الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 6 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
سُبُل تحقيق السلام في الأرض المقدَّسة
يتناول الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، في كتاب We Can Have Peace in the Holy Land: A Plan that Will Work-يمكننا تحقيق السلام في الأرض المقدَّسة: خطَّة ستنجح (2009) جهوده الرامية إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط، مع الإشارة إلى أهم الجهات الفاعلة، وإلى تدخُّلاته الشخصيَّة لحلِّ النزاع الدائر بين العرب وإسرائيل، مع تبيان أسباب فشل جهوده في هذا السياق. يعتقد كارتر أنَّ من أسباب عجزه عن تحقيق تقدُّم ملموس في حلِّ قضيَّة الأرض المقدَّسة ردود الفعل السلبيَّة للمجتمع اليهودي داخل أمريكا تجاه جهوده، مضيفًا أنَّ الإعلام انتقائي في تناوُله قضيَّة معاناة الفلسطينيِّين.
مع كلِّ ما يبديه كارتر من دعم للفلسطينيِّين، يرى الرئيس الأسبق أنَّ هناك ثلاثة شروط أساسيَّة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط: 1-اعتراف الدول العربيَّة المجاورة لإسرائيل بسيادتها وحقِّها في البقاء في سلام؛ و2-بناء حدِّ دائم لدولة إسرائيل؛ و3-ضرورة أن يتخلَّى الفلسطينيُّون عن زعمهم بعدم أحقيَّة إسرائيل في البقاء (ص23-25). وبرغم ذلك، فهو يرى أنَّ المستوطنات الإسرائيليَّة في الأراضي المحتلَّة “غير قانونيَّة وعقبة في طريق السلام” (ص23)، معتبرًا أنَّ نقاط التفتيش والجدار العازل من أكبر عوائق تنفيذ اتفاقيَّات السلام. ينصح كارتر بحلِّ الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، منتقدًا تقاعُس الطرفين عن اتِّخاذ قرارات جريئة في هذا الصدد. لا يختصُّ كارتر الصراع بين-الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس وحده بالنقد، إنَّما انتقد كذلك الصراع بين الكتل السياسيَّة في إسرائيل، وكذلك المجتمع اليهودي في أمريكا.
يؤرِّخ كارتر الأحداث منذ زمن أب الأنبياء إبراهيم، أو أبراهام العبراني، وحتَّى وقتنا الراهن، ويتناول الأحداث في إطار ديني، نابع من دراسته العميقة للكتاب المقدَّس. غير أنَّه عجز عن تحرير قول فصل بشأن الصراع على المسجد الأقصى، أو جبل الهيكل وفق المسمَّى اليهودي. بالإشارة إلى مقترحات كارتر لإنهاء الصراع في الأرض المقدَّسة، وبعد تفصيل دور الصهيونيَّة المسيحيَّة في ترسيخ أحقيَّة اليهود في الأرض المقدَّسة، تنبغي الإشارة إلى دور الحملات التبشيريَّة البروتستانتيَّة في تشويه صورة الإسلام، بما يعزز الهيمنة الاستعماريَّة على العالم الإسلامي.
