي النجش بذلك لأنه يثير الرغبة في السلعة، ويقع ذلك بمواطأة البائع[6].
فحرم الأسلام النجش لما فيه من الغش والغبن والخديعة بالمشتري، وترك النصيحة له. فالناجش عاص لله تعالى، وإذا وقع مواطأة واتفاق مع صاحب السلعة فإن الإثم يكون مشتركا بينهما[7].
الضابط الثالث: مراقبة الأسعار
وبمراقبة الأسعار نضمن صلاح السوق وتفاعلها بما يحقق الصالح العام، ويقوم بهذا الدور ما يعرف في الفقه الإسلامي بالمحتسب، وضمن مهامه مراقبة الأسعار والحيلولة دون ارتفاع الأسعار فوق سعر المثل، وتعين سعر لها وفرضه على التجار إن دعت الحاجة إلى ذلك، وتقوم وزارات التجارة في مختلف البلدان في عصرنا الحاضر بهذا الدور.
وهذا هو التسعير الذي يكون عند خروج التجار بالسلع عن أسعارها العادلة، التي يحددها العرض والطلب، فيؤخذ على أيديهم ويلزمون بسعر مثل من غير إضرار بجانب[8].
والتسعير جائز يدل لذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعر لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله هو المُسعر، القابض، الباسط، الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال”[9]. وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من التسعير وجعله مظلمة يرجو ألا يلقى الله بها.
الضابط الثالث: ضبط الموازين والمقاييس والمكاييل
اهتم الإسلام اهتماما بالغا بنظام الموازين والمكاييل والمقاييس، تمثل هذا الاهتمام في ضبط وحداته والتدقيق في تحديد مقاديره تحديدا علميا دقيقا، وسبب هذا التدقيق هو أن وحدات الكيل والوزن تؤدى بها حقوق الله، وحدود العباد كالكفارات ، والنذور، والزكاة، والخراج.
وقد أمر الله سبحانه الوفاء بالكيل والميزان، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }[10].
الضابط الرابع: محاربة الاحتكار
والاحتكار هو شراء شيء وحبسه ليقل فيغلو ومن الفقهاء من خصه بالقوت، وبعضهم جعله شاملا للأقوات وغيرها، وهذا المعنى يناسب عصرنا ، فكل سلعة أو منفعة يسبب حبسها ضررا بالناس يشملها الاحتكار، قال القاضي أبو يوسف رحمه الله: “كل ما ضر الناس حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو ثيابا”[11].
وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن الاحتكار منها حديث سيعد بن المسيب عن معمر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحتكر إلا خاطئ”[12].
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
—————————–
المراجع:
[1] ينظر: النظام الاقتصادي في الإسلام، أحمد العسال، وفتحي عبد الكريم، ص 175.
[2] ينظر: النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، إبراهيم نور، ص 160-163.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب البيوع، باب باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه ، 3/72، رقم 2158 ، مسلم في صحيحه، في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، 3/1157، رقم 1521.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، المرجع السابق، في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل، والبقر والغنم وكل محفلة، 3/71، رقم 2150.
[5]أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل، والبقر والغنم وكل محفلة، 3/71، رقم 2150، ومسلم في صحيحه، في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه، وتحريم النجش، وتحريم التصرية، 3/1155، رقم 1515.
[6] ينظر: فتح القدير لابن الهمام ، 5/239، الأم للشافعي، 3/80، المغني، لابن قدامة، 4/324.
[7] فتح الباري، لابن حجر، 5/258.
[8] الهداية للمرغيناني، 4/93، نيل الأوطار، للشوكاني، 5/335.
[9] أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب البيوع، باب في التسعير، 3/272، رقم 3451، والترمذي في سننه، في كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير، 3/575، رقم 1314، وابن ماجه في سننه، في كتاب البيوع، باب من كره أن يسعر، 2/741، رقم 2200، والإمام أحمد في مسنده 3/286، رقم 14089، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، المرجع السابق 2/153، رقم 2894. المراجع السابقة.
[10] الآية رقم 35، من سورة الإسراء.
[11] الخراج، لأبي يوسف، ص 183.
[12] أخرجه مسلم في صحيحه، المرجع السابق، في كتاب البيوع، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، 3/1238، رقم 1605.
المصدر: الملتقى الفقهي.