تساؤلات ختاميَّة
1.بعد اعتراف الرَّئيس الأمريكي دونالد ترامب، المنتهية ولايته في يناير من عام 2021م، بالقُدس عاصمة أبديَّة وموحَّدة لدولة اليهود في 6 ديسمبر 2017م؛ واعترافه كذلك بالسّيادة الإسرائيليَّة على مرتفعات الجولان، الخاضعة للاحتلال الصُّهيوني منذ حرب الأيَّام السّتَّة (يونيو 1967م)، في 25 مارس 2019م؛ وإقراره بأحقيَّة الاحتلال الإسرائيلي في تأسيس مستوطنات في الضفَّة الغربيَّة لنهر الأردن في نوفمبر 2019م؛ ثمَّ إعلانه في 28 يناير 2020م عن خطَّته للسَّلام في الشَّرق الأوسط، المعروفة إعلاميًّا باسم “صفقة القرن”، الَّتي قضت بسطت النُّفوذ الإسرائيلي على تبقَّى من أرض فلسطين التَّاريخيَّة وقضت على فكرة تأسيس دولة فلسطينيَّة إلى جانب دولة الاحتلال، هل أدَّى ترامب بذلك مهمَّته؟ وهل تسابُق الدُّول العربيَّة في أواخر أشهر ولايته على التَّطبيع مع إسرائيل يخدم استمراره لولاية ثانية؟ ولماذا يربط البعض بين نجاحه في الانتخابات الرّئاسيَّة بتطبيع المملكة العربيَّة السَّعوديَّة مع إسرائيل، أسوةً بدولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة ومملكة البحرين؟
وإذا كان منظّرو الغرب المتقدّم يعيبون على العالم الإسلامي ميله إلى الاحتكام إلى الشَّريعة الإسلاميَّة ويتشدَّقون بمفهوم فصْل الدّين عن السّياسة وتطبيق نظام علماني، فكيف يُفسَّر تهديد مايك إيفانز، الصُّحافي والكاتب الأمريكي الإنجيلي ومؤسّس متحف أصدقاء صهيون في قلب القُدس، ترامب بأنَّه لن يحصل على دعْم اليمين المسيحي، أو طائفة الإنجيليين، في حال امتنع عن تأييد الاحتلال الإسرائيلي في ضمّ مستوطنات الضَّفَّة الغربيَّة وغور الأردن، أو يهودا والسَّامرة، وفق تصريحه لجريدة إسرائيل هيوم الإسرائيليَّة، ونقل عنها موقع Breaking Israeli News الإسرائيلي بتاريخ 2 يوليو 2020م؟
2. حرِص السنهدرين، أو مجلس حكماء اليهود، ومركز مقداش التَّعليمي في فبراير 2018م على تبجيل ترامب قبيل تنفيذ قراره بنقْل السَّفارة الأمريكيَّة إلى القُدس، في 15 مايو، تزامنًا مع الاحتفال بالعيد الـ 70 لتأسيس إسرائيل، من خلال سكّ عُملة فضيَّة بقيمة نصف شيكل إسرائيلي، نُقش عليها وجها كورش ومعه ترامب. يُذكر أنَّ الإمبراطور الفارسي كورش هو الَّذي أعاد بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة في القرن السَّادس قبل الميلاد بعد سنوات السَّبي البابلي (587-539 ق.م.)، كما أمَر بإعادة بناء الهيكل، كما يخبر العقد القديم “ابْتَدَأُوا مِنَ الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ يُصْعِدُونَ مُحْرَقَاتٍ لِلرَّبِّ، وَهَيْكَلُ الرَّبِّ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَأَسَّسَ. وَأَعْطَوْا فِضَّةً لِلنَّحَّاتِينَ وَالنَّجَّارِينَ، وَمَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَزَيْتًا لِلصِّيدُونِيِّينَ وَالصُّورِيِّينَ لِيَأْتُوا بِخَشَبِ أَرْزٍ مِنْ لُبْنَانَ إِلَى بَحْرِ يَافَا، حَسَبَ إِذْنِ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ لَهُمْ” (سفر عزرا: إصحاح 3، آيتان 6-7).
سبقت الإشارة في المقال “بدعة الإبراهيميَّة: لماذا لا يمكن إقران الإسلام بملَّة أهل الكتاب” إلى ما ذكره موقع مصر العربيَّة بتاريخ 31 أغسطس 2020م، نقلًا عن دراسة نشرها مركز الدّراسات الإسرائيلي “القُدس الدُّنيويَّة”، عن أنَّ اتّفاقيَّة السَّلام المبرمة بين إسرائيل والإمارات تتضمَّن بندًا سريًّا يسمح لليهود بالصَّلاة في “جبل الهيكل”، أي المسجد الأقصى؛ كما سبقت الإشارة إلى تعمُّد التَّلاعب بالمسمَّيات بفصل مصلَّى قبَّة الصَّخرة عن المسجد الأقصى كأنَّه مستقل عنه، وليس أحد مصلَّيات أولى القبلتين. ومن المثير للانتباه أنَّ وفدين من البحرين والإمارات زارا المسجد الأقصى يومي 17 و18 أكتوبر 2020م، على التَّوالي، قاصدين مصلَّى قبَّة الصَّخرة، وقوبل الوفدين بالطَّرد وبوابل من السُّباب من قِبل المصلّين.
ومن المثير للانتباه كذلك أنَّ أحد دعاة التَّطبيع من السَّعوديين قد غرَّد، خلال حملته عبر وسائل التَّواصل الاجتماعي لدفع بلاده لإبرام اتّفاقيَّة للتَّطبيع مع الكيان الصُّهيوني، واعدًا بصلاة قريبة في “مسجد الصَّخرة”، في إشارة إلى مصلَّى قبَّة الصَّخرة وكأنَّه مسجد مستقل عن المسجد الأقصى، في تكرار لما روَّج له الكاتب الصُّهيوني الأمريكي-الإسرائيلي جويل روزنبرغ قد تعمَّد في روايته The Jerusalem Assassin-قاتل القُدس (2020م)، بأن روَّج لأنَّ ما يطلق “جبل الهيكل” يتكوَّن من “قبَّة الصَّخرة والمسجد الأقصى” (ص144).
وكان موقع إسرائيل هايوم قد نشَر قبل أشهر، نقلًا عن موقع الحرَّة بتاريخ 1 يونيو 2020م، عن مفاوضات تجري بين السَّعوديَّة وإسرائيل تسعى الأولى من خلالها إلى الحصول على تمثيل لها في صندوق القُدس للأوقاف الإسلاميَّة، في إطار تنفيذ بنود “صفقة القرن”. والسُّؤال: هل في ذلك تمهيد لاستبدال الوصاية الهاشميَّة على المقدَّسات الدّينيَّة في القُدس بوصاية سعوديَّة قد تسمح بصلاة غير المسلمين في أولى القبلتين، بموجب اتّفاقيَّة تطبيع قد تُبرم مستقبلًا؟
وهل لما يروّج له نشطاء سعوديُّون عن أنَّ المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء (الآية 1) موقعه بين مكَّة والطَّائف، وليس بيت المقدس، علاقة بفرض الوصاية السَّعوديَّة على المقدَّسات الدّينيَّة في القُدس؟
3.سبقت الإشارة كذلك في مقال “بدعة الإبراهيميَّة: لماذا لا يمكن إقران الإسلام بملَّة أهل الكتاب” إلى أنَّ القسم الَّذي يضمُّ مصلَّى قبَّة الصَّخرة ومصلَّى باب الرَّحمة المقابل له هو الجزء المستهدف في حال تمرير اتّفاقيَّة تنصُّ على تقسيم المسجد الأقصى، بحجَّة إتاحة الصَّلاة لأصحاب مختلف العقائد الدّينيَّة. وقد حرِص الحاخام ديفيد شلوش، وهو أحد كبار حاخامات جماعات الهيكل، على إلقاء درس على طلَّاب المدرسة التَّوراتيَّة “يشيفات هار هبيت” في زاوية باب الرَّحمة، في 18 أكتوبر 2020م.
وصاحَب ذلك ممارسة أحد الحاخامات شعيرة يهوديَّة من شأنها التَّعجيل بقدوم المخلّص، بأن نَفَخ الحاخام يهودا غليك في البوق في مقبرة باب الرَّحمة، بالقرب من قبر الصَّحابي الجليل شدَّاد بن أوس (رضي الله عنه وأرضاه)، في نفس اليوم.
والسُّؤال: هل حان وقت تدشين الهيكل الثَّالث من داخل حرم المسجد الأقصى، بمباركة خليجيَّة، تنفيذًا لمخطَّط صهيوني يتزعَّمه “وريث كورش” دونالد ترامب؟ هل يتحقَّق بذلك ما تنبَّأ به الشَّيخ الدُّكتور سفر الحوالي، أستاذ العقيدة والأديان والمذاهب المعاصرة في الجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة سابقًا، في كتابه المسلمون والحضارة الغربيَّة (2018م)، الَّذي اعتقلته السُّلطات السَّعوديَّة بسببه مع أبنائه وأخيه منذ يوليو 2018م، حينما أثار مسألة الابتزاز الأمريكي، لتقل الصُّهيوني، للعرب بعد أن “بدأ التَّطبيع العلني مع اليهود، وشعاره أعطنا ما نريد لكي نعطيك فوق ما تريد“، متسائلًا عن هويَّة الدَّولة الخليجيَّة الَّتي ستتكفَّل ببناء الهيكل بقوله “وما بقي إلَّا تكلفة بناء الهيكل فهل تبنيه الإمارات مثلًا؟ تلك الإمارات الَّتي تشتري البيوت من المقدسيين وتعطيها لليهود، أم تبنيه السَّعوديَّة وتحفر القناة بين البحر الأبيض وخليج العقبة لينجح مشروع (نيوم)” (ص2797)؟
4. تبيَّن من خلال تتبُّع أصل الفكر المحرِّك للسياسة الأمريكيَّة أنَّ الفكر الصهيوني المسيحي، وبخاصَّة عقيدة التدبيريَّة الإلهيَّة، من أهم المؤثِّرات. كان الاتِّجاه العلماني من أسباب عدم إعادة انتخاب الرئيس جيمي كارتر، بينما كان التودُّد إلى اليمين المسيحي سرُّ نجاح منافسه، رونالد ريجان، في السباق الرئاسي لعام 1980م، واحتفاظه بالرئاسة لفترة ثانية. تفرَّغ كارتر لمهام التبشير بعد ترك الرئاسة، وكأنَّما أراد تكليل جهوده السياسيَّة، التي سارت في اتجِّاه تأسيس مملكة الربِّ على الأرض المقدَّسة، بجهود دينيَّة تستهدف نشر المسيحيَّة، استعدادًا لاستقبال المخلِّص. لم يخفِ الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دابليو بوش، في إعلانه “الحرب على الإرهاب” في مقرِّ الكاتدرائيَّة الوطنيَّة، أنَّ حربه بمثابة “حرب صليبيَّة”، داعمًا خطابه بعبارات مستمدَّة من الكتاب المقدَّس لتقوية حُجَّته. والسؤال: إذا كان من إعلاميي ومفكِّري الغرب مَن كذَّب رواية الإدارة الأمريكيَّة بشأن تورُّط مسلمين في أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، بل وساق من الأدلَّة ما يبرهن على خلاف ذلك، فمَن الفاعل الحقيقي والمنتفع الأكبر؟ وإذا كانت الحرب الأمريكيَّة-البريطانيَّة على العراق عام 2003 ميلاديًّا، التي برَّرتها “معلومات استخباراتيَّة خاطئة”، بهدف القضاء على أسلحة دمار أشيع ابتكار نظام صدَّام حسين لها، فلماذا صَاحَب القوَّات المسلَّحة وقتها مبشِّرون زُوِّدها بشتَّى وسائل الإغاثة؟ وإذا كان الإسلام يُنعت بدين الإرهاب بسبب آيات في القرآن الكريم تحرِّض على القتال، منها الآية 60 في سورة الأنفال “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ”، التي تقصر الإرهاب على ردع الأعداء، فماذا يُقال في اليهوديَّة والمسيحيَّة، وقد ورد في الكتاب المقدَّس “فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا” (سفر صموئيل 1: إصحاح 15، آية 3)؟
(المصدر: رسالة بوست)